التفاسير

< >
عرض

أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
-البقرة

تيسير التفسير

{ أَوْ كَالَّذَى } أو أرأيت مثل الذى، والكاف اسم، ولا تختص اسميتها عند القائل بها بدخول عن وحذف أرأيت لدلالة ألم تر، والاستفهام للإنكار، أى ما رأيت مثل الذى... الخ فتعجب منه، أو للتقرير، أى قد رأيته مثل الذى... الخ فتعجب منه، لأنه مثل التعجب، فالكاف مفعول به لرأيت محذوفا، أو معطوفا على الذى كأنه قيل: وإلى كالذى مر، إلا أن اسمية الكاف مختلف فيها، ودخول الجار عليها ينبغى أن يخص بعن، إذ هو الوارد، وأو للتخيير مع صحة الجمع، أو هى بمعنى الواو، والكاف لكثرة من ينكر البعث، أو يجهل كيفيته، بحلاف مدعى الربوبية، أو الكاف صلة، أى: أو أرأيت الذى، أو العطف على المعنى كما يقال له فى غير القرآن عطف توهم، كأنه قيل: أم رترد كالذى حاج، أو كالذى مر... الخ ولتقدم إبراهيم على الخضر وعزير لم يصح ما قيل من أنه عطف على إيت بها من المغرب، أى فأت بها من المغرب، أو أحى كإحياء الله الذى، فيكون إبراهيم قد تعرض لإبطال قوله أحيى وأميت، وكأنه قال: إن كنت تحيى فأحى مثل إحياء الله الذى { مَرَّ } هو عزير بن شرحيا، أو الخضر، أو إسحق بن بشر أو أرميا بن خلفيا من سبط هرون وقيل: أرميا هو الخضر، وقيل المار شعيا، وقيل غلام لوط، أو كافر بالبعث { عَلَى قَرْيَةٍ } قرية بيت المقدس إذ خربه بخت نصر، والقرية التى خرج منها الألوف حذر الموت، ولا يلزم فى اسم القرية أن تكون صغيرة قليلة الناس، ولا سيما أن الاشتقاق من القرآن وهو الجمع، لاجتماع الناس فيها، ولا حد للاجتماع، وقيل: دير سابراياد، وقيل دير هرقل، وقيل: المؤتفكة وقيل: قرية العتب على فرسخين من بيت المقدس، والأشهر الأول { وَهِىَ خَٰوِيَةٌ } على حذف مضاف، أى حيطانها خاوية، أى ساقطة { عَلَى عُرُوشِهَا } سقوفها الأوائل والثوانى، وما فوق ذلك إن تعددت، بأن يسقط السقف، ثم ينهد الجدار عليه، ولزم من ذلك أن أهلها غير موجودين فيها. إذ لا يكونون فيها مع ذلك ولا يتركونها بلا بناء لو لم يذهبوا عنها، إما بالخروج أو بالموت، أو ذلك كناية عن ذهاب أهلها، سواء أسقطت أم لم تسقط، لجواز ألا يوجد معنى ما وضع له اللفظ فى الكناية وعلى متعلق بخاوية كما رأيت، ويجوز تعليقها بمحذوف، أى خاوية عن أهلها، ثابتة على عرشها لم تسقط، فهو خبر ثان، والجملة حال من ضمير مر { قَالَ أَنَّىٰ } كيف أو متى { يُحْيِى هَذِهِ } أى القرية، أى أهلها، أو سمى أهلها بلفظ هذه، أو إحياؤها مجاز عن عمارتها بإحياء أهلها، أو الإشارة إلى العظام البالية { اللهُ بَعْدَ مَوْتِهَا } موت أهلها، أو بعد خرابها، سماه موتاً مجازاً، وذلك استعظام من القائل لقدرة الله، إن كان مسلماً كالخضر وعزير، واستبعاد وإنكار إلى إن كان كافرا، أو استبعاد ولو كان مسلما عن طريق العادة، كقوله تعالى: { { قالت أنى يكون لى ولد } [آل عمران: 47]، { { قال رب أنى يكون لى غلام } [آل عمران 40]، أو تعجبا أو استفهاما حقيقيا عن الكيفية كقول الخليل عليه السلام، رب أرنى كيف تحيى الموتى { فَأَمَاتَهُ اللهُ مِاْئَةَ عَامٍ } أى ألبته الله مائة عام ميتاً، وذلك يستلزم وقوع الموت قبل الإثبات، وهو لا يكون إلا دفعة، أو يقدر، فأماته الله وألبثه مائة عام أو ولبث مائة عام، ووجه السببية أن الاستفهام أو التعجب أو الإنكار سبب لإرادة القدرة على البعث، وسمى الحول عاماً لأنه قعود الشمس فيه للبروج كلها { ثُمَّ بَعَثَهُ } ليريه الإحياء مع كيفيته من بعث الناقة من مكانها، تمثيلا للسرعة مع أنه أخرجه تام العقل والفهم كهيئته يوم مات { قَالَ } الله بواسطة هاتف من السماء أو جبريل، أو رجل مؤمن شاهده يوم مات، وعمره الله إلى حين إحيائه { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } تام أول النهار، أو ضحى، فقبض، وأحيى عند الغروب بعد مائة عام، وأو للشك، أو بمعنى، بل ظن أنه بعث بعد اليوم الذى نام فيه، أو بعد فجره ليصح حزمه بتمام اليوم، وإلا لم يصح جزمه مع نقصان ما قبل الضحى منه، إلا إن لم يعده لقلته، وقال بعض، يوم شكا أو إضراباً، إذ رأى بقية الشمس { قَالَ بَلْ لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ } لا يوماً ولا بعض يوم، فالعطف على محذوف، أى ما لبثت ذلك، بل لبثت مائة عام { فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ } تيناً أو عنباً { وَشَرَابِكَ } عصيراً أو لبناً { لَمْ يَتَسَنَّهْ } عائد إلى الأول، ويقدر مثله للثانى، أو يعكس، أو لم يتسنه ما ذكر، أو اعتبر شيئاً واحداً، لافترانهما كما مر فى جعل المن والسلوى طعاماً واحداً، والهاء للسكت، والفعل يتسنن بتشديد النون الأولى، قلبت الثالثة ألفا لكراهة الأمثال، كتقضَّى فى تقضيض وتظنى فى تظنن، وحذفت للجازم، والهاء للسكت، أو من السنة على أن لامه هاء، فلهاء أصل، أى لم تمض عليه سنة أو سنون، أى لم يتصف بما يتصف به ما مرت عليه سنة أو سنون من التغيير. والتسنه عبارة عن مضى السنين، بالغ الإسرائيليون فى الفساد، فسلط الله عليهم بخت نصر، بضم الباء والنون وفتح الصاد مشددة، وبخت بمعنى عطية أو بان ونصر صنم، وجد عند الصنم ولم يعرف له أب، فنسب إليه، جاءهم من بابل بستمائة ألف راية، فخرب بيت المقدس، فقتل ثلثهم وأقر ثلثهم إلى الشام، وسبى ثلثا، وهو مائة ألف، فقسمه بين الملوك الذين معه، فأصاب كل ملك أربعة، وكان عاملا لكهراسف على بابل، وكان عزير ممن سباه، ولما تخلص من السبى ورم على القرية، وكان من أهلها، راكبا على حمار دخلها وطاف بها، فلم يجد أحداً، وغالب أشجارها حامل، فأكل وقطف فى سلة، وعصر فى زق وربط حماره، وألقى الله عليه النوم، وأماته فى نومه، وأمات حماره، وحفظ الله تينه وعصيره، أو لبنه ولحمه والأشجار عن الخلق، ومضت سبعون سنة، فسار ملك عظيم من ملوك فارس، اسمه كوسك، بإرسال الله ملكا من الملائكة، يقول له، إن الله تعالى يأمرك أن تنفر بقومك، فتعمر بيت المقدس وإيليا وأرضها حتى تعود أحسن مما كانت، فانتدب بثلاثة آلاف قهرمان مع كل قهرمان عامل فعمر بيت المقدس أحسن ما كان ورد الله بنى إسرائيل، وعمروه ثلاثين سنة كأحسن ما كان، وكثروا. وقد مات بخت نصر ببعوضة دخلت دماغه، فأحيا الله منه عينيه، ثم شيئاً فشيئاً منه، وهو ينظر ونظر إلى طعامه وشرابه عنده لم يتسنه مع سرعة التغير إلى الطعام غالبا، ثم نظر إلى حماره عظاما متفرقة تلوح، فاجتمعت هى ثم أجزاؤه إليها فأحيا بمشاهدته فقام بنهق كما قال { وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ } فنظر إليه عظاما وأجزاءه متفرقة، فعلنا ذلك لتعلم كيف نحيى الموتى، وتمام قدرتنا على إحيائها والأزمة فى الإحياء سواء { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لّلنَّاسِ } دالة على البعث، أو وفعلنا ذلك لنجعلك وأحوالك وأحوال حمارك آية للناس، أو لنجعلك وما معك آية للناس، فعلنا ذلك. وسماها، أعنى أجزاء الحمار حماراً باعتبار ما كان أو ما يكون { وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ } عظام الحمار، وقبل عظام الحمار وعظام القوم، لا عظام الحمار فقظ كما قيل، وقيل: عظام نفسه، بأن خلق الله الحياة فى قلبه وعينيه وردهما فشاهد جسده عظاما بالية، وشاهد إحياءه، وإنما قلت، أحيا قلبه، لأن العين بلا قلب لا تحس، لكن إن شاء الله أحست، وكرر الأمر بالنظر لأن الأول ليرى أثر المكث الطويل والثانى ليشاهد الإحياء { كَيْفَ نُنْشِزُهَا } فبعثها حية، فالعظم حى يؤثر فيه الموت، كقوله تعالى: قل يحييها، أى من موت، وذلك مذهبنا ومذهب الشافعى، أو نركب بعضاً على بعض، وانظر إلى حمارك سالما محفوظا كطعامك بلا علف ولا ماء، وانظر إلى عظام الآدميين الموتى الذين تعجبت من إحيائهم، والحمار على هذا حقيق، ورجحوا لأول لمناسبته أمر البعث وقد يرجع الثانى لأنه سماه حماراً، أو لم يسمه عظاماً، وفصل بينه وبين قوله، وانظر إلى العظام بقوله: ولنجعلك آية للناس { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } فنظر إلى عظام الحمار أو الموتى تنتشر وتكسى لحما، روى أنه نادى ملك، أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعى، فاجتمع كل جزء من أجزائها التى ذهب بها الطير والسباع والرياح، فانضم بعضها إلى بعض، والأعصاب والعروق، واتصل كل بمحله، وانبسط عليه اللحمن ثم الجلد ثم الشعر، ونفخ فيه الروح، وقام رافعاً رأسه وأذنيه ينهق، وروى أنه أقبل ملك يمشى وأخذ بمنخر الحمار فنفخ فيه الروح فقام حيا { فلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ } أن الإحياء أو شأن الإحياء، وهو أى قدر الله المدلول عليه بقوله { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } لا على التنازع، لأن قوله، إن الله على كل شىء قدير مع أَعلم قبله لفظ مفرد بالحكاية، أحاط به القول ولا يشاركه غيره فيه، ولو كان فى الأصل جملتين فإن الله... الخ جزء اسم، وأما أن يشترط للتنازع الارتباط بعطف فلا أقول به، ولو قال به ابن عصفور، وهو باز من بيزان الفن، كما قالوا بالتنازع فى قوله تعالى، { { هاؤم اقرءوا كتابيه } [الحاقة: 19]، والمراد، أعلم علم مشاهدة ومعاينة بعد العلم بالبرهان، أو المراد بأعلم العلم الاستمرارى السابق والمتأخر والحاضر، وأتى قومه على ذلك الحمار، وقال، أنا عزير فكذبوه، فقرأ التوراة من رأسه، ولم يحفظها أحد قبله، فعرفوه بذلك، وقالوا، هو ابن الله، ويروى أنه رجع إلى بيته شابا وأولاد أولاده شيوخ فإذا حدثهم قالوا حديث مائة سنة فكذبوه، فقال، هاتوا التوراة، فقرأها من رأسه وهم ينظرون فى الكتاب، ولم يزد حرفا ولم ينقص، وكان قبل بخت نصر ببيت المقدس ممن قرأ التوراة أربعون ألف رجل. ولما رجع عزير وجدهم جاهلين بالتوراة فاقدين نسختها، فقرأها عن ظهر الغيب، فقال رجل من أولاد المسلمين ممن ورد بيت المقدس بعد هلاك بخت نصر، حدثنى أبى عن جدى لكم، فذهبوا به إلى كرم جده، ففتشوا فوجدوها، فعرضوها على قراته فما خالف خوفا، وروى أنه حين اسود الرأس واللحية إذ هو ابن أربعين سنة حين أماته الله، وأنكر الناس وأنكروه، وأتى محلته وأنكر المنازل، ووجد فى محلته عجوزا قد أدركت زمن عزير، فقال لها عزير: يا هذه، هذا منزل عزير، قالت: نعم وأين عزير، فقدناه منذ كذا، وبكت شديدا، قال: فإنى عزير، قالت سبحان الله، كيف ذلك، قال: أماتنى الله مائة عام ثم بعثنى. قالت: إن عزيرا محاب الدعاء، فادع الله يرد علىَّ بصرى حتى أراك، فدعا الله، ومسح بين عينيها فأبصرتا، وأخذ بيدها، فقال، قومى بإذن الله، فقامت صحيحة، فنظرت إليه فقالت، أشهد أنك عزير، وانطلقت به إلى محلة بنى إسرائيل، وكان فيهم ابن لعزير بلغ مائة سنة وثمانى عشرة، وبنو بنيه شيوخ، فنادت، هذا عزيز قد جاءكم، فكذبوها، فقالت، انظروا، إنى بدعائه رجعت إلى هذه الحالة، فنهض الناس إليه، فقال ابنه، لقد كان لأبى شامة سوداء بين كتفيه، فنظروا فإذا هو كذلك.