التفاسير

< >
عرض

فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ ٱلْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَٱلطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ
٧٩
-الأنبياء

تيسير التفسير

{ فَفَهَّمناها سليمان } عطف على يحكمان، لأنه ماض بصورة المضارع كما مر، وها للقضية أو الفتيا المعلومة من يحكمان، روى أن أن جاريتين جميلتين لعابدة اسرائيلية كبيرة السن، قالتا، لو قتلناها لنصير الى الرجال، فألقتا ماء البيض فى فرجها وثوبها حين سجدت، وصاحتا بأنها زنت، فأراد داود رجمها فقال له سليمان: بل أوقد عليه النار، فان كان بيضاً اجتمع أو ماء الرجل افترق، فاجتمع ولم يرجمها، فدخل رجل يدعى على الآخر معه أن غنمه أفسدت حرثه، فقضى له بالغنم، وخرجا وسليمان على الباب كعادته، فسألهما عما حكم به، فقال: غير هذا أرفق بهما، فسأله داود بالنبوة والأبوة ما هو؟ فقال أرى أن يقوم صاحب الغنم بالحرث حتى يعود وينتفع صاحبه بلبن الغنم والصوف، ثم يترادا، فحكم داود بهذا، وكان سليمان ابن أحد عشر عاما، وأحبه أبوه حباً شديداً لهذه الحكم.
وكلا الحكمين عن اجتهاد لا عن وحى، لأن داود رجع عما حكم به وسليمان قال أرى: ولو كان وحياً لبته، ولم ينتظر الى أن يطلب اليه مع أنه ليس فى سن، والوحى لا يبطل بالاجتهاد، ولا بأس برجوع المجتهد الى غير ما ظهر إذا رآه أفضل، كما ترجع الصحابة بعض إلى بعض، ألا ترى قوله عز وجل: { ففهمناها } وتكلف خلاف الظاهر من زعم أنهما وحيان الثانى ناسخ للأول أو أنه أوحى الى داود أن يرجع إلى قول سليمان، ولو كان ما قال سليمان اجتهادا، والمذهب أنه يضمن صاحب الغنم الحرث، وعلى أصحاب المواشى حفظها ليلا ونهارا ما لا طاقة لهم، فقد جاء الحديث جرح العجماء جبار وإن اتبعها صاحبها يصيح ضمن، لأنها تزيد بصياحه.
وفى رواية: على أصحاب الماشية حفظها ليلا، وعلى أصحاب الأموال حفظها نهارا، ورد هذا فى شأن ناقة البراد أفسدت فى حائط رجل، وفى الرواية اضطراب وكلام فى سنده، مع أنه يمكن أن البراء أرسلها كما يجوز له، وزعم أوب حنيفة أنه ضمان على صاحب الدابة إذا لم يكن معها سائق أو قائد، وذكر لذلك حديث العجمل، وزعم الشافعى أنه يجب الضمان ليلا، وأنه من غصب عبداً فائق منه أنه يضمن القيمة، وينتفع بها المغصوب منه، بإزاء ما فوته الغاصب، فإنه ظهر الآبق ترادا.
وعن أبى حنيفة: فى العبد القاتل أنه يعطى الولى أو يفديه، ويبيعه، وروى أنه لم يكن بين قيمة الحرث والغنم تفاوت،
"روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمروا بن العاص: اقض بين هذين فقال: أقضى وأنت حاضر؟! فقال: نعم قال: على ماذا أقضى؟ قال: على أنك إن أصبت فلك عشر حسنات وإن أخطأت فلك أجر واحد" فقد بين صلى الله عليه وسلم أن المجتهد يصيب ويخطىء وفى الآية إلى قوله: { ففهمناها سليمان وكلا آتينا حكماً وعلماً } مدح لسليمان بأنه فهم ما لم يفهم أبوه، وإن المجتهد معذور خطئة، وأن حكمه علم لو أخطأ.
{ وكلا } منهما { آتينا حُكماً وعِلماً } كثيراً فى الجملة، وأما فى هذه المسألة فالعلم لسليمان، وقد يقال: حكم داود فيها حق أيضا إذ كل المجتهد فى الفروع مصيب عند الله، بمعنى أن الله عز وجل أباح حكمة وعذره وأثابه، ولو لم يوافق الحق عنده، أو بمعنى أن الحق عند الله ما يحكم به الحكام، ولو تناقضت أحكامهم فى مسألة واحدة، ولا حكم لله غير أحكامهم فضلا عن أن يقال: وافق الحكم ما عنده أو لم يوافق، وهو الذى خلقها منهم على كل حال، وإذا عين الوحى واحدا تعين فى العمل به، وترك غيره كحكم داود.
وعن مجاهد: ما لسليمان صلح، وما لداود حكم، والصلح خير، وذكر الجصاص أنهم ضمنوا لأنهم أرسلوا الغنم، وإنما اثيب المخطىء على اجتهاده، لا على خطئه، ولفظ البخارى ومسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر" وفى البخارى ومسلم عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كانت أمرأتان معهما ابناهما فجاء الذئب فذهب بابن أحداهما فقالت لصاحبتها: إنما ذهب بابنك، وقالت الأخرى: إنما ذهب بابنك، فتحاكمتا إلى داود فقضى به للكبرى، فخرجتا على سليمان بن داود فأخبرتاه فقال: إيتونى بالسكين أشقه بينكما، فقالت الصغرى: ولا تفعل رحمك الله هو ابنها، فقضى به للصغرى" أى لشفقتها عليه.
{ وسخَّرنا مع داودَ الجبال يسبِّحْن } إذ سبح يقلن سبحان الله ويسمعها داود، وقيل وغيره أيضا كما سبح الحصا فى يد رسول الله صلى الله عليه وسلم تسبيحاً سمعه هو وغيره من الصحابة، وألقاهن فى يد صحابى فسبَّحن، وفى يد آخر كذلك، وهو أعظم لأنهن سبَّحن بلا تسبيح منه، وسبحن ببركته فى يد غيره، وقيل: تسبيح الجبال صوت يسمع من جانبها، وليس فى ذلك من الكرامة ما فى تسبيحها مع أنه خلاف الظاهر، وقيل: يسبحن بلسان الحال، ولا كرامة فيه وقيل يسبحن يسرن فيحملن من رآها على التسبيح، ولا دليل على هؤلاء الأقوال، وهن خلاف المتبادر، والتفسير الأول هو الصحيح، وقوله عز وجل:
" { يا جبال أوبى معه والطير } " [سبأ: 10] يخالف التفسير بلسان الحال، وتفسير بعض الصَّدا والتفسير بالسير، والجملة حال من الجبال أو مستأنفة، ومع متعلق بسخر أو يسبح { والطيَّر } عطف على الجبال أو مفعول معه تسبح كما تسبح الجبال { وكنا فاعلين } من شأننا أن نفعل ما يستعظم ويستغرب لكمال قدرته.