التفاسير

< >
عرض

قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ ٱلَّذِي فطَرَهُنَّ وَأَنَاْ عَلَىٰ ذٰلِكُمْ مِّنَ ٱلشَّاهِدِينَ
٥٦
وَتَٱللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ
٥٧
فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ
٥٨
قَالُواْ مَن فَعَلَ هَـٰذَا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٥٩
-الأنبياء

تيسير التفسير

{ قال بل ربُّكم ربُّ السَّماوات والأرض الَّذى فطرهُنَّ } خلقهن مع ما فيهما كتماثيلكم وأنفسكم، أو فطر تماثيلكم، ويترجح الأول بالعموم، ودخول التماثيل فيه بالذات، والثانى بأن المقام لإبطال التماثيل، وهن ضمير لا يختص بالعقلاء، ولو خص به لقيل: إنها عندهم كالعاقل، ووصفه بالربوبية إيذاناً بأن ما لا يخلف ولا يربى بالنعم على الإطلاق بعيد عن الألوهية.
{ وأنا عَلى ذلكُم مِن الشَّاهدين } على متعلق بمحذوف جوازا أى شاهد على ذلكم المذكور من ضلال عباد التماثيلن وأن رب السماوات وأرض وما فيهما، هو رب كل شىء وإلهه، لا متعلق بشاهدين، لأنه صلة أل، ومعمول الصلة لا يتقدم على الموصول، وقيل بالجواز للتوسع فى الظروف، فلا يقدر محذوف وعلى الأول، وهو تقدير محذوف يكون من الشاهدين زيادة تقرير، كأنه قيل من جملة الراسخين فى الشهادة، العالمين علما محققا بمشاهدة البراهين قيل إضراب إبطالى عن اعتقادهم التماثيل آلهة، وعن أن يكون من اللاعبين بإيراد البرهان، وهذا من الأسلوب الحكيم إذ مقتضى الظاهر، بل أنا من المحقين لا من اللاعبين وجاء ببدله وهو قوله: { بل ربكم } لأن فيه تحقيق ما أراد، ونفى اللعب وقرره بقوله: { وأنا على ذلكم من الشاهدين } وزاد إذ لم ينفعهم جوابُه شدة بالفعل، كما قال الله عز وجل:
{ وتاللَّه لأكيدن } فى يوم عيدكم هذا { أصنامكم } اجتهد فى كسرها باحتيال، فإن أصل الكيد الاحتيال فى إيجاد ما يضر، مع إظهار خلافه، هو يستلزم الاجتهاد، ولكن أخبرهم ليجمعوا أمرهم فى حفظها، فإذا كسرها مع ذلك كان أشد غلبة، أو قال ذلك فى قلبه، أو حيث لا يسمعون، وقيل سمعه رجل واحد منهم، وقيل: سمعه ضعفاء فى آخر الناس فى مشيهم إليها يوم العيد، وكانت سبعين تمثالا، وقيل اثنين وسبعين، والمشهور أن مفيد التعجب من حروف القسم، هو اللام.
ويجوز فى التاء أن تكون تعجب، وأن لا تكون وقيل لا تكون الإله وأصل حروف القسم الباء، إذ يجوز ذكر فعل القسم معهما، وتجر الظاهر والمضمر والتاء بدل من الواو، كما فى تجاه والواو قائمة مقام الباء لمناسبة الشفوية فيهما، مع أن فى الواو معنى قريباً من الإلصاق الذى هو اصل فى الباء، وقيل ليس حرف قسم أصلا للآخر.
{ بعد أنْ تُولُّوا } ترجعوا فى عبادتها { مُدْبِرين } عنها فهو حال مؤكد لعامله، كذا شهر، انظر كيف يرغب إبراهيم عليه السلام فى تأكيد توليهم، فلو قلت بعد أن تولوا تولياً عظيماً أو محققاً لم تقبل. اللهم إلا أن يريد أن تولوا توليا محققا لا يبقى منكم من يتخيل بى فإذا قلنا بعد أن تولوا عنها بأجسامكم مدبرين عن عبادتها، لم يكن فى ذلك تأكيد، وهذا أولى أوهمهم فى طريقه معهم الى عيدهم بأنه سقيم من رجليه فى مشيه، هذا وتركوه فرجع الى الأصنام { فجعَلهُم جُذاذاً } عطف على محذوف أى تولوا مدبرين، فجعلهم جذاذاً، وكان معهم يترقب ذهابهم أو أتى فجعلهم جذاذاً أى قطعاً بمعنى مجذوذاً، أى مقطوعاً كالحطام بمعنى محطوم، أى جلهم شيئاً مقطوعاً، وهو فى الأصل مصدر يصدق على القيل والكثير.
وقيل: جمع أو اسم جمع مفرده جذاذة كزجاج، وزجاجة، وكلم وكلمة، ويقال خرج به آزر فى عيد فدخلوا عليها، وسجدوا لها، وجعلوا طعاماً بين أيديها تبرك لهم فيها، فاذا رجعوا أخذوه وقعد ابرهيم فى الطريق، وقال إنى سقيم، فكسرها بفأس إلا كبيراً عند الباب من ذهب عيناه جوهرتان تضيئان ليلا، وعلقه فى يده أو عنقه، كما قال عز وجل:
{ إلاَّ كبيراً لَهُم } فانه لم يكسره ليرجعوا اليه كما قال الله عز وجل: { لعلَّهم إليه } الى الكبير { يَرجعُون } لعل للتعليل أى ليرجعوا اليه فيخاطبوه بأن يقولوا له: أخبرنا من كسر الأصنام، ولم تركت مريد كسرها الى كسرها، ولعلك أنت الكاسر لها غضباً، لأن عبدت معك، ولم كسرت وسلمت أنت، ولم علق فيك الفأس، فلا يجيبهم بشىء فيتبين عجزه، وخطأهم فى عبادته، إذ لا ينفع ولا يدفع الضر، ولم ينتقل من مكانه الى كسرها غضباً، وهو كسائرها مثبت فى الأرض برصاص او غيره، وإن لم يثبت بذلك، فإنهم لا يرون أثر المشى إليها للكسر، ظن فيهم لشدة ميلهم إليها والى الكبير أنهم يعتقدون أنها تفعل كالعاقل، فبكتهم. وإن لم يظن ذلك فيهم، فكسرها وتعليقه الفأس عليه استجهال لهم. واستهزاء، فان من شأن المعبود أن لا يفعل به ذلك، وأن يضر وينفع.
وقيل: الضمير لله، أى لعلهم يرجعون الى الله بتوحيده، إذ سألوا: وظهر عجز آلهتهم، وقيل لإبراهيم أى لعلهم يرجعون الى ابراهيم، فيسألونه فيفحمهم، عليه الجمهور، وذلك كله ترج منه عليه السلام. ويجوز أن يكون ذلك من الله، أجبر به عنه، والتقديم للفاصلة، وقيل للحصر ولها، وقيل: للحصر على القول الأخير، وللفاصلة، ويحتمل الحصر الفاصلة علىالأولين، ومن وجد عند صبى مثلا فخاراً أو عوداً أو نحوه على صورة آدمى، أو صليب أو نحو ذلك مما يحرم لزمه كسره لوجوب الأمر والنهى باليد لمن قدر بها فى مثل ذلك فى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكذا من قصة ابراهيم، فان هذا مما لا تختلف فيه الشرائع، وكأنه قيل ما قالوا، إذ رجعوا من عيديهم، ورأوها جذاذاً، فقال الله عز وجل:
{ قالُوا مَنْ فَعَل هذا } من فعل هذا الكسر ومثله التعليق { بآلهتنا } والاستفهام حقيقى إذ لا يدرون الفاعل فهم يريدون أن يعين لهم، وفى ضمنه تويبخ وإنكار للياقة { إنه لَمن الظالمينَ } مستأنف، أو من موصولة، وهذه الجملة خبرها، وذكروها باسم الآلهة إعظاماً لها،كما يعبدونها ولم يسموها تماثيل أو أصناماً، والتشنيع على كاسرها إذا أهانها وعرض نفسه للهلكة من جانبها، أو من جانبهم.