التفاسير

< >
عرض

يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ ٱللَّهِ وَٱلْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ ٱلْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
٢١٧
-البقرة

تيسير التفسير

{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ } بدل اشتمال { فِيهِ } عن قتال فى الشهر الحرام رجب أمر سرية فى جمادى الأخيرة قبل بدر شهرين ليرصدوا عيراً لقريش فى بطن نخلة، فيها عمرو بن عبدالله بن عباد الحضرمى، وهو أول قتيل من المشركين قتله المسلمون، وكذا الأسر والغنم، وهم ثلاثة فقتلوه وأسروا اثنين عثمان بن عبدالله، والحكم بن كيسان، وهرب واحد نوفل بن عبدالله، واستاقوا العير وفيها تجارة الطائف، وفيها زبيب وأدم لأهل الطائف، وغير ذلك لقريش، وعلى السرية ابن عمته صلى الله عليه وسلم عبدالله بن جحش، وقد كتب له كتاباً وقال له، لا تنظر فيه إلا بعد سير يومين فنظر بعدهما، وفيه لا تكره أصحابك على السير، وهم ثمانية رجال، منهم وافد بن عبدالله أشرف على أصحاب العير، وقد حلق رأسه، فقال بعض لبعض: هم عمار لا بأس منهم، فقالت كفار قريش: استحل محمد الشهر الحرام، شهراً يتفرق فيه النسا لمعايشهم ويأمنون فيه، فشق ذلك على عبدالله ابن جحش ومن معه من السرية، وقالوا لا نبرح حتى تنزل توبتنا ورد صلى الله عليه وسلم العير بأحمالها والأسيرين بالغوا لأنهم أبرار، وعدوا الخطأ كذنب، أو قبل أن يعرفوا أن الخطأ والنسيان معفو عنهما ظنوا أنهم فى آخر جمادى، وهم فى أول رجب، وعن ابن عباس أخذ الغنيمة والأسيرين ولم يردهم، وأنهم أول غنيمة، ويجمع بأنه ردها بمعنى أوقفها ولم يقبلها الوحى، ولا ضعف فى هذا، والسائلون أصحاب السرية سؤال تحرج وتوبة لعلمهم بحرمة القتال فى الشهر الحرام كما قالوا حتى تنزل توبتنا، وقيل السائلون المشركون سؤال جدال، وعيروا من فى مكة من المسلمين ونسبوا لك للنبى صلى الله عليه وسلم ولم يحضر لأنهم قومه ومتبعوه { قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } أى القتال فيه هو أمر كبير إذا فعل عمدا، والسرية لم تقاتل عمدا، وهو حرام من لدن إبراهيم صلى الله عليه وسلم، والمذهب أن شرع من قبلنا ليس شرعا لنا، والذى عندى أنه شرع لنا، وأنه يقدم على الاجتهاد ما لم ينافه القرآن أو الحديث. أو الإِجماع بدليل راجح، ولا خلاف فى أنه ليس شرعا لنا إذا صرح فى ذلك بخلافه ولا يصح أن شيئاً شرع لمن قبلنا إلا إن ذكر عنهم فى القرآن أو الحديث أو الإجماع، أو رواه ثقة أسلم منهم كعبدالله بن سلام، وقد قيل إن تحريم القتال فى الأشهر الحرم منسوخ بقوله تعالى، فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، ولو كان عمومه فى المكان لما قيل إن عموم الأمكنة قرينة عمومه الأزمنة، ولأن الإيجاب المطلق يرفع التحريم المقيد والنسخ مذهب الأكثر وقد قيل إن الأشهر الحرم فى تلك السنة لا فى السنين بعدها، وقال عطاء: لا نسخ فى ذلك لكن إن قاتلك فقاتله، وقيل نسخت هذه الآية، ولو كان قتال نكرة فى الإثبات كقوله تعالى" { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } "[التكوير: 14]. ولا سيما أنها قيدت بما تعم به قوله فيه، على أن نعتها أو متعلق بها فلما عمت صح نسخها بقوله تعالى، اقتلوا المشركين الخ { وَصَدٌّ } مبتدأ خبره مع ما بعده أكبر أى منع { عَن سَبِيلِ اللهِ } دينه { وَكُفْرٌ بِهِ } أى بالله أى إشراك بالله لورود الضمير للمضاف إليه فى القرآن بلا شرط كون المضاف كلا، وإن رد للسبيل كان كالتكرير، لأن الصد عن السبيل كفر به منهم لإشراكهم، وأما الفاسق فقد يمنع من الشىء مع إيمانه به، وجاز رده إليه لأن فيه تصريحا بأن الصد عنه كفر به { وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ } عطف على سبيل، أى عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، وجاز عطف كفر على المصدر قبله، عطف المسجد على معموله، وهو سبيل، لأن الصد عن سبيل الله فرد من أفراد الكفر به، فإنه ليس بأجنبى محض وعطف المسجد على الهاء بلا إعادة جار لجواز نسبة الكفر إلى الأعيان باعتبار الحكم المتعلق بها وهو منع الناس عن المسجد الحرام، نحو ومن يكفر بالطاغوت أى بألوهيته { وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ } النبى والمؤمنين، سماهم أهله، لأنهم القائمون بحقوقه أو لأنهم يصيرون أهله بعد الفتح { مِنْهُ } من المسجد الحرام { أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ } من القتل والأسر والغنم الواقعات من السرية أو مطلقا فى الشهر الحرام { وَالْفِتْنَةُ } الشرك وإخراج النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من مكة { أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ } من قتل الحضرمى فى الشهر الحرام، لأنهم قتلوه فيه ظنا منهم فى جمادى، وهو حلال الدم لأنه مشرك محارب { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَٰتِلُونَكُمْ حَتَّى } إلى أن، أو كى { يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ } إلى الكفر فى ظنهم واعتقادهم، وخيب الله ظنهم واعتقادهم ففشلوا، وما توا قبل أن يردوا المسلمين عن دينهم وأسلم الكثير { إِنِ اسْتَطَٰعُواْ } متعلق بيردوكم أو بلا يزالون، على معنى يدومون على القتال إن استطاعوا الدوام عليه، وما فى هذا من الابتذال يزول بالتلويح إلا أنهم لا يستطيعون ذلك الدوام بل يفشلون { وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ } بقتل أو بلا قتل { وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَٰئِكَ حَبِطَتْ } بطلت، قيل كما تحبط الدابة تفسد بأكل نبات اسمه الحباط، أو أكثرت الأكل فى مرعاها فتفسد أو تموت{ أَعْمَٰلُهُمْ } الصالحة وعوقبوا عن أعمالهم السيئة { فِى الدُّنْيَا } لا تعتبر لهم فيها، بل تلغى لا يعصم بها ماله الذى فى بلد الإسلام ولا دمه، فإنه يقتل ولو امرأة، ولا يرث ولو يورث ولا يمدح، وتبين زوجته، وتؤخذ أولاده عنه{ وَالآخِرَةِ } لا يثابون عليها فى الآخرة { وَأُوْلَٰئِكَ } المرتدون{ أَصْحَٰبُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَٰلِدُونَ } وإن تاب قبل موته قضى ما فعل قبل ردته عندنا وعند أبى حنيفة وقيل يرجع له كله، وقيل إلا الحج فإنه يعيده، ولا ترجع له الصحبة إن لم يدركها بعد توبته من الردة، وقيل ترجع له ولو مات قبل توبته، ومذهب الشافعى أنه إن تاب قبل الموت رجع إليه علمه، وصح له. ولم يعده، لأن الله عز وجل قيد الإحباط بالموت على الردة، وعلى هذا القيد يحمل إطلاق قوله تعالى: { { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } [المائدة: 5] ومذهبنا كمذهب الشافعى فى حمل المطلق على المقيد. إلا أنا نقول: قيد الموت على الردة إنما هو لاعتبار الإحباط فى الآخرة، واستحقاق النار، وعند أبى حنيفة، المطلق لا يحمل على المقيد إلا إذا اتحدت الحادثة والسبب، ودخل المطلق والمقيد على الحكم، بخلاف هذه الآية، لأن الحكم والسب وإن اتحد لكن المطلق والمقيد دخلا على السبب، فيجوز أن يكون المطلق سبباً كالمقيد. لإمكان الجمع، فيحتج بقوله تعالى: { { ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله } [المائدة: 5]، على أن الحسنات تحبط بنفس الردة والموت عليها ليس بشرط، بناء على أصله، من أن المطلق يحمل على إطلاقه، كما أن المفيد يحمل على تقييده.