التفاسير

< >
عرض

فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا ٱسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِٱلْغُدُوِّ وَٱلآصَالِ
٣٦
رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ ٱللَّهِ وَإِقَامِ ٱلصَّلاَةِ وَإِيتَآءِ ٱلزَّكَـاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ ٱلْقُلُوبُ وَٱلأَبْصَارُ
٣٧
-النور

تيسير التفسير

{ فى بيوتٍ أذنَ الله أن تُرفَع ويُذكر فيها اسمُه يسبِّح له فيها بالغُدو والآصال رجالٌ } فى بيوت نعت لمشكاةٍ، أو من باب الاشتغال، والاشتغال أبداً من باب التوكيد، أى يسبح فى بيوت، والشاغل ها من قوله: { فيها } كقولك: فى الدار جلست فيها، وبزيد مررت به، وذلك من تأكيد الحدث، وإن أريد تأكيد غيره جعلنا فى بيوت متعلقاً بيسبح المذكور، وفيها توكيداً لقوله: { فى بيوت } وفى المثال تعلق بزيد بمررت المذكور، ونجعل به تأكيداً لزيد، ولا يعترض بأن الضمير ضعيف لا يؤكد الأقوى، لأنا نقول باب التوكيد أوسع، يصدق بذكر أدنى شىء، يستغنى عنه، بل التوكيد والمؤكد الجار والمجرور لا المجرور وحده، ولا تتوهم أن الحرف ومجروره بدل من الحرف ومجروره، بل تأكيد، كقولك: فى الدار فى الدار، وبزيد بزيد، لأن الضمير بمنزلة مرجعه، ولا تقلد ما يخالف ذلك، ويبعد تعليقه بيوقد.
والمراد ببيوت بيوت مخصوصة، وهى المساجد الاسلامية فى الأمم السالفة، وهذه الأمة ومقابلها مساجد الكفر وبيوت السكنى ونحوها، لا خصوص موضع السجود، من القدس والمسجد الحرام، ومسجد المدينة، ومسجد قباء، ومعنى { أذن الله ان ترفع } امر بتعظيمها كصيانتها من دخول الجنب والحائض، والنفساء والأقلف، والسكران بمحرم، وعن مسهم إياها، ولو من خارج، واستنادهم عليها من خارج، ودخول الصبيان والمجانين، وإدخال الميت، قال صلى الله عليه وسلم:
" "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم، وشراءكم وبيعكم، وخصوماتكم ورفع أصواتكم، وإقامة حدودكم، وسل سيوفكم، واتخذوا على أبوابها المطاهر، وجمروها فى الجمع" .
وقيل: رفعها بناءها كقوله تعالى: " { بناها * رفع سَمكها فسواها } "[النازعات: 27 - 28] وقال عز وجل: " { وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت } "[البقرة: 127] ولا يسرف فى تزيين المسجد بالنقش، وليس ذلك من رفعه المأمور به، ومن الاسراف نقش جامع قرطبة بالذهب مكتوباً به القرآن كله فى سواريه، وهى نحو تسعمائة سارية من الرخام الفائق، وإنفاق الوليد بن عبد الملك فى عمارة جامع دمشق مثل خراج الشام ثلاث مرات، وروى أن سليمان بالغ فى تزيين بيت المقدس وعمارته، وأقام فى عمارته كذا وكذا ألف رجل سبع سنين، ووضع آجره من الكبريت الأحمر على رأس قبة الصخرة، تغزل النساء فى ضوءها ليلا على اثنى عشر ميلا، وفعل النبى ليس إسرافاً، وليس إسرافاً بناء عثمان مسجد النبى صلى الله عليه وسلم بالساج، وكذا بالغ عمر بن عبد العزيز فى تزيينه ونقشه، ولم ينههما أحد.
وعنه صلى الله عليه وسلم:
"ما ساء قوم قط إلاَّ زخرفوا مساجدهم" وعن ابن عباس: أمرنا أن نبنى المساجد جماء، وجاءت الأنصار بمال فقالوا: يا رسول الله زين به مسجدك، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الزينة والتصاوير للكنائس والبيع بيضوا مساجد الله تعالى" ومن شأن المسجد أن يعمر صفة الأول حتى يفرغ، ثم الثانى وهكذا، وإذا دخل رجل قصد يمين المحراب من الصف الأول، والثانى يساره، والثالث مقابله، والرابع حيث شاء، ولا يجزى عمارة فى موضع من غير الصف الأول عن موضع فى الصف الأول، فإذا كان فى اليمين أَحد فى غير الأول، وجاء آخر قصد اليمين من الأول، لأن المعتبر فى التقديم هو الأول، حتى يتم فى صلاة الصف، وإن كانت فيه محاريب اعتبر الذى يصلى فيه الإمام فى الحال.
وقال صلى الله عليه وسلم:
"من رأيتموه ينشد شعراً فى المسجد فقولوا له فض الله تعالى فاك ثلاث مرات، ومن رأيتموه ينشد ضالة فى المسجد فقولوا لا وجدتها ثلاث مرات" ويستثنى شعر العلم والحكمة، والوعظ والمدح النبوى، قال صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم القملة فى المسجد فليصرها فى ثوبه حتى يخرجها" ويمنع من دخول ذى البصل والثوم والكراث والبخر والصنان فى المساجد، واتخاذها طريقاً، والمكث فيها، أو المرور بلا ركعتين، ومن تعظيمها تقديم اليمنى دخولا، واليسرى خروجاً.
قال بعض الصحابة، إذا طلع شىء من الصدر أو نزل من الرأس، ولم يبزقه فى الأرض، ولا فى ثوبه، بل بلعه احتراماً للمسجد أدخل الله فى جوفه الشفاء، وأخرج منه الداء، وهل له البصاق فى الصلاة فى أرض المسجد يساراً وتحت قدمه؟ قيل نعم، ويصلح ذلك بعد السلام، وقيل لا إلا فى ثوبه، وعن أبى هريرة مرفوعاً: إن لم يجد موضعاً فى المسجد فليبصق فى ثوبه وليحكه، والغدو مصدر بمعنى الزمان، والآصال جمع أصل بمعنى أصيل كعنق وأعناق، أو جمع أصيل كشريف وأشراف، على خلاف القياس، والغدو من أول النهار الى الزوال، والأصل من الزوال الى الصبح، وعن ابن عباس: الغدو وقت الضحا، وأن صلاة الضحا من هذه الآية، وخص الرجال بالذكر، لأنهم أحق بعمارة المساجد، قال صلى الله عليه وسلم:
"مساجد نسائكم قعر بيوتهن" .
{ لا تلهِيهم تجارة } معاوضة بأى وجه { ولا بيْعٌ } تخصيص بعد تعميم أو التجارة المعاوضة بالربح والبيع المعاوضة مطلقاً، فهو تعميم بعد تخصيص أَو التجارة الشراء لأنه مبدأ لها، أَو التجارة الجلب، فلا تخصيص ولا تعميم، وفى الآية مدح لمن يجمع العبادة والكسب، ويجوز أن يكون المعنى من لا يتجر ولا يبيع، فضلاً عن أن يلهيهم ذلك كاهل الصفة، والأول أولى، لأنه ظاهر العبارة، وأهله الفاعلون له أكثر، وهو قول الحسن البصرى، إذ قال: كانوا يتجرون ولا تلهيهم تجارة عن ذكر الله تعالى قلت: بل الآية تشملهما بمعنى أنها إما أن تكون ولا تشغلهم، وإما أن لا تكون.
{ عنْ ذكر الله } بتلاوة القرآن وغيرها { وإقام الصلاة } فى أول وقتها بالطهارة والخشوع والاخلاص، والأصل أقوام نقلت فتحة الواو الى القاف فحذفت للساكن بعدها، ولم تعوض التاء عنها لقيام الاضافة مقامها، وقيل: بجواز ترك التاء، ولو بلا اضافة { وإيتاء الزكاة } جزءاً من المال مخصوص من الحبوب الست، والنقد والأنعام لبلوغ النصاب، فطاعتهم لا تختص بالمسجد، وذكرت الزكاة على عادة الله عز وجل فى قرنها بالصلاة، وكذا خوفهم لا يختص به.
{ يخافونَ } أينما كانوا { يوماً } هول يوم أو عذاب يوم، والجملة نعت رجال أو حال من الهاء { تتقلبُ فيه القُلوبُ والأبصارُ } نعت يوماً، وهو يوم القيامة، تضطرب فيه القلوب والأبصار، بتوقع النجاة، وخوف الهلاك، والنظر يمينا وشمالاً إذ لا يدرون من أين يؤتون، ولا فى أى يد يعطون كتبهم، وبعلم ما لم يعلموا مشاهدة وروية ما لم يروا
" { وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر } "[الأحزاب: 10] وكانه قيل تتقلب فيه القلوب ببلوغها الى الحناجر، والأبصار بالشخوص والزرقة أَو تتقلب القلوب إلى الإيمان بعد الكفر والإبصار الى العيان بعد انكاره للطغيان " { فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد } " [ق: 22].