التفاسير

< >
عرض

وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي ٱلأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِي ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذٰلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ
٥٥
-النور

تيسير التفسير

{ وَعَدَ الله } فى علمه وفى اللوح المحفوظ { الَّذين آمنُوا منْكُم } يا محمد وأصحابه فمروا الكفار والمنافقين مواجهة وصريحاً، ولا تخافوا مضرتهم، فإنها لا تحصل البتة او لا تفيدهم شيئاً، فإن الوعد بالاستخلاف وعد بالإحياء والنصر، وذلك أيضاً امتنان ووسط منكم بين آمنوا وبين قوله: { وعَملُوا الصالحات } ولم يؤخره كما أخره فى قوله: " { وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً } "[الفتح: 29] لتعجيل ذكر مسرة المؤمنين، فان الآية سيقت لذلك، وأيضاً الايمان هو الأصل الذى ينبنى عليه الاستخلاف، وهو مستلحق للعمل الصالح إذا تحقق.
ولا شك أن المراد الايمان المحقق، فالعمل الصالح فرعه فأخره، فان فسق الامام وأمر بعد الاستتابة عزل، وإن عاند قتل، كما ورد فى الحديث، قال أبى بن كعب: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة والمهاجرون، رمتهم العرب عن قوس واحد، والتزموا السلاح ليلاً ونهاراً خوفاً من العرب، وقالوا هل نعيش حتى نبيت آمنين، فنزل قوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات }.
{ ليسْتخلفَنَّهم فى الأرض } الى قوله: { الفاسقون } وقيل: الخطاب فى منكم للمنافقين المقسمين جهد أيمانهم، مقرر لقوله:
" { وإن تطيعوه تهتدوا } "[النور: 54] ويرده أنه ما مضى منهم إيمان محقق، ولا استقبل ولا قال وعد الله الذين آمنوا منكم إن كان منكم من آمن أو يؤمن، وزعم بعض ان الخطاب لكل من آمن فى أى مكان، وفى أى زمان فى زمان الرسول وبعده، والجملة جواب القسم، وهو وعد الله، لأنه عزيمة وتحقيق، فهو بمزلة: الله ليستخلفنَّهم، وبمنزلة أقسم بالله ليستخلفنَّهم، وقيل التقدير وعد الله الذين آمنوا الخ أن يستخلفهم، وأقسم ليستخفنَّهم فى الأرض، وهى مشارق الأرض مغاربها، لقوله صلى الله عليه وسلم: "زويت لى الأرض فأُريت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتى ما زُوى لى منها" .
{ كما استخْلفَ } استخلافاً ثاباً كاستخلافه { الَّذين من قبلهم } كبنى اسرائيل، ملكوا الشام بعد هلاك فرعون، والقبط قيل ومصر، على أنهم رجعو إليها أو ملكوها، وهم فى الشام، وكالمؤمنين بعد هلاك عاد، وبعد هلاك ثمود، وهلاك قوم لوط.
{ وليمكنَنَّ لهُم دينهم الَّذى ارتضى لَهُم } وهو دين الاسلام، اختاره لهم، وأنعم عليهم به، يثبته لهم، ويجعله لهم كمكان لساكنه، فإن أصل التمكين جعل الشىء مكاناً لشىء، أو جعل الشىء فى مكان، وقد جعلهم الله فى الاسلام كإسكان الرجل أهله فى دار { وليبدلنَّهُم من بعد خَوْفهم } من أعدائهم خوفاً مطبوعاً فى البشر، ولو كانوا مؤمنين موقنين { أمناً } عظيماً فى الدنيا، يزول معه الخوف من أعدائهم البتة، يورثهم الأرض، ويجعلهم فيها خلفاء، كما أورث بنى إسرائيل مصر والشام.
كانوا فى مكة خائفين عشر سنين، ولما هاجرو كانوا فى المدينة يصبحون فى السلاح، يمسون فى السلاح، حتى قال الرجل ما يأتى علينا يوم نأمن فيه ونضع السلاح، فنزلت الآية، وقال صلى الله عليه وسلم:
"ما بقى إلاَّ قليل فيكون أحدكم فى ملأ محتبياً لا حديد معه" وكذا قال لعدى: "لئن حييت لترينَّ الظعينة ترحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت لا تخاف إلاَّ الله تعالى، ولتفتحن كنوز كسرى، وترى الرجل يخرج بملء كفه ذهباً وفضة ولا يجد من يقبل عنه" قال عدى لقد شهدت ذلك، وكنت فيمن فتح كنوز كسرى.
وجاء:"إن الخلافة بعدى ثلاثون سنة، ثم تكون ملكاً" فكانت خلاله الصديق سنتين، وعمر عشراً، وعثمان اثنتى عشرة، وعلى ستاً، قال بعض: وتسعة أشهر، أو ليبدلنهم من بعد خوفهم فى الدنيا من عذاب الآخرة أمناً منه فى الآخرة { يعبدوننى } مطمئنين لا قلق لهم من جهة أعدائهم، لتدميرهم، والجملة حال من الذين الأول، أو من هاء ليبدلنهم، أو هاء ليستخلفنَّهم، وعلى أن الأمن فى الآخرة تكون مستأنفة لتعليل الأمن، أو الاستخلاف وما معه { لا يُشْركُون بى شيئاً } من الأصنام وغيرها، أو لا يشركون بى اشراكاً.
{ ومن كَفَر بعْد ذلك } المذكور من الاستخلاف والتمكين والتبديل { فأولئك هُم الفاسِقونَ } كاملوا الفسق حتى كأنه لا فاسق إلا هم، وذلك بالارتداد من اولئك المخلصين او من غيرهم، أو بالبقاء على النفاق بعد انتشار الاسلام فى غيرهم، أو الفسق النفاق بالجارحة، وهو فعل الكبيرة مع التوحيد.
قال جابر بن زيد: جلست مع حذيفة وابن مسعود رضى الله عنهما، فقال حذيفة: ذهب النفاق أى نفاق إضمار الشرك، إنما كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الفسق الكفر بعد الايمان، فضحك ابن مسعود أى استغراباً لذلك، ثم قال: بم قلت ذلك؟ قال حذيفة: بقوله تعالى: { وعد الله الذين آمنوا منكم } الخ فسكت ابن مسعود رضى الله عنه، أى رضى بما قال حذيفة، لأنه موضع سر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الآية حجة على صحة خلافة الأئمة الثلاثة والرابع على، فهم أربعة، وأبطلت دعوى الشيعة ان الامام بعده صلى الله عليه وسلم هو على، وهو نفسه مقر بإمامة الثلاثة قبله، ومن ذلك أنه استشاره عمر فى قتال فارس بنفسه، فقال: نصرة هذا الدين بوعد الله لا بالكثرة { وعد الله الذين آمنوا منكم } الخ ان مت أو أصبت تفرق الاسلام كمخرز انقطع سلكه، فقد لا يجتمع والعرب كثير بالاسلام والاجتماع وأنت القطب، والعرب تدور عليك كالرحى، وإن انتقلت انتقض العرب من أقطارها بعدك، فيكن ما وراءك أهم إليك مما بين يديك، وقالت العجم: هذا اصل العرب إن قطعناه استرحنا، فيشتد اجتهادهم، وإنما قاتلنا من قبل بالنصر من الله عز وجل.