التفاسير

< >
عرض

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْعِزَّةَ فَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ ٱلْكَلِمُ ٱلطَّيِّبُ وَٱلْعَمَلُ ٱلصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَٱلَّذِينَ يَمْكُرُونَ ٱلسَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ
١٠
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَىٰ وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
١١
-فاطر

تيسير التفسير

{ مَنْ كانَ يُريدُ العزَّة } بالمعصية كالتكبر على الغير بلا حق، وكما يتعزز الكفار بالأصنام كما قال تعالى: " { واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم عزاً } " [مريم: 81] وكما يتعزز المنافقون بالمشركين، كما قال جل وعلا: " { الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة } " [النساء: 139] والجواب محذوف أى يخب أو يذل، أو فليطلبها من الله بالطاعة، أو فهو مغلوب، أو فليطع العزيز لقوله صلى الله عليه وسلم: "إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز" نابت عنه علته فى قوله تعالى: { فللَّه العزَّة جميعاً } أى لأن العزة لله جميعا، وأما قوله تعالى: " { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } " [المنافقون: 8] فلا يرد على ذلك، لأن تعزز الرسول والمؤمنين ليس بطريق المعصية، بل بالتقرب الى الله عز جل.
فى الآية حصران: أحدهما بتقديم { الله } والآخر بـ { جميعا } وإن جعلنا أل فى العزة للاستغراق كان حصرا آخر، لا إن جعلناها للحقيقة ولا يصح جعل أل فى الأول للاستغراق، ولا للفرد الكامل لأنه لا يعتاد ذلك فى الناس، فضلا عن أن يقال من كان ذلك الا ما شذ وقل، مع أنه لا يخلو قلب صاحبه من خلاف ذلك، إلا أن يقال: ذكر الله ذلك ليذكر اختصاصه تعالى به لا لصدور ارادته من أحد، وجميعا حال من الضمير فى لله.
{ إليْه يصْعَد الكَلِمُ الطَّيبُ } الخ بيان لما تحصل به العزة عند الله للانسان، وبيان لكون العزة كلها له تعالى، وهى بالطاعة، ولا يعتد بها مالم تقبل، وأجيز أن يكون استئنافا، واذا أمكن التعلق للجملة بما قبلها، وأمكن الاستئناف، فالتعلق أولى لزيادة الفائدة، والكلم الطيب: لا إله إلا الله لأنه يستطيبه العقل لأنه منجاة، والشرع والملائكة، وكل كلمة منه طيبة، لأنه يتوطل بلا وبإله الى الاستثناء، فكلاهما حسن فى العبارة، ولا يخفى أن ذكر الألوهية لغير الله، تنفى أمر حسن، وإن قلنا: الكلمة هنا بمعنى الكلام التام المفيد مجازا على المشهور، كقوله تعالى:
" { وتمت كلمة ربك } " [الأنعام: 115] " { كلا إنها كلمة } "[المؤمنون: 100] وقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل كلمة قالها شاعر قول لبيد:"

ألا كل شىء ما خلا الله باطل

الخ فالجمع باعتبار الناطقين، وعلى التجوز تكون القرينة الوصف بالطيب، لأن الأصل فى الطيب الكلام التام المستلذ، وعن ابن مسعود موقوفا: "هو سبحان الله، والحمد لله، ولا اله الا الله، والله أكبر، وتبارك الله، يصعد بهن ملك لا يمر على جماعة من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن" وعن أبى هريرة ذلك الى والله أكبر، وقيل: ذكر الله مطلقا، وقيل: القرآن، وقيل: كل كلام لله عز وجل من ذكر وأمر ونهى ووعظ، ونعت الكلم بالمفرد لجواز ذلك فى اسم الجمع، ولأن أصله فعيل فقدم الياء وأدغم، وفعيل بوزن مصدر السير، والصوت يصلح، والمصدر للقليل والكثير، والصعود مجاز مرسل عن القبول، لعلاقة الاعتبار بالصاعد أصلى، اشتق منه يصعد على طريق المجاز المرسل التبعى، أو استعارة أصليه للقبول بعلاقة الاعتبار، واشتق منه يصعد على طريق البعية، أو الكلم مجاز عن نحو الورقة التى كتب هو فيها لحلول متضمن الكلم فيه، أو يقدر مضاف أى صحيفة الكلم، أو شبه وجوده فى الأرض وكتبه فى السماء بالصعود.
{ والعَمَل الصالح } الفرائض أو مع النفل { يرفعه } ضمير يرفع للعمل، والهاء للكلم الطيب، فمن تكلم بالطيب وعمل سوءاً لم يقبل كلامه، والرفع القبول، أو يرفع الى السماء، ويعتبر موته، فان مات مصراً رد، وعنه صلى الله عليه وسلم:
"لا يقبل الله قولا إلا بعمل، ولا يقبل قولا وعملا إلا بنية، ولا يقبل قولا وعملا ونية إلا بإصابة السنة" ألا ترى الى قوله تعالى: " { إلا من تاب } " إلخ وقوله صلى الله عليه وسلم: "هلك المصرون" وألا ترى الى محبطات الأعمال كالرياء، وقيل: ضمير يرفع للكلم، والهاء للعمل، على أن الكلم كلمات التوحيد، ولا يرفع عمل لمشرك، وفيه جريان الخبر على غير ما هو له مع غير البروز بلا قرينة، فلا يجوز هذا القول، وقراءة ابن أبى عبلة وعيسى بنصب العمل على الاشتغال، لا يكون قرينة، لأن ما يحتاج فيه الى قرينة لتصحيح العبارة يكون فى تلك العبارة لا فى عبارة أخرى وقيل: الضميران للعمل على حذف مضاف، أى العمل الصالح يرفعه عامله، أى يشرفه وهو خلاف الظاهر.
{ والَّذين يمْكُرون السَّيئات } مفعول مطلق أى المكرات السيئات، أو مفعول به على تضمين يمكر معنى يعمل { لهُم عذابٌ شَديدٌ } نزلت فى الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم فى دار الندوة
" { وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك } " [الأنفال: 30] فالمضارع فى الآيتين لحكاية الحال الماضية، وجمع المكرات إذ قال السيئات، لأنها متعددة على سبيل البدلية والقتل والاخراج، ويجوز أن يراد هنا العموم، ويدخل هؤلاء بالأولى.
{ ومَكْر أولئك } بالنبى صلى الله عليه وسلم، أراد ومكر أولئك البعداء فى الشر، الممتازين بالمبالغة فيه، ولذلك لم يقل ومكرهم { هو } لا مكرنا بهم { يَبُور } يضيع ولا يؤثر، فانهم لم يقتلوه صلى الله عليه وسلم، ولا أخرجوه ولا حبسوه بعد أن بالغوا فى فعل أحد الثلاثة، وفعل بهم الثلاثة جميعا: أخرجهم من مكة، وقتلهم وحبسهم فى قليب بدر
" { ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين } " [آل عمران: 54] " { ولا يحيق المكر السيىء إلا بأهله } "[فاطر: 43] وعن مجاهد، وسعيد بن جبير، وشهر بن حوشب، أن قوله تعالى: { والذين يمكرون } الى { يبور } فى أصحاب الرياء، بمعنى الذين يغرون الناس بأعمالهم، يوهمونهم أنها لله عز وجل، لهم عذاب شديد على ذلك، ومكرهم بائر لا يرفع أعمالهم، وقد ظن الناس وهم أنها ترفع، وزاد دليلا آخر على صحة البعث بقوله:
{ والله خَلقَكُم مِن تُرابٍ } فى ضمن خلق آدم منه فهم مخلوقون من تراب بوسائط الآباء والأمهات، أو بوسائط الدم المتولد من الثمار المتولدة من التراب، أو مضاف، أى خلق أَباكم آدم { ثُم من نُطْفةٍ ثُم جَعَلكم أزْواجاً } ذكرانا وإناثا كما قال:
" { أو يزوجهم ذكرانا وإناثا } "[الشورى: 50] أو زوج الذكور بالإناث بالذكور، ويناسب هذا ذكر النطفة وقوله تعالى: { وما تَحْمل من أنْثى } جنينا { ولا تَضَع } لا تضعه حيا أو ميتا نطفة أو علقة أو مضغة أو عظاما أو مصورا { إلا بعِلْمه } حال من الفاعل وهو أنثى أى إلا ملتبسة بعلمه بها علما كليا بذاتها وجنينها، واحوالها كلها.
{ وَمَا يُعمَّر مِن مُعمَّر } المعمر لا يزاد عمرا آخر، ولا يوجد تعميره الحاصل، لأن ايجاد الموجود بعد وجوده تحصيل للحاصل وهو محال، فاما أن يكون يعمَّر بمعنى الماضى، أى ما عمر من حصل تعميره، أى فكذلك التعمير الماضى إلا بعلمه، وإما أن يكون معمَّر بمعنى من شأنه التعمير، أو مآله اليه، ومن ذلك حديث:
"من قتل قتيلا فله سلبه" ومن مجاز المآل مثل: " { إني أراني أعصر خمراً } " [يوسف: 36] { ولا يُنْقص من عُمُره } لهاء عائد الى معمر المذكور لفظا مرادا بها غيره، معنى على طريق الاستخدام، أى من عمر معمر آخر، كدرهم ونصفه، وذلك استخدام حقيق لا شيبه به، ويجوز تقدير مضاف أى من عمر مثله، والمزيد فى عمره لا يكون منقوصاً من عمره، ومعنى تعمير المعمر إطالة عمره، ومعنى نقص العمر خلقه قصيرا من أول كقولك: أطل البناء ووسع فم البئر، أى اجعل البناء من أول أمره على الاطالة، واجعل فم البئر واسعا من أول.
ويجوز عود الهاء الى المعمر تحقيقا بدون استخدام، على أن المعمَّر صاحب العمر مطلقا طال أو قصر، أى لا يجعل لصاحب العمر عمره طويلا، ولا ناقضا إلا بعلمه، أو على أن النقص بمعنى المضى من بعض عمره، مثل لحظة وساعة، ويوم وشهر وسنة، أو على معنى أنه إن فعل كذا طال عمره، وان لم يفعله نقص ففعله فيطول أو لا يفعله فينقص، وقد قضى الله قبله أن يفعله، أو قضى أن لا يفعله، وهو تعالى لا يجهل ولا يتغير قضاؤه، ولا يحدث له علم، لأن علمه أزلى عام لا يخرج عنه شىء، فبذلك جاز الدعاء بطول العمر للمتأهل له، وبنقصه للمتأهل له، والأجل واحد مبرم ولا يتغير، ويحتمل تفسير إطالة العمر بالبركة، ونقصه بعدمها، قيل: أو على أنه لا ينقص من عمر المعمر لغيره، فمعمر بمعنى مبقى على عمره، وفيه أنه يقتضى أنه قد ينقص من عمره لغيره بعلمه تعالى، وهو محال، ولعل قائله أراد أن البقاء على العمر، وعدم النقص منه للغير متصور بعلمه، وقيل: الهاء للمنقوص من عمره، ولو لم يجر له ذكر للعلم به، أى لا ينقص من عمر المنقوص من عمره بجعله ناقصا.
{ إلا في كتاب } عظيم القدر بالضبط، وهو اللوح المحفوظ أو صحيفة الإنسان، أو علم الله الرحمن الرحيم، ويناسب ذلك كله إلا أنه بالثانى أنسب قوله صلى الله عليه وسلم:
"يدخل الملك على النطفة فى الرحم بعد أربعين أو خمسين وأربعين ليلة فيقول: يا رب أشقى أم سعيد؟ أذكر أم أنثى؟ فيقول الله تعالى، ويكتب، ثم يكتب عمله ورزقه وأجله، وأثره ومصيبته، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد فيها ولا ينقص منها" { إنَّ ذلك } المذكور من الخلق وما بعده، مع أنه تحير فيه العقول { عَلى الله } لا على غيره، وليس المقام لذكر الحصر، لأنه لا يتصور لغيره بعسر ولا يسر، إلا أن يقال: المعنى لا يعده يسيراً إلا الله، وأما غيره فيعد بحسب بادىء الرأى صعبا على الله عز وجل { يَسيرٌ } لأنه بمجرد توجه الإرادة الأزلية، لا بعمل أو احتياج الى سبب يتوقف عليه، فكذلك البعث، والله الرحمن الرحيم الموفق.