التفاسير

< >
عرض

وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
١٣
إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ
١٤
قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ
١٥
-يس

تيسير التفسير

{ واضْربْ لَهُم مثلا أصْحاب القَريْة } عطف قصة على أخرى، وإنشاء على إخبار، أو على محذوف بلا فاء أى أنذرهم، واضرب لهم مثلا، وأصحاب مفعول أول، ومثلا مفعول ثان، أى اجعل أصحاب القرية مثلا لهؤلاء فى الإصرار على التكذيب، وضرب المثل تطبيق حال غريبة بحال مثلها فى الغرابة، كقوله تعالى: " { ضرب الله مثلا للذين كفروا } " [التحريم: 10] الخ، وقد يستعمل ضرب المثل بمعنى ذكر أمر غريب ولو بلا تطبيق بالآخر، أى واذكر لهم قصة غريبة كالمثل، والتقدير: واضرب لهم مثلا مثل أصحاب القرية، وأصحاب بدل من مثلا على حذف مضاف كما رأيت، ومن القسم الأول ما شبه مضربه بمورده نحو: الصيف ضيعت اللبن، والقرية أنطاكية.
{ إذْ جاءها المُرسلون } بدل اشتمال من أصحاب، وليس ظرفا والمعنى واضرب هلم نفس وقت مجىء المرسلين إليها، أو ظرف لبدل اشتمال محذوف من قرية، والرابط ها فى جاءها، أى الحادث أو الواقع { إذ جاءها المرسلون } أو بدل كل من أصحاب بتقدير قصة أصحاب القرية، وها عائد إلى القرية، ولم يقل جاءهم برد الضمير الى أصحاب، إيذانا بأن المرسلين جاءوا أصحاب القرية، وأصحاب القرية فى القرية، ولم يلقوهم خارجا، ولو قال جاءهم لاحتمل أنهم جاءوهم، وهم في غيرها خارجاً، ويجوز رد الضمير الى الأصحاب بتأويل الجماعة، فيتبادر أنهم جاءوهم وهم فيها كذلك، والمرسلون هم الحواريون، أرسلهم عيسى حين أراد الله له الرفع الى السماء، وإنما أسند الله الإرسال إليه تعالى فى قوله تعالى:
{ إذْ أرْسَلنا إليْهم اثْنَين } لأنه هو الذى أمر عيسى عليه السلام بإرسالهم، وقال ابن عباس، وكعب: المرسلون أنبياء الله، أرسلهم إليها تقوية لعيسى عليه السلام بنصره، وتصديقه فيما يقول، قبل رفعه الى السماء، كما أرسل هارون تقوية ونصرة لموسى عليهما السلام، ويدل له قولهم:{ ما أنتم إلا بشر مثلنا } فإنه رد على من قال: إنا رسل من الله تعالى، لا على من لم يقل ذلك مثل الحواريين، وهو الظاهر من قوله عز وجل: "إذ أرسلنا إليهم اثنين" ويدل له أيضا ظهور المعجزة على أيديهم كإبراء الأكمه، وإحياء الموتى كما فى بعض الآثار.
روى أن الاثنين أخذا بندقتين من طين، فجعلاهما فى موضع العينين من صبى ممسوح كالجبهة، فصارتا له عينين يبصر بهما، وأن ابن دهقان مات منذ سبعة أيام أخر الملك دفنه حتى يجىء أبوه من سفر، فطلب الملك منهما أن يحيياه فأحيياه بإذن الله تعالى، وقالا: هل تفعل ذلك ألهتك؟ فقال: لا فآمن هو وقوم من رعيته، ومن لم يؤمن مات بصيحة جبريل، وقيل: كفر وعزم على قتلهما وقتل الثالث، ولما حيى ابن الدهقان قال لهم: أحذركم من الإشراك، فإنى أدخلت فى سبعة أودية من النار، وذلك مختص بالأنبياء أصالة وغالبا، إلا أنه قد يحتمل أنه كرامة لغير الأنبياء لا معجزة، إذ لم يدعوا الرسالة، وأنهم فهموا أنهم مبلغون عن الله تعالى، وفهموا أنهم يدعون الرسالة من الله تعالى فنفوها عنهم، وهم لم يدعوها، وإنما بلغوا عن عيسى عليه السلام.
أو لما كان مرسلهم مدعى الرسالة عاملوهم معاملة مدعيها بنفيها عنهم قصداً الى نفيها عنه، والاثنان: يوحنا وبولس، أو ثومان و بولس، أو شمعون ويوحنا، أو صادق وصدوق، أو نازوص وماروص، وقال: اليهم لا اليها، لإن الإرسال الى من يكلف ويعقل، لا الى الجماد، وأما قوله جل وعلا: { فكذَّبُوهُما } فتابع لقوله: "إليهم" بخلاف المجىء، فانه لا يختص بأن يكون الى العاقل، وأصحاب تلك القرية يعبدون الأصنام.
{ فَعزَّزْنا } أى عززناهما أى صيرناهما عزيزين قويين { بثَالثٍ } شمعون الصفا، أو سمعان، أو شلوم، أو بولص بالصاد أو بالسين، لما سجنا وجلدا مائتى جلدة، أتى هذا الثالث حتى توصل إلى الملك وأنس به، وكان يعبد الله تعالى بحضرة الصنم، فظن الملك أنه يعبد الصنم، فكلم الملك فيهما فيقال: حال الغضب بينى وبينهما فالآن أحضرهما، فقالا: إنا نعبد إلهاً قادرا لا صنما عاجزا عن إحياء ما مات، فصدقهما الثالث.
{ فقالُوا } الاثنان والثالث، والعطف على عززنا أو على كذبوا { إنَّا إِليْكُم مُرْسلون } قائله واحد، والاثنان متفقان معه، والسكوت رضاً وقبول ونصرة، ولا سيما أنه قد حضروا معاً، وهكذا قاعدة تكلم الجماعة أنه ليس يتكلم كل واحد، بل واحد مع اتفاق الباقين، وكذا فى قوله تعالى:
{ قالوا } أى أصحاب القرية للثلاثة { ما أنتُم إلا بشَرٌ مثْلنا } لا مزية لكم تختصون لأجلها بالرسالة من الله تعالى، أو بالمجىء بما جئتم { وما أنزْل الرَّحْمن } على أحد { من شيءٍ } تدعوننا إليه، فهم مقرون بالله، وسموه الرحمن إشارة الى انه عظيم الرحمة وكثيرها، لا يحتاج الى عبادتنا، ولا تضره أفعالنا، فهم يرحم من لا يعبده ومن يعبده، وإنما نعبد ما نعبد من الأصنام لتعيننا على مصالحنا، وهى محتاجة، ولذكرهم الرحمن علمنا أنه لم يصح ما قيل أنهم قالوا لا نعرف إلها ً غير أصنامنا، وعلى صحته فالمعنى لا نعرف إلهاً يحتاج للعبادة، والرحمن موجود لا يحتاج إليها، ويبعد ما قيل: إن لفظ الرحمن من كلام الله لا من كلامهم، وإن المعنى ما أنزل الذى تدعون وجوده شيئا، وأنه ذكر لفظ الرحمن لحلمه وجلبهم إليه، وصرحوا بمضمون قولهم: { ما أنتم } إلى { من شيء } فى قولهم: { إنْ أنتُم إلا تكْذِبُون } ولم يقل كاذبون للدلالة على تجدد الكذب واستمراره.