التفاسير

< >
عرض

يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ
١٣
-سبأ

تيسير التفسير

{ يعْملُون لَه ما يشاء } الخ تفصيل بعد اجمال { مِن محاريب } جمع محراب، والمحراب صفة مبالغة من الحرب، بمعنى كثير الحرب، أو عظيمه، سمى به لأن صاحبه صيره فى حمايته كقوله:

جمع الشجاعة والخشوع لربه ما أحسن المحراب فى محرابه

ويطلق على ما يبنى فى قبلة المسجد يقف فيه الامام، واستحسن أن يقف خارجه، وقيل المحارب المساكن، وقيل: ما يصعد اليه بالدرج كالغرف، وقال مجاهد: المساكن، وقيل: المساجد، سميت باسم بعضها وهو محراب الصلاة أو حجرة فيها يعبد الله تعالى فيها، وكانت مساجد هذه الأمة المحمدية خالية عن المحاريب، وأحدثت بما لأهل الكتاب، وفسرها قتادة بالقصور والمساجد معا.
ويروى أن داود بنى بيت المقدس قدر قامة، فأوحى الله تعالى اليه أنى قضيت اتمامه على يد ابنك سليمان، فكف داود، ولما كان سليمان خليفة بعد موت أبيه، استعمل طائفة من الجن، بعد بنا بيت المقدس فى تحصيل الذهب والفضة من معدنهما، وطائفة فى تحصيل اليواقيت والجواهر والدر الصافى، وطائفة بالمسك والعنبر، وأمر بإصلاح ذلك ألواحا وثقب ما يحتاج للثقب، وركب ذلك كله على بيت المقدس بعد أن بناه بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر، وقيل جعل عمده من البلور الصافى، وسقفه من الجواهر الثمينة، وأرضه من الفيروزج، فهو يضىء كالقمر ليلة البدر، وإنما بنى المسجد بعد بناء المدينة كلها بالرخام الجيد، وجعلها اثنى عشر ربضا، أنزل فى كل ربض سبطا، ولما غزا بخت نصر الشام، أخذ ذلك كله الى العراق، وبنى الجن لسليمان أيضا فى اليمن قصوراً وحصونا من الصخر عجيبة { وتماثِيل } جمع تمثال، وهى صور الملائكة والأنبياء والصلحاء، تصور فى المساجد ليتذكروا عبادتهم، فيجتهدوا، وتصوير الحيوان فى شرعهم جائز، وكانت بالنحاس والزجاج والرخام، وعن الضحاك صور حيوانات لمنع البعوض أو الذباب أو غير ذلك، حتى لا يتجاوز الموضع جنس ذلك الممثل به، وتوهم بعض أن تصوير الحيوان محرم فى شرعهم فأوله بأنه لا رأس له، وليس كذلك، فانه حلال فيه ولو مع الرأس.
ويروى أنه صوروا له أسدين تحت كرسيه يبسطان ذراعيهما إذا أرادا الصعود، ونسرين فوقه يظلانه إذا جلس بأجنحتهما، والطواويس والعقبان والنسور على درجاته وفوقه ليهابه من أرد الدنو، منه، وذلك حكمة من الله العزيز الحكيم، وأراد أفريدون صعوده فكسر الأسدان ساقه، فلم يجسر عليه أحد بعده، ومنع فى شرعنا تصوير الحيوان بالرأس، وتصوير الرأس، وجاز بلا رأس، كما جاز غير الحيوان، وأخطأ من أجاز التصوير لهذه الآية، ويرده أحاديث النهى، واختلف فى تصوير ما لا يجوز تصويره بنسج أو لطخ بلا ظل، والأحوط المنع، لأن المنع ورد أولا فى ستر بيت لعائشة فيه صور زجرها وخرقه، وحديث
"إلا ما كان رقما في ثوب ضعيف" .
{ وجفانٍ } ما يوضح فيه الطعام ليؤكل، وقيل الصحيفة ما يشبع الواحد والمأكلة الاثنين والثلاثة، والصفحة الخمسة، والقطعة العشرة، والجفنة فوق ذلك { كالجَوابِ } الحياض العظام، والمفرد جابية من الجباية، وهى الجمع لأنه يجبى لأنه يجبى إليها، وذلك من الإسناد الى الظرف، أو ذلك نسب كلابن وتامر، ثم غلب على الاناء المخصوص، وكانت جفنة سليمان تشبع ألف رجل.
{ وقُدُورٍ } جمع قدر، وهو ما يطبخ فيه لحم أو طعام آخر من فخار أو حديد أو صفر، على شكل مخصوص { راسيات } ثابتات على الأثافى لا تنزل لعظمها، وقدمت المحاريب على التماثيل، لأن التماثيل تصور على جدرايها، والجفان على القدور، مع أن الطبخ قبل الأكل، لأنها التى تحضر على المساط الذى يمد لا القدر وإنما ذكر القدور، وأنها راسيات أخبار بكثرة المأكول { اعْمَلوا آل داوُد شُكراً } اعملوا الطاعات يا آل داود لأجل الشكر، أو شكرا مفعول به لاعملوا، أو مفعول مطلق، لأن الشكر نوع من العمل، فهو كقعدت القرفصاء، وفى وصول هذه الآية أكلت ليلا خبز شعير بزيت وحده، وهو معتادى، فألهمنى الله تعالى بيتا على ارتجال من المتقارب:

وخبز الشعير مع الزيت كل ومن بعده الحمد لله قل

وذكر البيهقى عن ابن مسعود: أن سليمان يأكل خبز الشعير، ويطعم أهله أحسنه، المساكين الحوارى، ولم يشبع قط خوف أن ينسى الجائع، ولم يخل مصلاه من قائم ليلا ونهارا يتناوبونه، وقد يعم آل الرجل أباه فيشمل داود، روى أحمد والبيهقى، قال داود: يا رب هل بات أحد أطول ذكرا منى؟ فأوحى الله أن الضفدع أطول فما نسمع من الضفدع فى الماء إنما هو بعض ذكرها، وما لا نسمع أكثر، والله به أعلم، وسمع دويبة على طول الليل تصوت فى الأجنة، ولعلها بعوضة، ولما نزل عليه: { اعملوا آل داود شكرا } قال: يا رب كيف كيف أطيق شكرك وأنت الذى تنعم علىَّ وترزقنى الشكر، فمنك النعمة ومنك الشكر؟ فقال الآن شكرتنى وعرفتنى حق معرفتى، وقال لسليمان: أكفنى قيام النهار أكفك قيام الليل، قال: لا استطيع، قال فاكفنى صلاة النهار، أى وهى نفل فى النهار أقل من قيام النهار، والجملة مفعول القول مستأنف، أى قلنا: اعملوا أو لحال من الفاعل فى تقدير سخرنا لسليمان، أى سخرنا لسليمان الريح قائلين اعملوا، أو من الفاعل فى ألنا.
{ وقليلٌ منْ عِباديَ الشكُور } هذا مستأنف فى القرآن، أو هو مما خوطب به آل داود، والشكور من يدوم على العبادة جهده، أو فى أكثر أوقاته معترفا بنعم الله عز وجل بقلبه ولسانه، أو من يشكر على الشكر، فان كل شكر تقتضى أخرى، فهو يرى عجزه عن اداء حق الشكر، كما مر عن داود عليه السلام، قال صلى الله عليه وسلم:
"لما فرغ سليمان من بيت المقدس سأل ربه حكما يوافق حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، فأوتيهما وأن لا يأتيه أحد للصلاة فيه إلا خرج كيوم ولد" وأرجو أنه أوتيه، ويقال ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وبقى فى الملك أربعين سنة، وشرع فى بناء بيت المقدس لأربع سنين مضت فى ملكه، ومات ابن ثلاث وخمسين.