التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ ٱللاَّتِيۤ آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ ٱللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَٱمْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ ٱلنَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِيۤ أَزْوَاجِهِـمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥٠
-الأحزاب

تيسير التفسير

{ يا أيُّها النبي إنَّا أحْللنا لَك أزواجك اللاتي آتيتَ أجُورهنَّ } مهورهن كعائشة وحفصة وسودة، لأن المهر كالأجرة على الوطء وسائر الاستمتاع، وليس تعجيل المهور أو نقدها شرطا فى الاحلال، بل اختيار لما هو أفضل له، فله الوطء قبل الإعطاء، ولا ينافى هذا ما شهر أنه حل له التزوج بلا صداق، لأن المراد جوازه بلا صداق فيما أجازه الله تعالى، كزينب التى زوجه الله بها، وكاللاتى وهبن له أنفسهن كما يأتى بعد إن شاء الله تعالى، وقد قيل: ذكر المهور وإتياءها بناء على الواقع لا شرط، ولو تزوجهن بلا مهر لجاز، وأخذ بعض من الآية أنه لا يجوز له صلى الله عليه وسلم التزوج إلا بصداق منقود حاضر، مات صلى الله عليه وسلم عن تسع نسوة، وجميع ما تزوج أربع عشرة: خديجة بنت خويلد، وهى ثيب له، وهو بكر لها، ثم سودة بنت زمعة، ثم عائشة بمكة، ثم حفصة، ثم أم سلمة بنت أبى أمية، وأم حبيبة بنت أبى سفيان فى المدينة والست من قريش، وجويرة من بنى المصطلق، وصفية بنت حيى بن أخطب الإسرائلية، وزينب بنت جحش امرأة زيد بن حارثة أم المساكين، وكانت تأويهم، وهى أول من ماتت بعده من نسائه، وميمونة بنت الحارث الأسلمية، خالة ابن عباس، وزينب بنت خزيمة، وامرأة من بنى هلال وهبت نفسها للنبى صلى الله عليه وسلم، وامرأة من كندة وهى التى استعاذت منه فطلقها، وامرأة من كلب، وهذا اختصار والبسط فى محله.
{ ومَا مَلَكت يَمينُكَ } من الإماء كجويرة وريحانة وزليخاء { ممَّا أفاء الله عَليْك } رده إليك من السبى، يختار من شاء منهن، ويتسراها بعد إسلامها، أو المراد ما يشمل الإهداء كمارية بنت شمعون رضى الله عنها أهداها إليه ملك الاسكندرية ومصر القبطى جريج بن مينا، وهدايا أهل الحرب للإمام لها حكم السبى، ووهبت له صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش أمة وتسراها، مع أنه لم يشاهد سبيها، ولعله اكتفى بتحقيق عبوديتها، أو بإقرارها، أو كانت مما أفاه الله عليه، تملكتها زينب، ثم وهبتها له، وكذا أخت مارية شيرين بالشين المعجمة أو المهملة، أهداها اليه الملك المذكور المقوقس مع مارية، ولو أسلمت قبل مارية لتسراها لرغبته فيها، والله أعلم، ولما تأخَّر اسلامها أعطاها رجلا.
{ وبناتِ عمِّك وبناتِ عمَّاتك وبناتِ خالِكَ وبنات خالاتك اللاتي هاجَرْن مَعَك } لأنهن أفضل من غيرهن للنسب والهجرة، ومعنى المعية أنهن هاجرن كما هاجر، وليس المراد أنهن هاجرن معه فى وقت واحد، واختلف فيمن آمن ولم يهاجر، وقد قدر على الهجرة إلا من عذره صلى الله عليه وسلم، فقيل: مشرك فلا تحل من لم تهاجر مع القدرة، ويدل لذلك أنه خطب أم هانئ فاعتذرت فعذرها، قال: فنزل { يا أيها النبي } الى قوله تعالى: { هاجرن معك } فلم أى أحل له، لأنى لم أهاجر، وقول الصحابية حجة، وبحث بأنها لم تسنده، رواية، ولعله مفهومها من الآية والحال، ويتقوى ما ذكرت بما روى أنها بعد ما اعتذرت رجعت اليه فقال: أما الآن فلا، لأنك لم تهاجرى، والله تعالى أنزل إلىَّ { يا أيها النبي } إلى { هاجرن معك }.
ويبعد ما قيل من أنه لعله لم يرد الحرمة، بل أراد الأفضل، وقيل: منافق، وقيل: الهجرة شرط عليه صلى الله عليه وسلم فى قراباته المذكورة فقط، وقيل: نسخ تحريم من لم تهاجر، وقيل: معنى هاجرن أسلمن، والمراد ببنات عمه وبنات عماته بنات القريشيين، وبنات القريشات، فانه يقال للقريشيين أعمامه ولو بعدوا، للقريشات عماته ولو بعدن، والمراد ببنى خاله وبنات خالاته بنات بنى زهرة ذكورهم إناثهم، وشاع فى العرف وكثر فى الاستعمال إطلاق الأعمام والعمات على أقارب الشخص من جهة أبيه ذكور وإناث، قربوا أو بعدوا، والأخوال والخالات على أقاربه من جهة أمه كذلك، ودخل على ست من القريشيات: عائشة، وحفصة، وسودة، وخديجة وأم حبيبة بنت أبى سفيان وأم سلمة، ولم أقف على أنه تزوج امرأة من أخواله بنى زهرة، والآية للجواز لا لوقوع تزوجه منهم.
وأفرد العم والخال، وجمع العمة والخالة قيل: لأن العم والخال بوزن والخال، وجمع العمة والخالة، قيل: لأن العم والخال بوزن المصدر المصدر كالنصر والفرح، وأصل الخال خول بفتح الخاء والواو، بخلاف العمة والخالة، فإنهما ولو كانا بوزن المصدر، لكن المصدر أصل تائه أن لا تلزم، ومن شأنها أن تدل على الوحدة أو الهيئة، ولا يتبدل المعنى بحذفها إلا الوحدة والهيئة، وقيل: لم يجمعا ليعما بالإضافة، والتاء تدل على الوحدة، والعموم ممتنع معها ظاهراً، ولو جاز حقيقة، وجمع العم فى سورة النور على الأصل، وقيل أعمامه العباس وحمزة، وهما أخواه من الرضاع، ولا تحل له بناتهما، وأبو طالب بنته أم هانىء لم تهاجر، وهو قول لا يتجه، وقيل: أفرد العم لأن العم بمنزلة الأب، وهو لا يتعدد، ويقال للعم أب، ومنه:
" { وإذ قال إبراهيم لأبية آزر } " [الأنعام: 74] ومنه تسمية إسماعيل أباً مع إسحاق، وإنما هو عم، وجمع العمة على الأصل وإلا فهى كالأم، والأم لا تتعدد.
وأفرد الخال ليكون على وفقه العم، وجمع الخالة مع أنها كالأم لتكون على وفق العمات، وقيل: أفرد الذكر لقلة الذكور، والنساء أكثر كما فى الأثر، وقيل: بين العم والعمات، والخال والخالات نوع من الجناس، وأيضاً أعمامه اثنا عشر، وعماته ست، ولو قيل: أعمامك لتوهم أنهم أقل من اثنى عشر، لأنه جمع قلة، وجمع القلة عشرة أو تسعة، ولو قيل: عمتك لم تتحقق الإشارة الى قلتهن، وقيل: خالك وخالاتك ليوافق ما قبل: جرى عرف اللغة على افراد العم والخال وجمع العمة والخالة، ولم تر العم مضافا اليه ابن أو ابنة بالافراد أو بنون أو بنات بالجمع إلا مفرد كقوله:

إن بنى عمك فيهم رماح

وقوله:

فتى ليس لابن العم كالذئب إن رأى لصاحبه يوماً دما فهو آكله

وقوله:

قالت بنات العم يا سلمى وإن

وقوله:

يا بنت عمى لا تلومى واهجعى

وهذا مختل ببقاء عدم بيان الخالة والخالات، وباحتياج هذا العرف اللغوى الى بيان علته، فلعل إفراد العم والخال الرجوع الى أصل واحد، مع ما بين الذكور من العمومة والخؤولة من التناصر والتعاضد بجعل المتعدد كالواحد، ويقوى ذلك إضافة الفرع كالبنين والبنات الى ذلك، والبنون والبنات لمتعددين فى حكم البنين والبنات لواحد، وذكر بعض المحققين أن فى الانتقال من الافراد الى الجمع فى جانبى العمومة والخؤولة، إشارة الى ما فى النكاح من انتقال كل الزوجين من حال الانفراد الى حال الاجتماع بالآخر، ويقال لما كان المفرد أصلا، والمذكر أصلا، أتى بالمذكرين مفردين على حدة وبالمؤنثين مجموعين على حدة، فاجتمع فى الأولين أصلان، وفى الأخيرين فرعان، مع مراعاة الكفاءة فى النكاح.
وإنما يعرف الانتساب الى النبى صلى الله عليه وسلم بمعرفة آبائه: محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصى بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤى بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، وعنه صلى الله عليه وسلم:
"لا ترفعوني فوق عدنان" وأقول رفعه الى ما لم يتحقق أنه أبوه نقض لمعرفته وعن ابن مسعود: كذب النسابون، قال الله تعالى: " { وقرونا بين ذلك كثيراً } " [الفرقان: 38] وقال: " { والَّذين من بعدهم لا يعلمهم إلا الله } " [إبراهيم: 9] ويقال عدنان بن أد بن أدد بن اليسع بن الهميسع ابن نبت بن سلامان بن محل بن قيدار بن اسماعيل بن ابراهيم بن آزر ابن تارخ بن ناخور بن أسرع بن أرغو بن فالغ بن أرفخشد ابن سام ابن نوح بن لامك بن متوشلخ بن أخنوخ وهوادريس بن برد بن مهلاليل ابن أنوش بن شيث بن آدم بكسر شينه وأسكن يائه بعدها ثاء مثلثة.
{ وامرأةً مؤمنةً } عطف على أزاوجك ولا يشكل على ذلك تقييد الامرأة المؤمنة، لأنه قيد لها خاصة، كما تقول أكرم الزيدين وعمرا إن جاء، تقول أكرم الزيدين مطلقا جاء عمرو أو لم يجىء، واكرم عمراً إن لم يجىء { إنْ وهَبتْ نَفْسها للنَّبي } مقتضى الظاهر إن وهبت نفسها لك، لكن قال للنبى ليدل على أن شرف النبوة أباح كفاية الهبة، كأنها أمة وهبها مالكها، وزاد له تشريفا بأن لا يلزمه قبولها، فإن شاء ردها، وبأنه يقبلها بلامهر،وذلك فى قوله: { إن وهبت } وفي قوله: { إن أراد النَّبى انْ يسْتَنكحَها } يملكها بلا مهر، ويلحقها بأزواجه، والاستفعال بمعنى الفعل، أى أن ينكحها، والإرادة بمعنى القبول أو للطلب، والإرادة على ظاهرها، وجوابه أغنى عنه وهبت نفسها للنبى، فالإرادة شرط لصحة الهبة، فان لم تكن تعطلت الهبة، وكانت كالعدم.
ويجوز تقدير الجواب أى إن أراد النبى أن يستنحكها نكحها، وإذا اجتمع شرطان فالثانى قيد للأول، ولا يلزم تقدمه خارجا على الأول نحو: أكرم زيدا إن جاء إن سلم فى حضوره فالتسليم قيد فى مجيئه، والآية كهذا المثال، ويجوز تقدمه خارجاً نحو أكرم زيدا إن جاء إن كن قد أرضى والديه فى المجىء، وهذه الامرأة الواهبة ميمونة بنت الحارث امرأة من بنى هلال، خطبها صلى الله عليه وسلم ووصلتها الهبة التى أباح الله تعالى، فوهبت له نفسها وهى فوق بعير فقالت: البعير وما عليه لله ولرسوله، فبنى بها على عشرة أميال من مكة: وقيل أم شريك بنت جابر بن حكيم الدوسية، عليه الجمهور، ولم يقبلها فلم تتزوج حتى ماتت رضى الله عنها، وقال منير بن عبد الله الدوسى: قبلها، وقيل زينب بنت خزيمة الأنصارية أم المساكين، كانت تطعمهم فى الجاهلية وبعدها، وبقيت عنده صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين، وماتت.
وعن عائشة: خولة بنت حكيم،ولم يقبلها وتزوجها عثمان بن مظعون، وقيل ليلى بنت الحطيم، ولا مانع من أن يكن كلهن وهبن أنفسهن ففى البخارى ومسلم، عن عروة بن الزبير: كانت خولة بنت حكيم من اللاتى وهبن أنفسهن للنبى صلى الله عليه وسلم، ودل هذا على تعدد الواهبة، والجمهور على وقوع الهبة، وقبول بعض، وزعم بعض أنه لم تقع، وبعض أنه لم يقع القبول.
{ خالصةً لك من دُون المُؤمنينَ } حال من امرأة، أو نعت أو حال من ضمير وهبت، أو نعت لمصدر محذوف، أى هبة خالصة، أو هو مصدر بوزن اسم الفاعل، فهو مفعول مطلق، أى خلصت لك خلوصا لا يجوز لغيرك النكاح بلا مهر، ولا بلفظ الهبة، وأجازه بعض بلفظ الهبة إذا قصد معنى التزويج وفهم وذكر أن الأصل عدم الخصوصية، وانتفاء الصداق عنه صلى الله عليه وسلم من لفظ الهبة { قَد عَلمنا ما فرضْنا عَليْهم في أزواجِهِم وما مَلكت أيمانُهم } إنه الحكمة فيرضيه المؤمن من الاقتصار على أربع، ووجوب العدل بينهن، ولا تجب العدالة عليك، ولك ولهم ما تزوج أدعاءهم، وما تسروه إذا فارقوهن، ووجوب المهر، وعدم جواز الهبة لهم.
{ لَكيْلا يكُونَ عليْك حرجٌ } فعلنا ذلك وأنزلناه، لكيلا يكون عليك ضيق بقول الناس إنه فعل ما لا يجوز من كثرة الأزواج والتزوج بالهبة، وبلا صداق، أو لكيلا يكون عليك ضيق فى دينك، وفى ذلك رد على النصارى واليهود القائلين: لو كان نبياً لم يفعل ما لا يجوز لأمته، ولو كان نبياً لم يكن له غرض فى كثرة الزوجات، واتباع ما يشتهى، ووجه الرد أن الله عز وجل أباح له ذلك، كما أباح لداود وسليمان كثرة الأزواج، وقد أقام له دلائل النبوة والرسالة، فلا يقدح فيه عاقل بشىء بعد ذلك.
{ وكان الله غفُوراً } عظيم المغفرة أو كثيرها أو عظيمها وكثيرها، على القول بجواز استعمال الكلمة فى معنيين، وهما هنا للكم والكيف، ولك جمعهما بكامل الغفران، والله سبحانه يغفر الذنوب { رحيماً } يبيح ما يعسر التحرز عنه.