التفاسير

< >
عرض

وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً
٥٨
يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
٥٩
-الأحزاب

تيسير التفسير

{ والَّذين يُؤذون المؤمنين والمُؤمنات } فى قول أو فعل { بغَير ما اكْتسبُوا } بلا جناية اكتسبوها موجبة، فإن المؤمن والمؤمنة قد يصدر منهما ما يوجب الإيذاء، بخلاف الله ورسوله، قال عمر رضى الله عنه، لأبى بن كعب: يا أبا المنذر فى شأن قوله تعالى: { والذين يؤذون } الآية قرأت البارحة آية من كتاب الله تعالى فوقعت فى كل موقع، يعنى لعله ضرب أو حد أو كلم بسوء من لا يتأهل لذلك عند الله، بتقصير منه فقال: لست من أهلها، وإنما أنت معلم ومقوم بحسب ما ظهر لك، ولا يكلفك الله الغيب، ويروى أنه قال: "والله إنى لاعاقبهم وأضربهم فقال: لست منهم".
{ فقد احْتَملوا بهتاناً وإثْماً مبيناً } خبر الذين، وقرن بالفاء تشبيهاً له باسم الشرط فى العموم المراد، ولو كان سبب النزول مخصوصين، فيدخلون أولا، وهم الله بن أبى، وناس معه، قذفوا عائشة رضى الله عنها، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:
"من يعذرنى من رجل يؤذينى ويجمع فى بيته من يؤذينى" وقوم طعنوا فى أخذ النبى صلى الله عليه وسلم صفية بنت حيى رضى الله عنها، وزناة يتعرضون للاماء إذا خرجن ليلا لقضاء حاجة الانسان، وربما تعرضوا للحرائر جهلا أو تجاهلا، والمرجفون وعن مجاهد: ويلقى الجرب على أهل النار، فيحكُّون حتى تبدو عظامهم، فيقولون: يا ربنا بم أصابنا هذا؟ فيقول: بإيذائكم المسلمين.
قالت عائشة رضى الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه:
"أى الربا أربى عند الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىء مسلم ثم قرأ الآية" وفى الحديث القدسى: "من آذى لى ولياً فقد آذنته بحرب، ومن أهان لى ولياً فقد بارزنى بالمحاربة" وقيل: نزلت الآية فى علىّ كانوا يؤذونه ويسمعونه، وقيل فى عائشة وما قذفت به.
معنى: احتملوا تكلفوا فعل البهتان تكلفا شبيها بتكليف حمل الشىء الثقيل، وذلك فى نفس الأمر، وأما عندهم فسهل مشتهى، البهتان كذب فظيع يبهت المكذوب عليه، وقد قيل: نزلت فى من يتبع الإماء للزنى إذا خرجن ليلا لقضاء حاجة الانسان، وربما وافقوا الحرائر فيمتنعن ويشكون الى أزواجهن، فنهى الله الناس عن التطلع والايذاء، وأمر النساء بالستر فقال:
{ يا أيُّها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المُؤمنين يُدنين عليهنَّ من جلابيبهنَّ } معنى إدناء الجلباب تقريبه من رأسها وجسدها، بحث يسترهن بحيث لا يبقى هواء ينكشفن عنه، وعدى بعلى لتضمن معنى الإرخاء، والجلباب ثوب يسترها من فوق لأسفل، ويسمى الملحفة، وقيل: المقنعة وهى لباس الرأس وما يليه، وقيل: ثوب أوسع من الخمار، ودون الرداء، والحاصل الأمر بستر ما يبدو من أبدانهن، أو من ثياب زينتهن.
قال ابن سيرين، عن عبيدة السلمانى فى هذه الآية: تستر رأسها ووجهها كله إلا عينها اليسرى، قال السدى: أو عينها اليمنى، وهو رواية عن ابن عباس، وفى أخرى عنه أو عينيها، وذلك رد على ما فى بعض الكتب، من أن ذلك فعل الفاسقات، وأن غيرهن تستر الوجه كله، ولعله أريد أن الفاسقات فى بلدة من البلدان، يفعلن ذلك، ولم يرد التحريم.
وعن سعيد بن جبير: يرخين الثوب على الوجه كله، وينظرن أسفل، وما يبدو من نساء الجاهلية إلا الوجه، فأمر الله بستره أيضا، وأنت خبير بأن الوجه ليس عورة، قيل: مطلقا، وقيل: إن لم تكن فيه زينة فليس مرادا بالآية، إلا أن السنة ستره، ويجوز النظر إليه بلا شهوة، والفعل فى يدنين مجزوم المحل فى جواب الأمر، ومفعول قل محذوف، ومعناه اذكر أى لهن وجوب الستر يدنين، أو يدنين اخبار ومعناه الأمر أى قل أدنين، وجلابيب مفعول به ليدنى، ومن صلة فى الإيجاب والمعرفة عند مجيز ذلك، أو المفعول محذوف منعوت بمن جلابيهن، أى شيئا من جلابيبهن وهو بعض من كل جلباب.
{ ذلك } الإدناء { أدنى } أقرب { أن يعرفن } الى أن يعرفن فلا يقربهن أحد، كما يقرب أجل الربية الإماء كما قال: { فَلا يُؤذَيْن } وذلك إزالة لبعض الشر، وبعض الشر أهون من بعض، ولا عذر لهم فى الإماء،ونهوا عن الزنى ومقدماته مطلقا بالحرائر والإماء، ويجوز بلا ترفع ولا رئاء أن يلبس العالم ما يميزه بدرّته إذا تشبهت بالحرة، ورأى أمة مقنعة فضربها فقال: ألقى القناع لا تشبهى بالحرائر.
{ وكانَ الله غَفُوراً } لمن عصى وتاب، أو عصى ولم يعتقد الإصرار، وقد دان بالتوبة، وذلك فى النظر، وعدم التستر بعد نزول الآية { رَحيماً } للتائب والتائبة، أو غفوراً رحيماً مطلقاً لمن تاب، ودخل هؤلاء وغيرهم أو رحيما بعباده إذ رأى فى مصالحهم أمثال هذه الجزئيات والتوبة أربعة أقسام:
الأول: التوبة أن يتوب ويستقيم على العبادة، ولا يحدث نفسه بالعود إلا ما لا ينفك عنه البشر الى أن مات، ولو كان ذلك فى آخر عمره، وصاحبها ذو النفس المطمئنة تبدل سيئته حسنات.
الثانى: أن يتوب ويستقيم على الطاعات، وكلما فعل ذنبا تاب وتأسف، ولام نفسه، وعزم أن لا يعود، وصاحبها ذو النفس اللوامة، وفى الحديث:
"المؤمن واه - أى ضعيف - بالذنوب رافع - أى بالتوبة" .
الثالث: أن يتوب ويستقيم على الطاعة، إلا أن نفسه تغلبه فى بعض الذنوب، يستمر عليه ويندم إذا فعله، ولا يقهر نفسه بالعزم على عدم العود، وهو يطمع فى التوبة.
الرابع: أن يتوب ويستقيم ثم يذنب، ولا يحدث نفسه بالتوبة الى الموت.