التفاسير

< >
عرض

مَّا جَعَلَ ٱللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ ٱللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ ذَٰلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَٱللَّهُ يَقُولُ ٱلْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي ٱلسَّبِيلَ
٤
-الأحزاب

تيسير التفسير

{ ما جَعَل } خلق { اللهُ لرجلٍ مِن قلبَيْن في جَوفه } قيل لانه لا يخلو اما ان يفعل بهذا القلب كل ما يفعل الاخر: فأحدهما لا حاجة اليه، واما ان يفعل به ما لا يفعل بالاخر، فيكون راضيا كارها، جاهلا عالما، بخلاف اليدين مثلا فانه يحتاج اليهما معا فى العمل الواحد من الاعمال، وذكر القلب يغنى عن ذكر الجوف، لكن ذكر لتأكيد التصوير كانه مشاهد كقوله تعالى: " { ولكن تعمى القلوب التي في الصدور } " [الحج: 46] ومن صلة فى المفعول به، واذا لم يكن للرجال قلبان فأولى ان لا يكونا للمرأة والصبى قبل كبره.
نزلت فى انه صلى الله عليه وسلم سها فى صلاته، وقال كلمة بلا عمد فقال من يصلى معه من المنافقين له: قلبان: قلب قلب معكم، وقلب مع اصحابه، الا ترون الى كلامه فى الصلاة، روى مثله احمد والترمذى والطبرى عن ابن عباس، او نزلت فى ابى معمر الفهرى، يقول اهل مكة: له قلبان لقوة حفظه، وهو جميل بن أسد، او ابن أسيد بالتصغير، وسماه ابن دريد عبدالله بن وهب، وزعم بعض ان ذا القلبين جميل ابن معمر بن حبيب بن وهب بن حذافة بن جمح الجمحى، وقيل حارثة ابن حذافة، وكان ابو معمر يقول: ان لى قلبين افهم باحدهما اكثر مما يفهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومر منهزما يوم بدر بأبى سفيان، فساله فقال: ان الناس ما بين مقتول ومنهزم، وقال: ما بال احدى نعليك فى رجلك والاخرى فى يدك؟ فقال: ما ظنتها الا فى رجلى، فأكذب الله قوله وقولهم فيه، واسلم بعد.
او نزلت فى جماعة يقولون: لى نفس تأمرنى ونفس تنهانى، او نزلت فى هؤلاء كلهم، وقيل: من حق التقوى الى امرت بها ان لا يكون فى قلبك تقوى غير الله تعالى لانه ليس للمرء قلبان يتقى بواحد ربا، وبالاخر غيره، وقيل: مثال بان لا يكون لرجل امان، ولا يكون رجل واحد ابنا لرجلين، كما لا يكون له قلبان، فذلك نهى عن الظهار.
{ وما جَعَل } صير { أزواجكم اللائي تَظاهرون منهنَّ أمَّهاتِكم } الاصل تتظاهرون، ابدلت التاء الثانية طاء، وادغمت فى الظاء، ومعنى تظاهر انت ظهر امى مثلا، كأفف قال: أف، ولبى قال: لبيك، وكان الظهار طلاق الجاهلية، والظهر فى كلامهم ذلك بحسب الاصل مجاز عن البطن، لان الجماع من جهة البطن، والعلاقة الجوار، ولان الظهر عمود البطن، او ذكروا الظهر لانه محل الركوب، والمرأة تركب عند الجماع من جهة البطن، والمعنى انت محرمة على لا أركبك، كما لا أركب ظهر الام، او لان جماع المرأة فى قلبها من ظهرها حرام عندهم، وقيل: كنوا بالظهر عن البطن لانهم يستقبحون ذكر الفرج وما يقرب منه، ولا سيما فى الام، ويقال: ظاهرها وظاهر منها، وقيل: من لتضمن معنى التباعد.
{ وما جَعَل } صير { ادعياءكم } الصبيان الذين تدعون انهم ابناءكم عمدا على معرفة من الناس، انهم ليسوا ابناءكم، وتحكمون لهم بأحكام الابن فى الارث، والتزوج والتزويج، والانفاق وتجلى زوج المدعى للمدعى والعكس، وغير ذلك، والمفرد دعى، والقياس دعوى كجريح وجرحى، ولكن أشبه فعيل بمعنى من فعل اللام، فجمع جمعه كولى وأولياء، وتقى وأتقياء، واصله دعيو بكسر العين، واسكان الياء، قلبت الواو ياء، وادغمت الياء فى الياء، فعيل بمعنى مفعول.
{ أبناءَكم } كأبناكم، وكانوا يتبنون فى الجاهلية وصدر الاسلام، كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة تحقيقا زيد بن حارثة، فيدعى زيد بن محمد، والخطاب عامر بن ربيعة وابو حذيفة سالما مولاه، ونزلت الآية عامة، وقيل: نزلت فى زيد بن حارثة، والحكم عام، ونهاهم الله عز وجل عن التسمية، وما يبنى عليها لا على ما يبنى عليها فقط.
روى مسلم، والبخارى، والترمذى، والنسائى باسنادهم متصلا الى ابن عمر ان زيد بن حارثة، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه الا زيد ابن محمد صلى الله عليه وسلم، حتى نزل القرآن:
" { ادعوهم لآبائهم } " [الأحزاب: 5] الخ فقال النبى صلى الله عليه وسلم: "انت زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبى" ومن قال لعبده: انت ابنى فقد اعتقه، وكانت كتب الحديث غير موجودة فى مضاب، ورأى مالكى عالم من اهل مكة مضابيا ينسخ شرح النيل فى مكة، ولم يجد فيه الحديث كثيرا، فأعطانى البخارى ومسلما، والترمذى وابن ماجه، والنسائى وابا داود، وغير ذلك، وأنا حاضر فى مكة، فانتفعت بتلك الكتب، كما انتفعت بصحيح الربيع بن حبيب، فجمعت منها وفاء الضمانة، وجامع الشمل، فى حديث خير الرسل، وما خالفونا فى الاصول، والشئ بالشئ يذكر، لما ذكرت ذلك المالكى تذكرت ان جابر بن زيد قيل له: ان مالك بن انس راى الهلال وحده فى جملة الناس فقال لعل على حاجبيه شيئا، فامسحوا حاجبيه فمسحوهما وقالوا: انظر فنظر وقال لم اره.
{ ذَلكُم } ما ذكر من جعل الادعياء ابناء او هذا، وجعل الازواج امهات، او هذان وجعل قلبين فى جوف رجل واحد، وهو اعم فائدة، والوجه الثانى انسب بالاول، لان فيه التسمية متبادرة نعم، هى فى الثالث الا انها غير مذكورة، ولا متبادرة بل يقال خارجا: فلان ذو قلبين والاول اظهر لقوله بعد ذلك:
" { ادعوهم لآبائهم } " [الأحزاب: 5] وقوله: " { فإن لم تعلموا آبائهم } " الأحزاب: 5] { قولُكم بأفْواهِكُم } لا حقيقة له، فلا يبنى عليه حكم ارث، وما ذكر بعده.
اوصت خديجة رضى الله عنها حكيم بن حزام بن خويلد ان يشترى لها غلاما ظريفا عربيا: فاشترى لها زيدا من عكاظ، وقال: ان لم يعجبك فهو لى، فأعجبها فتزوجها صلى الله عليه وسلم، فاستوهبها فوهبته على ان لها الولاء ان اعتقه، فابى فوهبته بلا شرط، فشب عنده صلى الله عليه وسلم فرآه عمه فى ابل مر بها الى الشام لأبى طالب فى ارض قومه، فسأله مستقصيا فقال: انا مملوك لمحمد بن عبدالله بن عبدالمطلب، عربى من كلب من بنى عبد ود وانا، ابن حارثة بن شراحيل، اصبت فى اخوالى طيئ، واسم امى سعدى، فقال لحارثة: هذا ابنك؟ فقال له: كيف مولاك؟ قال: يقدمنى على عياله وولده، فركب ابوه وعمه واخوه اليه صلى الله عليه وسلم، فقال: يا محمد انتم اهل حرم الله وبيته وجيرانه، تكفون العانى، وتطعمون الاسير، هذا ابنى عندك، وانت ابن سيد قومه، نفديه منك بما احببت فقال صلى الله عليه وسلم:
"خير من ذلك ان يختاركم فتأخذوه بلا فداء ان اختاركم، يا زيد من هؤلاء؟ فقال: هذا ابي وهذا عمي، وهذا اخي ولا اختار احداً عليك انت مقام ابي وعمي، فقالا: اتختار العبودية؟ قال: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم لحرصهما: اشهدكما انه حر يرثني وأرثه وانه ابني" فطابا نفسا، وقيل سمع به فى مكة فجاءوا لذلك.
{ والله يقول الحق } الثابت فى نفس الامر، فدعوا قولكم اليه { وهُو يَهْدي السَّبيل } الحق يهيئه لمن شاء.