التفاسير

< >
عرض

وَأَتِمُّواْ ٱلْحَجَّ وَٱلْعُمْرَةَ للَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بِٱلْعُمْرَةِ إِلَى ٱلْحَجِّ فَمَا ٱسْتَيْسَرَ مِنَ ٱلْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذٰلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٩٦
-البقرة

تيسير التفسير

{ وَأَتِمُّواْ الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ } وائتوا بها تامين بشروطهما وأركانهما لا تقطعوهما ولا تكدروهما بشىء، والأمر للوجوب، فهما واجبان ذاتا وتماما، وإن قرىء برفع العمرة فالمعنى والعمرة لله على وجه الوجوب، والعمرة واجبة لله وبدل للوجوب أيضاً، وأتموا الحج والعمرة لله، والقائل بعدم وجوبها يقول الآية أمر بإتمامها بعد الدخول فيها، وكل نفل يحب إتمامه بعد الدخول فيه صحيحاً، فالحج واجب لقوله تعالى: " { ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ الْبَيْتِ } "[آل عمران: 97]، كالصيام وجب بقوله تعالى، كتب عليكم الصيام، وأتموا الصيام إلى الليل، أمر بإتمامه، والعمرة نفل لما روى أنه صلى الله عليه وسلم قيل له: "العمرة واجبة يا رسول الله؟ قال: لا ولكن أن تعتمر خير لك" ، كما روى عنه صلى الله عليه وسلم، "الحج جهاد والعمرة تطوع" ، فالحديث بيان للآية لا نسخ، فضلا عن أن يقال الحديث لا ينسخ القرآن، فأقول نسخ هذا الحديث بقوله صلى الله عليه وسلم: "العمرة داخلة فى الحج إلى يوم القيامة" ، ولا يضرنا احتمال أن وجوبها تبع لوجوب الحج، أو يصح بها الحج ولو نفلا، وقد قيل لعمر: وجدت الحج والعمرة مكتوبين علىَّ فأهللت بهما جميعاً، بالفاء فقال: هديت لسنة نبيك، فلم يقل له عمر لم تفرض العمرة، ولا يحتمل مع الفاء أن يقال وجبت عليه بالشروع، ورواية إسقاط الفاء تبينها رواية الفاء وعنه صلى الله عليه وسلم: "الحج والعمرة واجبان لا يضرك بأيهما بدأت" ، فيجمع بين الروايات بأنها غير واجبة استقلالا كما وجب الحج، وواجبة على مريد الحد أن يعتمر معه قبله أو بعده ولو كان الحج نفلا، ومن أحرم لحج نفل أو عمرة وأفسده أو أفسدها أتمه أو أتمها وأعاده أو أعادها، والحق أن الصحابى حجة، خلافا للشافعى، لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا بأصحابى" ، ولا يختص هذا بما رووه صريحا عنه صلى الله عليه وسلم ويقال، إتمام الحج أن تحرم به من دارك إن دخل شوال، وإتمام العمرة أن تحرم بها من دارك مطلقا، وإن دخل شوال جاز قرنهما، ويقال إتمامهما أن تفرد لكل منهما سفرا، ويقال أن لا تشوبهما بغرض دنيوى كتجر ونكاح، ويقال أن لا تكون النفقة حراما ولا شبهة { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أى حصرتم، فهو موافق للثلاثى، اى منعتم عن الإتمام بعدو أو مرض أو غيرهما كضياع نفقة، فيقدر فى قوله، فإذا أمنتم، عن الإتمام بعدو أو مرض أو غيرهما كضياع نفقة، فيقدر فى قوله، فإذا أمنتم، أو شفيتم أو زال المانع، أو يؤول أمنتم بزوال المانع مطلقا بل الأمن يكون من المرض كقوله صلى الله عليه وسلم "الزكام أمان من الجذام" ، ونزولها فى الحديبية لا ينافى عموم الحكم، فإن خصوص السبب لا ينافى عموم الحكم، لعموم اللفظ، وإلا فالآية فى العدو فقط لقوله { فإذا أمنتم } فيقاس عليه غيره، هذا مذهبنا ومذهب أبى حنيفة، ويدل له قوله صلى الله عليه وسلم "لا إحصار إلا من فرض أو عدو أو أمر حابس" ، وهو عموم، قال عروة: كل شىء حبس المحرم فهو إحصار، وروى عن بعض الصحابة من أحرم بحج أو عمرة ثم حبس عن البيت بمرض بجهده أو عدو يحبسه فعليه ذبح ما استيسر من الهدى، وأهلَّ عمر بن سعيد بعمرة فلسع، فقال ابن مسعود: ابعثوا بالهدى واجعلوا بينكم وبينه يوم إمارة، فإذا كان ذلك فليحل، وخص مالك والشافعى الحكم بحصر العدو لقوله "فإذا أمنتم" وقول ابن عباس، لا حصر إلا حصر العدو، ويعترض بالحديث المرفوع قبل هذا، وليس ضعيفا، قيل لأنه روى من طرق مختلفة، وإن شرط الحاج محلى حيث حبست، فلا هدى عليه إن حبس بعدو أو غيره، لقوله صلى الله عليه وسلم لضباعة بنت الزبير بن عبدالمطلب، "حجى واشترطى وقولى محلى حيث حبستنى يا ألله" ، والأصل أنه لا يختص هذا بها بل هو لها، ولغيرها عند أحمد، وأحد قولى الشافعى، والحديث حجة لنا ولأبى حنيفة أن غير العدو كالعدو فى الآية، والعمرة كالحج { فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْىِ } فالواجب ما استيسر أو فعليكم ما استيسر، أى تيسر من شاة ثنية أو بقرة أو بعير، قال ابن عباس، وما عظم فهو أفضل، وعن ابن عمر الهدى بقرة أو جزور، ولا تكفى الشاة، والهدى بمعنى الهدى، وهو ما يسوق الحاج أو المعتمر هدية لأهل الحرم بموجب كما نا أو بلا موجب { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءُوسَكُمْ } للنحل كمالا تحلقون لغيره إلا الضرر { حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْىُ } المستيسر المذكور { مَحِلُّهُ } هو موضع حلوله المعهود، وهو منى، أيام منى، أو الحرم مطلقا ولو قبل أيام منى، عندنا وعند أبى حنيفة، وبوقت لذبحه، فإذا كان الوقت الذى حد لرسوله احتاط وحلق، وعن ابن مسعود، لدغ رجل محرم بعمرة فأحصر، فقال: ابعثوا بالهدى واجعلوا بينكم وبينه يوم إمار، أى إمارة، وعن أبى حنيفة إن كان حاجا فبالحرم متى شاء، ويجعل يوم إمار، وعند أبى يوسف ومحمد فى أيام النحو وإن كان معتمرا فبالحرم فى كل وقت عنده وعندهما، وقال الشافعى ينحر حيث أحصر، ولو فى الحل، فمحله عنده موضع حلول المحصر، ويتقوى مذهبنا بقوله حتى يبلغ، وعلى المحصر الحج أو العمرة أو كلاهما من قابل، كما تقضى الصلاة والصوم، وكما اعتمر صلى الله عليه وسلم من قابل، وهكذا شأن النفل إذا دخل فيه صحيحاً وقطع أعيد كما يوفى بالنذر والوعد بل زاد بالدخول، واحتج الشافعى فى عدم وجوب القضاء بأَن الله لم يذكر القضاء، قلت: يلزم عليه أن لا يلزم قضاء ما وجب من حج أو عمرة إذا أحرم به وأحصر عنه ولا قابلا بذلك، وإنما لم يذكر لأن المقام لشأن الإحصار لا لبيان كل ما يجب عليه، ووجه اللزوم أن الآية فى الإحصار مطلقا لا فى الإحصار عن النفل، خاصة، واحتج الشافعى فى أن النحر حيث حل بالحبس أن النبى صلى الله عليه وسلم نحر حين حبس فى الحديبية، وهى من الحل، كما قال مالك، فأجيب بأنها من الحرم، كما قال الزهرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أن الحديبية من الحرم" ، فقال لذلك إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر هديه بالحرم، وبه قال أبو حنيفة وصحح أرباب الحديث أنها من الحل، ويجمع بأنها فى طرف الحرم كما قال الواقدى على تسعة أميال من مكة { فَمَن كَانَ مِنْكُمْ مَّرِيضاً } مرضا يحوجه إلى الحلق، وأما المرض الذى لا يحوجه إلى الحلق فكلا مرض بالنسبة إلى الحلق ولو اشتد، ومعنى الفاء التفريع على ما قبلها، فإنه يلزم مه منع الحلق حتى يبلغ الهدى أنه لا بده من كفارة على الحالق ولو لعذر { أَوْ بِهِ أَذًى } جملة معطوفة على مريضا، وساغ لأن مريضا خبر كان، أو يقدر أو ثابتاً به أذى، عطفا لثابتا على مريضا، فأذى فاعل ثابتاً أو فاعل به، وأما أن تعطف الاسمية على كان الخ فلا إلا إن جعلنا من موصولة جعلت فى خبرها الفاء لعمومها كالشرطية لا شرطية لأن الأداة الشرطية لا تليها الاسمية، خلافا للأخفش والكوفيين، ودعوى أنه يغتفر فى الثنوانى، كالعطف هنا، ما لا يغتفر فى الأوائل لا تتم لأنه أتاه الوجه منه، وذلك لجراحة وقمل { فَفِدْيَةٌ } فعليه فدية، وهذا التقدير مطرد، وإنما جاز أن يقدر، فالواجب فدية، لأن النهى عن الحلق بشير إلى واجب على الحالق، فبينه بقوله الواجب فدية { مِّنْ صِيَامٍ } أى هى صيام ثلاثة أيام { أَوْ صَدَقَةٍ } اثنى عشر مدًّا من غالب قوت مكة على ستة مساكين من أهلها { أَوْ نُسُكٍ } يفرقه لأهل مكة الفقراء، ذبح شاة ثنية فإن شاء فبقرة أو بعير كذلك إن حلق، أو يقدر، فمن كان منكم مريضاً وحلق، وكل فعل مناف للإحرام ففيه ذلك إذا فعل لأذى كلبس المخيط والتطيب، وإن فعل لغير أذى فشاة، وقال الشافعى كحكم الآية، والحلق كناية عن التحلل، فإن معنى لا تحلقوا رءوسكم، لا تحللوا، والآية على التخيير، قال عبدالله بن مغفل قعدت إلى كعب بن عجرة فى هذا المسجد، يعنى مسجد الكوفة، فسألته عن قوله تعالى: { ففدية من صيام } الآية فقال: "حملت إلى النبى صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهى، فقال: ما كنت أرى أن الجهد بلغ بك هذا، أما تجد شاة؟ قلت: لا، قال عليه السلام: فصم ثلاثة أيام، أو اطعم ستة مساكين واحلق رأسك، فنزلت فىَّ خاصة ولكم عامة" ، وتقديم الشاة بوجدانها استحباب منه صلى الله عليه وسلم لا ترتيب، وأجاز بعضهم الإطعام فى غير مكة، وأما الذبح ففى مكة خاصة، وفى رواية احلق وصم ثلاثة أيام، أو تصدق بفرق أو انسك بشاة والفرق اثنا عشر مدًّا، ثلاثة أصوع، والصاع ثمانية أرطال بالعراقى؛ وقال أبو يوسف خمسة أرطال وثلث، وهو قول الشافعى، لقوله صلى الله عليه وسلم "صاعنا أصغر الصيعان" وعنه صلى الله عليه وسلم "كان يتوضأ بالمد رطلين؛ ويغتسل بالصاع ثمانية أرطال" وكذا كان صاع عمر رضى الله عنه؛ وهو أصغر من الهاشمى، وكانوا يستعملون الهاشمى، { فَإِذَا أَمِنْتُمْ } الخ عطف على قوله أحصرتم الخ، أى إذا أمنتم من العدو وبأن ذهب هذا العدو وظننتم أنه كان وأمنتم من المرض ونحوه ولا إحصار فى ذلك ولا حكم إحصار أى أمنتم الإحصار وسائر الموانع أو كنتم فى الأمن من ذلك { فَمَنْ تَمَتَّعَ } انتفع { بِالْعُمْرَةِ } بسبب الاقتصاد على العمرة والتحلل منها بالطيب ولبس المخيط وتغطية الرأس والجماع وصيد الحل وقطع التفث والزينة والطواف بالبيت كلما شاء، سواء أحرم بها وحده أو مع الحج، ثم فسخه، أو بالحج، ثم فسخه إلى العمرة وذلك كله فى أشهر الحج، وقيل بإتمامها فى أشهره مع أنه لم يعد إلى الميقات للإحرام بالحج، ولا إلى أهله أو مثل أهله فى العبد ولم يكن من أهل الحرم، وأنه حج من عابه وبالتقرب إلى الله بعقد الحد فى عامه فى ذلك العام { إِلَى الْحَجِّ } مستمراً بتمتعه إلى الحج ومنتهياً تمتعه أو تحلله إلى أن أحرم بالحد ولو بلحظة وذلك أن الدم يلزم بالحل منها { فَمَا اسْتَيْسَرَ } فالواجب أو فعليه ما استيسر { مِنَ الْهَدْىِ } شاة ثنية أو بقرة أو بعير كذلك يتصدق به فى الحرم مطلقا بعد الإحرام بالعمرة والإحلال منها لا قبل الإحلال، وقيل بعده وبعد الإحرام بالحج، والأولى أن يكون يوم النحر أو أيام التشريق { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } هديا أو ثمنه أو كليهما { فَصِيَامُ ثَلَٰثَةِ أَيَّامٍ فِى الْحَجِّ } فى حال الإحرام بالحج، فيجب أن يحرم قبل السابع من ذى الحجة لكراهة صوم يوم عرفة، لئلا يضعف عن القيام والدعاء، وإن كان لا يضعف لم يكره، ولا تؤخر هى أو بعضها لما بعد يوم النحر، ولا يجوز صوم يوم النحر وأجيز صومها فى عشرة ذى الحجة ولو قبل الإحرام بالحج فتؤخر رجاء وجودى الهدى إلى أن تبقى ثلاثة قبل يوم النحر، والواضح أنه لا يصومها إلا وهو محرم بالحج فى العشرة أو قبلها والراجح فى العشرة، وعند الشافعى، كل حق ما لى تعلق بسببين يجوز تقدمه على ثانيهما فجاز، ولو عندهم تقديم الذبح للمتمتع على الإحرام بالحج، ورجحوا إيقاعه بعد الإحرام، والسببان العمرة فى أشهر الحج والإحرام بالحج بعد التحلل منها بخلال صوم التمتع فلا يجوز عندهم تقديمه على الإحرام بالحج. لأنه عبادة بدنية لا مالية، فلا يجوز تقديمها على ثانى سببها، وزعموا عن الشافعى أنه يجوز صومها أيضا فى أيام التشريق فى قوله له ضعيف عنه، إذ ربما تم حجه قبل كمال ثلاثة أيام التشريق، والله يقول فى الحج، وعن ابن عمر أنه رخص صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذ لم يجد هديا ولم يصم حتى فاته أيام العشر أن يصوم أيام التشريق مكانها، وعن الزهرى أنه صلى الله عليه وسلم بعث عبدالله بن حذافة فنادى فى أيام التشريق، إن هذه أيام أكل وشرب، وذكر الله عز وجل إلا من كان عليه صوم من هدى، وعن عائشة أنه لم يرخص صلى الله عليه وسلم فى أيام التشريق أن يضمن إلا لمتمتع لم يجد هديا، وقال الحنفية: إذا جاء يوم النحر لم يجز إلا الذبح، ومذهبنا ترجيح تأخير ذبح هدى المتعة إلى يوم النحر، والمشهور عند أبى حنيفة أنه بين الإحلال من العمرة والإحرام بالحج، وأجازه بعد الإحرام به، وقال الشافعى يذبح بعد الإحرام بالحج، وعن أبى حنيفة أنه يذبح يوم النحر فقط ويذبح فى الحرم فقط، وأنه نسك يأكل منه هو والغنى والفقير، لأنه وجب لشكر الجمع بين النسكين، فكان كالأضحية فى التقرب بها إلى الله، وكذا قال كثير من أصحابنا يأكل منه، وقال الشافعى، دم جبر خلل إحرامه بالعمرة فى أشهر الحج إذ لم يحرم به ولا بهما معا فهو جار مجرى الجنايات فلا يأكل منه، واعترض بأنه كيف يكون جبر الخلل مع أن الله أباح التمتع، فيجاب بأن الله أفهمنا من الكفارة أنه خلاف الأصل وأنه خلل { وَسَبْعَةٌ إِذَا رَجَعْتُمْ } فرغتم من أعمال الحج، رمى الجمار، وطواف الزيارة، والسعى، ويكره صوم أيام التشريق، سمى الفراغ رجوعا للأهل أو لغيره لأنه سبب، أو سمى القصد إلى غير الحج رجوعا، فإنه كان فى غيره من الإحلال، أو من كونه غير محرم أصلا، فقد رجع إلى حال كان فيها قبل، وهى كونه غير محرم ولا ملتبس بأَفعال الحج، وذلك مذهبنا ومذهب أبى حنيفة فى مكة إلا أنا نجيز صومها أيضا فى الطريق راجعا ولو وصل أهله قبل تمامها، وقال الشافعى: إذا وصلتم أهلكم، وله قول كقولنا وقول أبى حنيفة، وعن ابن عباس، إذا بلغتم أمصاركم، وحكم ناوى الإقامة بمكة حكم واصل أهله، واستظهر بعض أن الرجوع ظاهر فى هذا المعنى، وقال مالك: يجوز صيامها فى أيام التشريق، يزعم أن فيه حديثا، وقيل معنى الآية صومها فى الطريق حال الرجوع، وفيه أن الله عز وجل لم يوجب صوم رمضان فى السفر فكيف هذه الأيام { تِلْكَ } الثلاثة والسبعة أى تلك الجملة { عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } هذه فذلكة، وهو إجمال الحساب بعد تفرقه، كقولك بعد تفرقه، فذلك كذا وكذا سواء قلت بعد تفرقة، ذلك كذا أو تلك كذا أو هؤلاء كذا وهذه كذا أم ذكرت المفرق مثل أن يجتمع عندك ألف وخمسمائة وستمائة تذكرها، ثم تقول فالجملة ألفان ومائة وهى مركبة من فاء التفريع وذا الإشارية مع حذف ألفها وإسكان ذالها، ولام البعد، وفتحها، وكاف الخطاب، وتاء التأنيث، وفى هذه الفذلكة فوائد، دفع ما ربما يتوهم من أن الواو بمعنى أو، فصرحت الفذلكة بعدم ذلك، فإنها قد ترد بمعنى أو، نحو جالس الحسن وابن سيرين بالواو وتريد جالس هذا أو هذا، بأو وأنت تريد بأو أيضا جواز الجمع، ووجه الواو أنه لا يمنع عندك أحدهما لا أنه لا بد منهما جميعا، قال السيرافى فى شرح سيبويه، والصواب أن الواو كاف فى الإباحة، لأن الإباحة إنما استفيدت من الأمر، والواو جمعت بين الشيئين فى الإباحة، ومن ذلك قوله تعالى: مثنى وثلاث ورباع، فالواو بمعنى أو فى بعض التأويل، الثانية الإعلام بأن المراد بالسبعة حقيقتها لا كثرة العدد، فإنها قد تطلق للكثرة كما تطلق السبعون، والفائدتان احتراص، الثالثة الإعلام بالعدد إجمالا كما أعلم به تفصيلا، كما يقول العرب، علمان خير من علم، وهذه الفائدة تتميم، فإن أكثر العرب لا تحسن الحساب، قال رجل لانبه فى سفر: يا بنى استبحث لنا عن الطريق فقال إنى عالم، فقال يا بنى علمان خير من علم، الرابعة أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالا من المبدل منه، فأخبرنا الله عز وجل أن هذا ليس كذلك فتطمئن نفس الصائم عن الهدى، فإن معنى كاملة أنها كاملة فى البدلية عن الهدى قائمة مقامه، وأنها كاملة فى أن ثوابها كثواب الهدى وكاملة فى المتمتع الصائم لها كالحج بلا تمنع، وأيضا كاملة صفة تفيد المبالغة فى محافظة الصائمين على العدد، كأنه قيل فصوموها غير ناقصة، وتفيد أن العشرة عدد كامل بمعنى انتهاء الأعداد إليه، وكل عدد بعده مركب منه ومما قبله، وإذا عددنا التوكيد فائدة فهو خامسة كقوله تعالى ولا طائر يطير بجناحيه وتعد ما مر من أن العرب ليسوا أهل حساب فذلك لهم، فهذه فائدة سادسة، السابعة دفع توهم وجود مخصوص يخص عموم الثلاثة، والثامنة دفع تصحيف سبعة بتسعة فى الكتابة التاسعة ما قيل دفع توهم أنه تتم السبعة بالثلاثة السابقة، ثلاثة فى الحج وأربعة إذا رجع، العاشرة أن الجملة الاسمية توجب بالتكميل كما قال، وأتموا الحج والعمرة، أى أجبروه إجبارا تاما، وذلك توكيد للأمر كأنه امتثل فهو بخير عنه الحادية عشرة أن الصوم طاعة كاملة كما قال الله الصوم لى، والعشرة عدد كمل فيه خواص الأعداد، فإن الواحد مبدأ العدد ولا عدد فيه إذ لا تكرير فيه، والاثنان أول العدد فإنه أول تكرير، والثلاثة أول عدد فرد، والأربعة أول مجذور، والخمسة أول عدد دائر، فلا يمكن تدوير المجلس قبله، والستة أول عدد تام أى تستفر عنه أجزاؤه، والسبعة عدد أول تام فيه أنواع العدد كما يأتى إن شاء الله تعالى، والثمانية أول عدد زوج الزوج والتسعة أول عدد لثلاثة ثلاث يستفرغه، والعشرة ينتهى إليها العدد ولكل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها، ويقال أيضا السبعة عدد تام لاشتماله على أنواع العدد، وهى أن العدد إما زوج وإما فرد، وإما مركب من زوج، وإما مركب من فرد وإما مركب من زوج وفرد، فالاثنان مركب من فردين، والواحد فرد والثلاثة من زوج وفرد، والأربعة من زوجين، والستة من فردين، وهما ثلاثة وثلاثة أو من زوجين أربعة واثنين { ذَلِكَ } الحكم من لزوم الهدى أو بدله وهذا الصيام أو ذلك التمتع، ويضعفه أنه قال { لِمَنْ لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ } كناية عن السكنى، ولو لم يكن له أهل { حَاضِرَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } ولم يقل على من لم يكن، وتأويل اللام بعلى خلاف الأصل، وحاضرو المسجد الحرام عندنا من سكن فى الحرام ولو لم يستوطنه، ومن فى داخل الميقات عند أبى حنيفة، ومن فى مكة عند مالك، ومن بينه وبين الحرام أقل من مسافة القصر عند الشافعى على مذهبه فى مسافة القصر، والقارن لزمه ما لزم المتمتع، قرن من أول، أو أدخل الحج على العمرة، أو العمرة على الحج، ووجه ذلك فى العمرة أو فى إدخال الحج عليها، أن الأفقى يجب عليه أن يحرم عن الحج من الميقات لا عن العمرة ثم أحرم عن الحج لا من الميقات فحصل التحلل فجبر بالدم، والحرمى مثلا يجب إحرامه من الميقات فلا خلل فى تمتعه هدى ولا صوم عليه، لأن إحرامه من محله حق { وَاتَّقُواْ اللهَ } بالمحافظة على أوامر الحج والعمرة بالامتثال ونواهيها بالاجتناب وعلى سائر الأوامر والنواهى { وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } فى ترك واجب حج أو عمرة أو غيرهما، وفى فعل محرم فيهما أو غيرهما، والعلم بذلك يمنعكم عن المقارنة، وأظهر لفظ الجلالة لتربية المهابة.