التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَنْكِحُواْ ٱلْمُشْرِكَاتِ حَتَّىٰ يُؤْمِنَّ وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلاَ تُنْكِحُواْ ٱلْمُشِرِكِينَ حَتَّىٰ يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُوْلَـٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى ٱلنَّارِ وَٱللَّهُ يَدْعُوۤاْ إِلَى ٱلْجَنَّةِ وَٱلْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ
٢٢١
-البقرة

تيسير التفسير

{ وَلاَ تَنْكِحُواْ } لا تتزوجوا أيها المؤمنون { الْمُشْرِكَٰتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ } ولو كتابيات ذميات، جروا على تحريم الكتابيات الذميات كغيرهن، ثم نزل نسخ تحريمهن بقوله تعالى: " { وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ } " [المائدة: 5] وبقيت الكتابيات المحاربات وسائر المشركات على التحريم ولو اقترنت الآيتان لقلت، إن ذلك تخصيص للعموم، كما شهر فى المذهب وعند الشافعية، من أن ذلك من تخصيص العام، ومن جواز تأخير دليل الخصوص فى العموم، ولو كانت مقارنة بين العام والخاص، ولك أن تقول، لا نسخ ولا تخصيص، بل المشركات فى الآية غير الكتابيات، لأنه كثر فى القرآن مقابلة المشركات بالكتابيات، كقوله تعالى: " { لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَٰبِ وَالْمُشْرِكِينَ } "[البينة: 1]، ولو كان أهل الكتاب أيضاً مشركين لقوله سبحانه عما يشركون، وأجاز بعض قومنا نكاح الحربيات الكتابيات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب، وليس بشىء، ونص ابن عباس على المنع، وهو الصحيح { وَلأَمَةُ } وزنه فعة بحذف اللام، وأصله أهو بفتح الميم وإسكانها، قولان، احتار الأكثرون الفتح، وتجمع على إماء بوزن فعال، بكسر الفاء وهو الأكثر، وعلى ءام بوزن أفح بفتح الهمزة وإسكان الفاء وكسر العين، وأصله أفعل بفتح الهمزة وإسكان الفاء وضم العين، وهكذا أ امو بفتح الهمزة الأولى وإسكان الثانية وضم الميم، قلبت الثانية ألفاء وضمة الميم كسرة والواو ياء، حذفت للتنوين بعدها، وقلبت الواو ياء، لئلا يختم اسم عربى معرب بواو ساكنة قبلها ضمة لازمة، فيقال ءام، جرا ورفعا وءاميا نصبا { مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ } حرة { وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } لجمالها ومالها وعزتها ونسبها، فكيف الحرة المؤمنة، ولا خير فى المشركة، إلا أن المشاركة باعتبار الاعتقاد لا الوجود، واسم التفضيل لا يخرج عن التفضيل مع وجود من، والمشاركة هنا موجودة، ففى كل من الأمة المسلمة والمشركة الحرة تمتع بالأنوثة، وفى المشركة الحرية، وفى الأمة الإيمان، وكل ذلك حسن، ففضل الله حسن الإيمان على حسن الحرية، وخيرية الحرة المؤمنة على المشركة الحرة معلوم بالأولى، ولا حاجة إلى أن الأمة مملوكة الله الشاملة للحرة، ولا تعسف فى ذلك، بل التعسف فى دعوى أن الأمة بمعنى مملوكة الله، لأن هذا ولو كثر استعماله حقيقة أو مجازا، ولكن فى مقام الوعظ ونحوه، لا فى مقام الأحكام كما هنا.
روى
"عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث مرثدا الغنوى إلى مكة، ليخرج منها ناسا من المسلمين سرا، وكان يهوى امرأة فى الجاهلية، اسمها عناق، فأَتته، فقالت له: ألا تخلو؟ فقال، ويحك، إن الإسلام حال بينى وبينك وحرم الزنا، فقالت: هل لك أن تتزوج بى؟ فقال: نعم، ولكن أرجع إلى النبى صلى الله عليه وسلم فأستأمره، فقالت: أبى تتبرم، فصرخت عليه، فعذبوه، ثم خلوه، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل. ولا تنكحوا المشركات: كذا قيل" .
والصحيح عندهم أن قصته هذه نزل فيها: " { الزَّانِى لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً } " [النور: 3] كما أخرجه أبو داود والترمذى والنسائى من حديث ابن عمر، ولا مانع من نزول الآيتين فى القصة.
ونزله قوله تعالى: ولأمة مؤمنة. الخ فى تزوج حذيفة بن اليمانى، أو عبدالله ابن رواحة أمة بعد عتقها وعاب عليه بعض المؤمنين، كانت لحذيفة وليدة اسمها خنساء، فقال: يا خنساء، ذكرت فى الملأ الأعلى على سوادك ودمامتك، ثم أعتقها وتزوجها.
وروى أنه غضب عبدالله بن رواحة على أمة سوداء، فلطمها، فأتى النبى صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: وما هى يا عبدالله؟ قال: تشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وتصوم رمضان، وتحسن الوضوء، وتصلى، فقال: هذه مؤمنة.
قال عبدالله: فوالذى بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها، ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين، وقالوا: تنكح أمة؟ وعرضوا عليه حرة مشركة، فنزل قوله تعالى: { ولا تَنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم } قال صلى الله عليه وسلم:
"لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطفيهن، وانكحوهن على الدين، فلأمة سوداء خرماء ذات دين أفضل" .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع، لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها فاظفر بذات الدين تربت يداك" .
وقال الإمامية من الروافض وبعض من الزيدية، إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: " { وَالْمُحْصَنَٰتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكُمْ } " [المائدة: 5] والصحيح أنه تخصيص من هذه الآية العامة، بل وقع كثيراً فى القرآن التعبير بلفظ الشرك فى مقابلة أهل الكتاب مع أنهم مشركون أيضا { وَلاَ تُنْكِحُواْ الْمُشْرِكِينَ } لا تصيروهم ولو أهل كتاب أزواجا للمؤمنات { حَتَّى يُؤْمِنُواْ وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ } فكيف الحر المؤمن، وهذا أولى من أن يقال أراد عبدالله حرًّا أو مملوكا كما مر، والتنكير هنا وفى قوله، ولأمة... الخ للعموم فى الإثبات، كذا قيل، قلت: لا إلا أن يراد العموم البدلى، والتفضيل هنا على حد ما مر فى قوله تعالى { ولأمة مؤمنة... } الخ، ولا يصح ما قيل فيهما أعظم في خيريتهما من المشرك والمشرك فى شريتهما { خَيْرٌ مِّنْ مُّشْرِكٍ } حر ولو كتابيا { وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } لمرتبته فى المال والعز والنسب ونحو ذلك، وعلل ذلك بقوله { أُوْلَئِكَ } إشارة إلى المشركات والمشركين، لأن المراد بمشرك ومشركة العموم، إما شموليا، وإما بدليا، والبدلى يجوز معه صيغ الجموع، لأن ما صدقه العموم، ولا تغليب فى أولئك، لأنه وضع للذكور، وللإناث، ولهما معا { يَدْعُونَ } الواو تغليل للذكور { إِلَى النَّارِ } إلى الشرك وما دونه مما يوجب النار أو يدعون إليها بدعائهم إلى ذلك فلا تتزوجوا نساءهم، ولا تزوجوهم نساءكم، لأنهم أهل لأن تقصوهم لا أن تنفعوهم ولئلا تكسبوا منهم سوءا { وَاللهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ } أى أولياءه من النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنين والمؤمنات يدعون إلى الجنة والمغفرة بالدعاء إلى موجبهما، أو يدعو إلى موجبهما، وقدرنا أولياءه لتتم المقابلة، لقوله تعالى، أولئك، مخلوق لمخلوق ولو لم يقدر لجاز، وفى ذكر لفظ الجلالة نيابة عن ذكرهم إعظام لهم إذ جعل دعوتهم دعوة لله، كما جعل محاربتهم محاربة لله، فى قوله تعالى: يحاربون الله، ويدل لمراعاتهم قوله { بِإِذْنِهِ } إذ لا معنى لقولك، الله يدعو بإذن الله، وأيضا مراعاتهم أنسب بقوله أولئك يدعون إلى النار، ويصح، الله يدعو بإذن الله، بمعنى بقضائه وإرادته وتوفيقه، وقدم الجنة لمقابلة النار قبلها ابتداء، ولأنها نفس المراد الذى يتنافس فيه، ولو كان تحلية، والمغفرة تخلية مقدمة بالزمان، وقدمت على الجنسة فى قوله، سارعوا... الخ مراعاة لحق تقديم التخلية على التحلية، ولحق تقدم زمانها { وَيُبَيِّنُ ءَايَٰتِهِ لِلنَّاسِ } ينزلها بينة واضحة، كقولك، وسع فم البئر، تريد ابتدعها واسعة الفم، وأدر جيب القميص، وذلك غالب، وفى القرآن متشابه ومجمل، وكل تفصيله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأردت بالإجمال مثل الصلاة والزكاة، وقد يدخل فى البيان، إذ لم يتشابه { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فيعملون بمقتضى الآيات، ويتعظون على المعاصى، ويعرفون قبحها، فينالون المغفرة والجنة، والصحيح أن استعمال لعل فى ترجى المخاطب أو فى التعليل مجاز.