التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي ٱلْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُونِ يٰأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ
١٩٧
-البقرة

تيسير التفسير

{ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَٰتٌ } عن الناس، وقت الحج أشهر، أو الحج ذو أشهر، شوال، وذو القعدة وعشرة من ذى الحجة، ولا يشكل علينا الجمع، لأن المعنى أن الحج يوقع فى ثلاثة أشهر، والأمر كذلك فإنه يوقع فى التسعة الأولى وفى ليلة النحر للمراهق، فذو الحجة بذلك محل للحج، بل يوقع باقى أعلمه أيضا بعد ذلك، ولا يلزم من كون شهر محلا لكذا أن يكون فى كل يوم منه، تقول فعلت كذا سنة كذا، وإنما فعلته فى ساعة منها أو عشرون من ذى الحجة أو ثلاثون، ووقت العمرة السنة كلها، وقيل نزل بعض الشهر منزلة الشهر فى قوله أشهرن إذ لم يقل شهران وعشرة أيام أو شهران وعشرون يوما، وزعم بعض أن الجمع المركب من آحاد بعضها حقيقة. وبعضها مجاز، ليس جمعا بين الحقيقة والمجاز، وليس كذلك عندى، وأجاز الشافعية الجمع بينهما، وزعم بعض أن الآية على أن أقل الجمع اثنان مجازا حقيقة، وأما من قال ثلاثون يوما فقد أتم ثلاثة أشهر، ومذهبنا الأول، فلا يفوت طواف الزيارة والسعى ما دام غير ناقض لإحرامه، ولو عاما أو أكثر، وفاته بالعشرين على الثانى وبالثلاثين على الثالث فيقضى الحج مستأنفاً على القولين، ونسب الثالث لمالك فى رواية عنه، وابن عمر، والزهرى، وروى عن الشافعى شاذًّا، وأما الإحرام به فلا يجوز بعد عرفة وأجازه الشافعى ليلة النحر شاذًّا مردوداً، وعن إملاء الشافعى يجوز الإحرام به فى جيمع ذى الحجة وهو أشذ وأبعد، وأما الوقوف فلا يصح إلا فى يوم عرفة فى عرقة، إلا المراهق فله الوقوف فيها ليلة النحر، وعن أبى حنيفة شهران وعشرة لأن الطواف ركن ويوقع فيه لا قبله، والخلاف لفظى، فإن ما قبل طلوع فجر النحر وقت الإحرام، والركن الأعظم، وهو الوقوف، وما بعد ذلك وقت للركن العظيم، وما ليس ركنا، وزعم أبو حنيفة فيما قيل عنه، أنه يجوز الإحرام قبل شوال بالحج على كراهة، والتحقيق أنه أجازه قبله، لأنه عنده شرط كالوضوء للصلاة { فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ } على نفسه بالإحرام به مع النية ولو بلا لفظ، ومع التلبية به مع اللفظ والقصر للدخول فيه، كالدخول فى الصلاة، هذا مذهبنا، وقال أبو حنيفة بالتلبية مع النية أو سوق الهدى معها أيضا، لأن الإحرام فى الحج عقد على الأداء، فلا بد معه من ذكر، وهو التلبية أو ما قام مقامه وهو السوق كالإحرام فى الصلاة، وقال الشافعى تجزى النية بلا لفظ ولا تلبية، لأن الإحرام التزام الكف عن المحظ رات فيصير شارعا بالنية كالصوم، ومن أفسد حجا أو عمرة ولو نفلا لزمه قضاؤها، ولو عند من لا يوجب قضاء نفل العبادة منا، وكذا قال الشافعى وأبو حينفة، وقوله فيهن، دليل على أنه لا يصح الإحرام بالحج فى غير أشهره، قيبطل، وقيل يصير عمرة، وأجيب بأن المراد بفيهن الكمال ونفى الكرامة، وليس كذلك، فإن قوله أشهر معلومات نص فى تخصيص أشهر، وقوله صلى الله عليه وسلم "لا ينبغى لأحد أن يحرم بالحج إلا فى أشهره" ، أراد به التحريم، بدليل الأحاديث الفاصلة على أنه لا يصح الإحرام بالحج قبل أشهره { فَلاَ رَفَثَ } فى الحج ولا جماع كما تعورف شرعا، أو فلا فحش كلام فى أمر الجماع ومقدماته، وهو المعنى الحقيقى للرفث، وعليه فبالأولى أن لاجماع { وَلاَ فُسُوقَ } فى الحج ولا غيره، ومنها السب والنبز باللقب، فمن فعل كبيرة بعد الإحرام لزمه دم { وَلاَ جِدَالَ فِى الْحَجِّ } فى أيامه بعد الإحرام به، ولو مع المكارى أو الخادم أو الرفقة، ومن جادل حتى أغضب أو غضب لزمه دم، ولو فى الحق والمباح، وقيل المراد لا جدال فى أيام الحج ولو قبل الإحرام، واللفظ إخبار، والمعنى إنشائى أى لا ترفثوا ولا تفسقوا ولا تجادلوا، أو إخبار لفظا ومعنى، أى لا يثبت ذلك فى دين الله، وإن كان فمن دين الجاهلية والشيطان، والفسوق محرم على الحاج وغيره وذكر هنا لمزيد التغليظ، كالنهى عن لبس الحرير فى حق الرجل حال الصلاة، مع أنه محرم فى غيرها أيضا، أو الفسوق بمعنى الخروج، أى لا تخرجوا عن حد الشرع إلى المعصية ولو صغيرة، وإلى ما لا يجوز فى الإحرام كلبس المخيط والتطيب والصيد، وزعم بعض أن الجدل بالحق غير منهى عنه، ويرده مخالفة ظاهر الآية، وأنه يقضى إلى شر، وقد قال عز وجل " { فلا تمار فيهم } " [الكهف: 22] الأمر لظاهر، وقال صلى الله عليه وسلم: "من ترك المراء وهو محق بنى له بيت فى أعلى الجنة، ومن تركه وهو مبطل بنى له فى ربضها" ، وغير ذلك وعدم ذكره فى قوله صلى الله عليه وسلم "من حج ولم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" لا يدل على عدم النهى عنه لأن عدم ذكر الشىء لا يدل على انتقائه ويروى أن معنى لا جدال فى الحج، اتركوا الخلاف فى الحج إذ كانت قريش تقف بالمزدلفة وسائر الناس بعرفة، وكانوا يقدمون الحج عاما ويؤخرونه عاما، فأنزل الله ذلك فنقول أيضاً لا جدال فى ذلك ولا في غيره ولم يضمر للحج لتأكيد شأنه { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ } كالكلام الحسن مكان الرفث والبر، والتحصن مكان الفسوق، والوفاق بالأخلاق الحميدة مكان الجدال فى الحج وغيره كالصدقة والصوم والنفل وسائر العبادة { يَعْلَمْه اللهُ } فيجازيكم به، وكذلك يعلم الشر لكن لم يذكره لأن المقام مقابلة الشر بالخير، أو أراد بالعلم الجزاء { وَتَزَوَّدُواْ } لآخرتكم الأعمال الصالحة وترك ما ينهى عنه، وترك الطمع والسؤال مع وجود الغنى عنه، فمن لم يتزود لها هلك بالنار كما يموت مسافر بلا زاد { فَإِنَّ } لأن { خَيْرَ الزَّادِ } لأن الزاد شمل زاد الدنيا وزاد الآخرة { التَّقْوَى } الحذر عن ترك الفرض وفعل المحرم، ومنه الإلحاح فى السؤال بل مطلق السؤال بلا حاجة إليه مضطرة، والخروج إلى الحج بلا زاد، فيكون عيالا على الناس وثقلا عليهم، فالتحرز عن ذلك من حملة التقوى، ويروى أن حجاج اليمن كانوا يفعلون ذلك، ويزعمون أن ذلك توكل على الله، فأوحى الله، أن تزودوا ما يبلغكم ويرجعكم، كما رواه البخارى وأبو داود والنسائى عن ابن عباس رضى الله عنهما حتى فسروا الزاد بطعام المسافر وشرابه، طبق ما يفعل اليمانيون ويقولون نحن حجاج بيت ربنا ووفد إليه، أفلا يطعمنا، وربما أفضى بهم ذلك إلى النهب والغضب، وما ذكرته أولا هو الراجح لأنه ظاهر الآية، وعلى الأخير يكون المعنى اصنعوا الزاد لسفر الحج لأن خير الأزواد تقوى، ومن لا يصنعه يخرج عن التقوى بالطمع والسؤال { وَاتَّقُونِ يَأُولِى الأَلْبَٰبِ } فقد وضعت فيكم من العقل ما يميل بكم عن المخالفة.