التفاسير

< >
عرض

تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِيۤ إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ٱبْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً
٥١
-الأحزاب

تيسير التفسير

{ تُرجي } تؤخِّر { من تَشَاءُ منهنَّ } من نسائك بترك مضاجعتها أو وطئها وبالطلاق { وتؤوي } تضم { إليْك مَن تشاءُ } منهن بالمضاجعة والوطء وعدم الطلاق، وقيل الهاء النساء أمته، أى لك تزوج من شئت منهن، ولا يحل لها الامتناع، وذلك قوله: { تؤوي إليك من تشاء } ولك ترك تزوج من شئت، وذلك قوله: { ترجي } إما على معنى لا يجب عليك تزوج من تطمع فى تزوجك لقرابة أو غيرها، ولا قبول من وهبت نفسها لك، وإما على معنى البسط فى التوسعة بذكر ما ليس من شأنه أن يحق ذكره، وقيل: الهاء للواهبات له قبول من شاء. وترك من شاء، وله وطء من شاء منهن قبلهن، وترك وطء من شاء ممن قبلهن.
وروى أنه هم بطلاق بعض نسائه الواهبات وغيرهن، فأتينه وقلن له: لا تطلقنا وأنت فى حل مما لنا، ويقال: أرجى ميمونة، وجويرة، وأم حبيبة، وصفية، وسودة وآوى عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وزينب، والواهبات إنما وهبن تقربا الى الله تعالى بخدمة رسوله ونفعه، والفوز برضاه لا لغرض دنيوى، ولما نزل: { ترجي }، إلخ قالت عائشة: يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع لك فى هواك، وقد قالت قبل ذلك، وبعد وقوع الهبة: أما تستحى المرأة أن تهب للرجل نفسها، وقالت: ما فى امرأة وهبت نفسها لرجل خير، وإنما قالت ذلك قبل أن تسمع أنه صلى الله عليه وسلم قبل الهبة أو أجازها، وذلك غيرة منها، وزجرها بأن التى وهبت نفسها إنما قصدت باباً من الخير، وهو أن تكون فى الجنة معى، وأما للمؤمنين.
{ ومَن ابْتَغَيْت } طلبت أن تراجعها { ممَّن عزَلت } طلقت، أو من تريد وصلها بعد هجرها، ومن شرطية مفعول لشرطها، أو اسم موصول شبيه باسم الشرط مبتدأ، والجواب أو الخبر فى قوله: { فلا جُناحَ } لا إثم { عليْكَ } فى شأنها أو اسم موصول معطوف على من تشاء الثانى، والمراد غير المطلقة، وقيل من الجارة لبدلية، ومن ابتغيت واقع على من يريد أن يتزوجها، والعزل الفراق بالموت أو الطلاق، أى من ابتغيت تزوجها بدلا ممن مات، أو طلقت فلا جناح عليك، ولا يخفى بعد إطلاق الموت على العزل، لأن الموت ليس فعلا منه يسمى عزلا، وكذلك يبعد أن يراد عزلت جماعها لموتها، إذ لا يتوهم بقاءها.
{ ذلك } التفويض فيهن، أو ذلك الإيواء وهو أولى، لأن قرة أعينهن بالذات إنما بالإيواء لأنه محبوب طبعا، ولو ضم اليه غيره بالكسب، أو ذلك العلم بأن لك الإيواء، أو بأنه لك بعد العزل { أدْنى } أقرب { أن تقرّ أعيُنهُن } أى الى أن تقر، أو من تقر بتقدير الى، أو من التى ليست للتفضيل { ولا يحْزنَّ } لعلمهن بأنهن لم تطلقهن، وبأن ذلك إباحة من الله لا جور منك ولا حيف، ويفرحن بالإيواء { ويرضَيْن بما آتيتهنَّ كلُّهنَّ } توكيد لنون يرضين، ومعنى آتيتهن أعطيتهن من المضاجعة والإيواء والمساواة، وترك ذلك، وأصل الرضا أن يكون بما فيه شدة أو نقصان، وغلب هنا على ما ليس فيه ذلك، أو المراد يرضين بما فيه ذلك، وما فيه بعض خير، ولم يتم، أو المراد بما فعلت معهن مما فيه ذلك، وعيونهن أكثر من تسع أعين أو عشر، ومع ذلك عبر بجمع القلة لأنهن تسع، وهو لجمع القلة، وأيضا ليس المراد حقيقة العينين، والذلك يفرد كما جاء: قرة عين، وقرة عينها.
{ والله يعْلَم ما في قُلوبكُم } الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأزواجه تغليبا للذكر على الإناث، أى ما فى قلبك من الميل الى بعضهن، وما فى قلوبكن من الرضا بما أباح الله تعالى له، وكراهته بالطبيعة، أو الخطاب لهن بالذات، وخلط معهن النبى صلى الله عليه وسلم تطييباً لنفوسهن، وتنبيهاً له صلى الله عليه وسلم على الشكر، أو الخطاب للمؤمنين، أو لهم وللنبى، صل الله عليه وسلم،ويضعف أن يكون لهن ولهم، وفى ذلك على كل حال وعيد لمن لم يرض بما فرض الله تعالى أو أباحه، وبعث على تحسين القلوب، ولا يدخل صلى الله عليه وسلم فى الوعيد، لأن المقام لذكر التيسير له صلى الله عليه وسلم.
{ وكان الله عليماً } غاية العلم بكل شىء { حليماً } عظيم الحلم بتأخير العقاب عمن خالفه، وتأخير العتاب، وبالصفح عما يغلب على القلب من الميل ونحوه، ومع إباحة الله تعالى له صلى الله عليه وسلم عدم العدل بينهن، دام على العدل بعد نزول التخيير حتى مات ضبطا لنفسه، وأخذاً بالأفضل.
وروى أن سودة قالت له قبل وجوب إمساكهن، وهبت ليلتى لعائشة، وقالت لا تطلقنى لأحشر فى زمرة نسائك، وذكر الزهرى أنه ما أرجى منهن شيئا ولا عزله بعد ما خيرن فاخترنه، وعن عائشة رضى الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذن فى يوم المرأة منا بعد أن نزل: { ترجي من تشاء } إلخ، فقيل ما كنت تقولين؟ قالت: أقول: إن كان ذلك الى فإنى لا أريد أن أوثر عليك أحداً، وهذا لا ينافى ما مر من أنه ما أرجى بعد التخيير، ولا عزل أحد الآن معنى الآية أن لا يرجى أو يعزل قهراً بنفسه، أما برضا صاحبة الحق فلا بأس بترك ليلتها مثلا لأحد، وهذا كالنص عن عائشة رضى الله عنها، أن الله تعالى أباح له أن يستأذن بعد نزول الآية، وأما قبلها فكان يفعل بلا استئذان.