التفاسير

< >
عرض

إِذْ قَالَ لأَبِيهِ يٰأَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً
٤٢
يٰأَبَتِ إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ ٱلْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَٱتَّبِعْنِيۤ أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً
٤٣
يٰأَبَتِ لاَ تَعْبُدِ ٱلشَّيْطَانَ إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ عَصِيّاً
٤٤
يٰأَبَتِ إِنِّيۤ أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ ٱلرَّحْمَـٰنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً
٤٥
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي يٰإِبْرَاهِيمُ لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَٱهْجُرْنِي مَلِيّاً
٤٦
-مريم

تيسير التفسير

{ إِذ قال لأَبيه } بدل اشتمال من إبراهيم اعترض بينها بجملة تعليلية، وذلك من خروج إذ على الظرفية كما خرجت عنها بالإضافة إليها فى يومئذ، وحينئذ، أو متعلقة بكان، لأن الصحيح جواز التعليق بكان التى لها خبر، وأنها تدل على الحث، ولو شهر منع ذلك، وقيل متعلق بنبياً، وفيه أنه يلزم أن الله جل وعلا جعله نبياً حين القول لأبيه، ويحاب بأنه يطلق الوقت على ما قبله وما بعده مما يليه، فإذا وقع نبى فى شهر مثلا صح إطلاق أنه وقع فيه، مع أنه وقع فى جزء منه، وكذا البحث والجواب إذا علق بصديقا.
{ يا أبت } التاء عوض عن ياء المتكلم، وأبوه آزر وهو ظاهر القرآن، وقيل هو عمه، ويصح أنه أبوه ظاهر ما رواه أبو نعيم والديلمى، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"حق الوالد على ولده، أن لا يسميه إلا بما يسمى به إبراهيم أباه يا أبت ولا يسميه باسمه" .
{ لم تعْبُد ما لا يسْمَع } ثناءك عليه، ولا صوتك بالخضوع إليه، ولا صوتاً ما من الأصوات { ولا يُبْصر } خضوعك وخشوعك بين يديه ولا شيئا ما من الأشياء { ولا يُغْنِى عنك شيئاً } أى إغناء ما أولا يدفع عنك شيئاً، ولا يفيدك شيئا، والجماد من شأن أن يكون شيئا مطروحاً إلا إذا احتيج أن ينتفع به فعل به بلا احترام له، فكيف يحترم غاية الاحترام، ويعبد وهو دون عابده، مع أن العاقبل المميز القادر على النفع والضر بإذن الله سبحانه، لا يستحق العبادة لأنه محتاج ليس بخالق، ولا رازق، ولا محيى ولا مميت، ولا مثيب ولا معاقب، وذلك حجة عقلية، واحتج بالنقلية فى قوله:
{ يا أبت إنى قد جاءنى مِنْ العِلْم } متعلق بجاء، ومن للابتداء أو حال من ما، ومن للتبعيض من قوله: { ما لم يأتِك } استماله برفق إذا لم يسمه بجاهل ولا نفسه بعالم { فاتبعنى أهدك صراطاً سوياً } مستقيما سهلا، لا يضل سالكه، موصلا إلى أسنى المطالب منجياً من المعاطب، وهو ما أوحى الله إليه من التوحيد والعمل بما يجب، وترك ما يحرم والوعد والوعيد، وإن كان ذلك قبل الوحى إليه صح أيضا، لأنه على دين الله قبله أيضا، ثم حذره بأن عبادة الأصنام التى تعبدها عبادة للشيطان لأمره بها، وهو عدو لله الذى منه النعم كلها، المسمى الرحمن أى المنعم، أفلا تخاف أن يسلبها عنك فقال:
{ يا أبت لا تعبد الشيطان إن الشيطان كان للرحمن عصياً } فعيل للمبالغة أو مفعول أدغمت واوه فى يائه، وكسر عاقبلها، وأراد عصيان على الإطلاق، أو عصيانه بترك السجود لآدم تذكيراً له بعداوة أبيه، فيجتنب مصادقة من هو عدو لأبيه، كما رسم فى القلوب، ثم صرح له بالتحذير من أن يعاقبه الله على مصادقة عدوه وقال:
{ يا أبت إِنِّى أخافُ أن يمسك عذاب من الرَّحمن فتكون للشيطان ولياً } والخوف هنا العلم، عبر به مجاملة له، واستنزالا أو على ظاهره إذ لا جزم بأنه يصيبه عذاب الدنيا، ولا بأن يصيبه عذاب الآخرة لإمكان أن يؤمن، ونكر العذاب للتعظيم، أو للتقليل تلويحاً بأنه لا طاقة له على قليل منه، وذكر الرحمن مع أن الرحمن تستدعى عدم العذاب، لأنه المذكور قبل، وللاطماع بأن الرحمة باقية له على كل حال ما لم يمت مصراً، ولأن العقوبة من الكريم أشد، لأن فيها اعتبار جحود نعمة، وإلغائها وللإشارة بأن كونه رجيماً لا يؤمن المكر من العذاب وإلى أن العذاب ليس انتقاماً لشىء ضرى إذ لا يضرى شىء، بل حكمة، وبأن الرحمة سبقت الغضب، ولا دلالة للمس على تقليل العذاب لقوله تعالى:
" { لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم } " [النور: 14] ومعنى كونه ولياً للشيطان أنهما يقرنان فى فى العذاب، وفى هذا تغليظ عليه بعد ما ألان وهو من نفس الرحمة، لأن المراد انزجاره عما يضر إلى ما ينفع قال بعض:

فقسا ليزدجروا ومن يك حازماً فليقس أحياناً على من يرحم

وفى قوله: { لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغنى عنك شيئا } حجة عقلية، وفى قوله: يا { أبت } تحبب وترغيب فى التوحيد، وتمهيد للانتباه، بنهمه أولا على ما يمنع من عبادة الأصنام، ثم أمره باتباعه فى الإيمان، ثم بأن طاعة الشيطان غير جائزة فى العقول، وختم الكلام بالوعيد الزاجر، وكأنه قيل: فما حال أبيه بعد ذلك الوعظ العظيم الطويل، فقال الله جل وعلا:
{ قال } أبوه مصراً مقابلاً لاستعطافه بالغلظة { أراغب أنت عن آلهتى يا إبراهيم } راغب مبتدأ، وأنت فاعله أغنى عن خبره لتقدم الاستفهام، وهو هنا توبيخى تعجبى، وعن آلهتى متعلق براغب. ولا يضر الفصل بأنت، لأنه فاعل كما يفصل الفاعل الفصل عن المفعول، وهو الأصل، ولو أغنى عن الخبر، أو راغب خبر، وأنت مبتدأ. لا يضر فصل أنت. لأن راغب فى رتبة التأخير عن أنت، والأصل أأنت راغب عن آلهتى، ومن التخليط تقدير لفظى راغب آخر بعد أنت، يفسره المذكور تحرزاً عن هذا الفصل، بل المبتدأ ليس أجنبياً من الخبر من كل وجه، ولا سيما أن المفصول الجار والمجرور، وهم يتوسعون فيهما وفى سائر الظروف، وليس فى جعل أنت مبتدأ إلباس بالفاعل بل اللفظ إجمال إذ فى كل وجه خلاف الأصل الرفع بالوصف لما يغنى عن الخبر، خلاف الأصل وكونه خبرا مقدما خلاف الأصل بخلاف قام زيد لو جعل خبراً مقدماً، فإنه إلباس بالفاعل، وعلى كل حال جعل راغب تالياً للهمزة، لأن محط التوبيخ والتعجب بالذات الرغبة عن الآلهة، وراغب للحال أو للماضى المستمر.
{ لئن لم تنته } عن الرغبة عن آلهة، وعن النهى عن عبادتها، وعن الدعوة إلى ما دعوتنى إليه، أقسم بآلهته لا بالله، لأنه لم يؤمن إلا إن آمن به وعبد غيره { لأرجمنك } بالحجارة عند الحسن، وبشتم اللسان عند ابن عباس والسدى والضحاك وابن جريج، { واهجرنى } عطف على { لأرجمنك } عطف إنشاء على إخبار، أجاز سيبويه ذلك وعكسه، وفى ذلك جعل جواب القسم غير الاستعطافى إنشاء، وهو لا يجوز والمعطوف على الجواب جواب، أو العطف على محذوف تقديره احذرنى واهجرنى.
{ مَلياً } زماناً طويلا عند الحسن ومجاهد، وجماعة ورواية عن ابن وأبداً عند السدى، وكأنه تفسير بالمراد وهو منصوب على الظرفية كما رأيت، أو مفعول مطلق أى هجراً ملياً أى طويلا، وعن ابن عباس: ملياً سالماً قادراً على الذهاب قبل أن أثخنك بالضرب، فلا تطيق التنقل فهو حال.