التفاسير

< >
عرض

وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ ٱلصَّالِحِينَ
٨٦
وَذَا ٱلنُّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَىٰ فِي ٱلظُّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ ٱلظَّالِمِينَ
٨٧
فَٱسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ ٱلْغَمِّ وَكَذٰلِكَ نُنجِـي ٱلْمُؤْمِنِينَ
٨٨
-الأنبياء

تيسير التفسير

{ وأدْخلناهُم فى رحْمتِنا } وعلل هذا تعليلا جمليا بقوله: { إنهم من الصالحين } الكاملين فى الصلاح لعصمتهم من الذنوب.
{ وذا النُّون } صاحب الحوت يونس بن متى، ومتى أبوه كما قال البخارى وغيره،وصححه ابن حجر، وكذا قالت اليهود، إلا أنهم يسمونه يونه بن اميتاى، وبعض يونان بن أماتى، وكان فى زمان ملوك الطوائف من الفرس، ومعنى ملوك الطوائف تعدد الملوك، كل على طائفة، ولم يجمعهم ملك واحد وقيل متى اسم أمه فلم ينسب نبى إلى أمة إلا يونس وعيسى عليهما السلام، ويروى أن جبريل قال ليونس: أنذر أهل نيونى، فقال التمس دابة، فقال: الأمر أعجل من ذلك، فغضب وانطلق الى السفينة، ولعل هذا قبل النبوة، ولم يعلم انه جبريل.
وعن وهب: أنه كان يونس عبداً صالحا فى خلق ضيق فلما تحمل أثقال النبوة تفسخ تحتها تفسخ الربع تحت الحمل الثقيل، فقذفها من يده وهرب منها، فأخرجه الله من اولى العزم من الرسل، وقال:
" { اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل } " [الأحقاف: 35] وقال: " { ولا تكن كصاحب الحوت } "[القلم: 48] وعن ابن عباس: كانت رسالته بعد الخروج من بطن الحوت لقوله تعالى عقب ذكر خروجه من بطن الحوت: " { وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون } "[الصافات: 147] وأجاز بعضهم الصغيرة قبل النبوة، وقد قال الله عز وجل: " { وإن يونس لمن المرسلين * إذا أبق إلى الفلك } " [الصافات: 139 - 140] فهو من المرسلين قبل الإباقة لا بعدها.
{ إذْ ذَهب } عن قومه { مغاضبا } غضب عليهم غضبا شديداً لطول مكثه فيهم بالأمر والنهى، فالمفاعلة هنا للمبالغة شبه غضبه وحده بالغضب الذى هو مقابل لغضبهم عليه لجامع الشدة، ولا يقال هو على بابه من المفاعلة بين متعدد، لأنهم أيضاً غضبا عليه، إذ خافوا العذاب لذهابه بلا ايمان منهم، لأنا نقول ليس الخوف غضباً اللهم إلا على طريق الشبه، ولا يقال هذا مفاعلة بلا مقابل، ولا مبالغة، مثل سافرت، لأنا نقول تحقق وجود سافرت فى ذلك، ولم يتحقق وجود المغاضبة كذلك فى كلام آخر.
ويقال سبى ملك من فلسطين تسعة أسباط، ونصفاً من قوم يونس، وهو ساكن فيها فأوحى الله الى شعياء أن يأمر حزقيل الملك أن يوجه خمسة من الأنبياء لقتاله، فأمر يونس فقال: هل أمرك الله بإخراجى أو سمانى؟ قال: لا، قال: هنا أنبياء غيرى فالحوا عليه فخرج بلا إذن من الله عز وجل مغضباً له، وركب سفينة فى بحر الروم، وأشرفت على الغرق فى اللجة، فقال الملاحون، هنا عاص أو آبق، ومن العادة أن نقترع فنلقى من وقعت عليه، فغرق واحد أهو من غرق السفينة ومن فيها، وخرجت على يونس ثلاثاً فقال: أنا العاصى الآبق، فكلما أتى جانباً من السفينة وحد حوتاً فاغراً فاه، فالقى نفسه، فأوحى الله اليه أن لا تخدشيه فإنك سجنه، وهذا على ظاهره، أو بمعنى قضى الله عز وجل أن لا تخدشه.
ولما نبذته بالعراء ضعيفاً كالفرخ أنبت الله عز وجل عليه شجرة من يقطين، قيل يأكل من ثمارها، أو تظله وترضعه أروى، ولما يبست حزن فأوحى الله اليه أتحزن على شجرة ولم تحزن على مائة ألف أو أكثر؟ أوحى الله اليه أن اذهب اليهم فقل لملكهم، أن الله أمرك ان ترسل بنى إسرائيل معى، فقال لو علمنا أنك نبى لفعلنا، ولو كان الأمر كذلك لمنعنا الله من سبيهم، ودعاهم ثلاث أيام، فأوحى الله عز وجل: أبلغهم إن لم يؤمنوا عذبوا، فأبلغهم ولم يؤمنوا وندموا، فسألوا العلماء من بنى إسرائيل فقالوا إن خرج فقد صدق، فلم يجدوه، وقيل لهم: خرج العشية، وأغلقوا الأبواب عن المواشى، فلم تدخل وفرقوا بين الأولاد والأمهات من كل حيوان، فلما انشق الصبح جاء العذاب، وألقت الحوامل ما فى بطونها، وصاحت الصبيان والدواب، فرفع العذاب فبعثوا الى يونس فآمنوا، وأرسلوا بنى إسرائيل معه.
{ فظن أن لَن نَقْدر عليْه } نضيق عليه السجن فى بطن الحوت أو غيره، ولا علم له بالحوت حتى وقع فى فمه، دخل ابن عباس على معاوية، فقال معاوية، ضربتنى أمواج القرآن الليلة، فغرقت، كيف ينفى نبى الله القدرة عن الله؟ فقال ابن عباس: ذلك من القَدْر لا من القُدْرة، أى من التضييق لا من معنى القدرة ضد العجز، تعالى، أو لن نقضى عليه بعقوبة، ويدل له قراءة عمر بن عبد العزيز بضم النون وشد الدال، وقراءة على بياء مضمومة وشد الدال من التقدير بمعنى القضاء، ولكن يجوز أن تكون القراءتان من معنى التضييق.
ويجوز أن يكون المعنى عمِل عمَل من ظن أن لا تعمل فيه قدرتنا، أو لا نستعمل قدرتنا بتنجيته، بل نتركه وأما أن يسمى وسوسة الشيطان له بأن لا قدرة الله تعالى على تنجيتك ظنهاً مع أنه ينفيها جزماً كما زعم بعض أنه أزله الشيطان حتى ظن أن الله عز وجل لا يقدر عليه، وتاب وقبلت توبته، فلا يتم لأن ذلك غير ظن إلا مجازاً حتى أنى اقول لا وجه لتوقف المصلى وسكوته، والاشتغال بنفى ما وسوس به الشيطان مع مقارنه إنكاره لوسوسته، وإنما يفق وينفى أو ترجح عنده ما يوسوسه به، أو ارتاب به.
{ فَنَادى } كان منا كان من ركوب السفينة والمقارعة، والتقام الحوت فنادى { فى الظلمات } ظلمة واحدة شديدة، كأنها ظلمات، أو تركبت من أجزاء كل جزء ظلمة وأما قوله:

وليل يقول الناس فى ظلماته سواء صحيحات العيون وعورها

فيحتمل أن الجمع لتعدد الناس: ومع ذلك لا بد من اتفاقهم فى شدة الظلمات، وكذل كالظلمة فى الحوت كظلمة العين العوراء التى لم يبق فيها إبصار ما، أو ظلمة الحوت وظلمة البحر، وظلمة الليل إذا جاء الليل أو هؤلاء الثلاث مع ظلمة حوت أخرى بلع هذه.
{ أنْ لا إله إلاَّ أنْتَ } أن مخففة من الثقيلة، أى أنه أى الشأن، أو تفسيرية لتقدم ما فيه معنى القول لا خروجه وهو النداء، ومن الجائز أن يقدر أنك لا إله إلا أنت { سحبانك } أسبحك تسبيحك، أى اللائق بك، أو حكاية لقول الله: سبحت نفسى، كما قال بعض: إن سبحان الله علم على تسبح الله نفسه لا تسبيح فيه الأحد إلا حكايته { إنى كنْتُ } بهجرتى إذن منك { من الظالمين } لأنفسهم أولها ولغيرها بذنوبهم، قال صلى الله عليه وسلم:
"دعوة ذى النون إذ هو فى بطن الحوت لا إله إلاَّ أنت سبحانك إنِّى كنت من الظالمين لا يدعو بها مسلم ربه إلا استجاب له" وعن الحسن: أنها اسم الله الأعظم، وذلك قال الله عز وجل:
{ فاسْتَجبنا له } دعاءه { ونجَّيْناه مِن الغَمِّ } وليست الإجابة مختصة باسمه الأعظم، عن أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم:
" لما انتهى به الحوت الى أسفل البحر سمع حساً فقال فى نفسه: ما هذا؟ قيل: هذا تسبيح دواب البحر، فسبح هو فسمعت الملائكة تسبيحه فشفعت له" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لما دعا بها حفت بالعرش فقالت الملائكة صوت ضعيف من موضع غريب" وروى صوت معروف من موضع مجهول فقال الله جل وعز أما تعرفونه؟ قالوا: لا، قال: صوت عبدى يونس، قالوا، يا ربنا فرج عنه، إذ لم يزل يرفع منه عمل مقبول فى الرخاء، فأمر الحوت بإلقائه بأن جذبها الماء الى البر أو أقدرها الله على الحياة والمشى فى البر والرجوع الى الماء. والغم غم المكث فى بطن الحوت من الضحا للعشية، أو ثلاثة أيام أو سبعة أو أربعين يوماً أقوال، ويضعف تفسير الغم بالخطيئة.
وقال هنا: { ونجيناه } بالواو، وفى قصة أيوب:
{ فكشفنا } [الأنبياء: 84] بالفاء لأن ما هنا زيادة أحسان على مطلوبه، فلم يترتب بالفاء كترتب الاستجابة والكشف، ولا مانع من كون التنجية من الغم بعض تفصيل للاستجابة قبله، والتفصيل يكون بالواو، وكالفاء إلا أن الفاء فيه أكثر أو الفاء فى أيوب ونوح لاعتبار شأن التفصيل لكثرة ما يفصل فيهما، والواو فى ذى النون وزكريا لقلته بالنسبة، ورد فى القرآن أذكار ذكر جزاءها بعدها قوله تعالى: { لا إله إلا أنت سبحانك إنى كنت من الظلمين } الخ " { حسبنا الله ونعم الوكيل } " [آل عمران: 173] الخ " { وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد * فوقاه الله } " [غافر: 44 - 45] الخ " { ما شاء الله لا قوة إلاَّ بالله } " [الكهف: 39] الخ " { رب لا تذرنى فرداً } " [الأنبياء: 89] الخ وغير ذلك.
{ وكذلك نجى المُؤمنين } ننجى سائر المؤمنين مثل ذلك الإنجاد إذا دعونا فى غم مخلصين، وهو مضارع أنجوا حذفت النون الثانية الأصلة فى الخط لا الأولى الزائدة لحصول التكرير بالثانى دون الأول، لكن تخفى فى الجيم لأنها ساكنة تخرج من الخيشوم، وكذلك تخفى فى الشين والضاد.