التفاسير

< >
عرض

وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ
١١٣
-الصافات

تيسير التفسير

{ وباركنا عليه وعلى إسحاق } أفضنا على ابراهيم واسحاق بركات الدين، كجعل أكثر الأنبياء والرسل منهم، والدنيا كتكثير نسلهما، وجعلهم ملوكا، وايتاء ما لم يؤت أحدا من العاملين، قيل: باركنا عن ابراهيم فى أولاده، وعلى إسحاق بأن أخرجنا من صلبه ألف نبى، أولهم يعقوب، وآخرهم عيسى، على نبينا وعليهم الصلاة والسلام { ومِن ذُرِّيتهما مُحْسنٌ } بالايمان والعبادة والأمر والنهى، ونفع عباد الله فى دينهم ودنياهم { وظالمٌ لنَفْسه } بالأشراك وما دونه من المعاصى { مُبينٌ } ظاهر الظلم، ولا يلزم أن تكون ذرية الصالح صالحة، ولا عيب على الصالح بفساد ذريته، امتن الله عز وجل على ابراهيم بالذبيح وهو اسماعيل، وبابنه اسحاق هذا الممدوح، وإسماعيل هو أكبر سناً، فما الحكمة فى دعوى تعدى الذبيحية عنه الى من بعده، وأى دليل وهو أيضا يذكر قبل إسحاق اذا ذكرا فى القرآن كما يقدم اسحاق على ابنه يعقوب، وكما قدم اسحاق على يعقوب فى الهبة إذ قال: " { ووهبنا له إسحاق ويعقوب } " [الأنعام: 84] لتقدمه بالزمان.
قال الله تعالى:
{ { وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [البقرة: 136] وقال تعالى: { { أم تقولون أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [البقرة: 140] وقال عز وجل " { قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } " [آل عمران: 84] قال عز وجل: { { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } [النساء: 163] وقال تبارك وتعالى: " { قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق } " [البقرة: 133] وعلى أن الذبيح اسماعيل: على وابن عمر وأبو هريرة وكثير من الصحابة والتابعين، وغالب المحدثين، ونسب لعلماء الصحابة ويناسب ذلك وصفه بالصبر فى قوله عز وجل: " { وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين } " [الأنبياء: 85] ويصدق الوعد فى قوله: " { إنه كان صادق الوعد } "[مريم: 54] فناسب قوله: " { ستجدني إن شاء الله من الصابرين } " [القصص: 27] ويناسب ذلك أيضا شهرة لأن قصة الذبح فى مكة، وشهرة تعلق قرنى الكبش بالكعبة حتى احترقا حين احترقت أيام حصار الحجاج ابن الزبير ويناسب توارث قريش لهما خلف عن سلف.
ويناسبه ما رواه الحاكم والطبرى بسنده الى معاوية: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاه أعرابى فقال: يا رسول الله خلفت الكلأ يابسا، والماء عابسا، هلك المال، وضاع العيال، فعد على مما أفاء الله تعالى عليك يا ابن الذبيحين، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحد الذبيحين أبو النبى صلى الله عليه وسلم استضعفت قريش عبد المطلب، وأيضا تمنى أن يجد من يعينه على حفر زمزم حين أمر بحفرها، فنذر ان رزق عشرة أولاد أن ينحر عاشرهم، فكان أباه صلى الله عليه وسلم، فأمرته كاهنة أن يقربه وعشرة من الابل ويقرع، فكلما وقعت القرعة عليه زاد عشرة حتى تمت مائة وقعت عليها، فكانت فداء له، وكانت دية للرجل.
وقيل: قال أخواله: ارض ربك وافد ابنك، فبلغت مائة، والآخر اسماعيل، ويناسب ذلك أن فى التوراة: خذ ابنك وحيدك الذى تحبه، وامض به الى بلد العبادة، وأصعده ثم [قرب] قربانا على أحد الجبال الذى أعرفك به، ألا ترى الى قوله: وحيدك، ولا يصدق إلا على اسماعيل، إذ ولد له وهو ابن ست وثمانين، وولد له اسحاق وهو ابن مائة، وأيضا قوله: الذى تحبه أنسب بأول ولد، لأنه أشد حبا عند أبيه، ومعنى وحيدك ولدك الذى لا ولد لك سواه، لا الذى انفرد بحضوره، كما يقول المتأول المبطل اخراجا لاسماعيل على أنه بمكة تأويلا باطلا، كما تأول بعض بأنه وحيد أمه وهو باطل، إذ لم يقل وحيد أمه، بل قال وحيدك.
ويناسب ذلك أيضا قول ابن كثير: أن فى بعض نسخ التوراة بكرك بدل وحيدك، وأن عمر بن عبد العزيز قال لعالم يهودى قد أسلم: أى ولدى ابراهيم الذبيح؟ فقال إسماعيل، قد علمت اليهود ذلك، لكن يحسدوكم يا معشر العرب، ولا يصح ما روى عن العباس أنه صلى الله عليه وسلم قال:
" "الذبيح إسحاق" لأن فى سنده الحسن بن دينار وهو متروك، وشيخه منكر الحديث، وعن أبى سعيد الخدرى عنه صلى الله عليه وسلم: " إن داود سأل ربه أن يجعله مثل إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فأوحى الله إليه انى ابتليت ابراهيم بالنار واسحاق بالذبح، وابتليت يعقوب فصبروا" قلت: هو موضوع عنه صلى الله عليه وسلم، وكذا ما روى عن ابن مسعود أنه صلى الله عليه وسلم قال: " "الذبيح إسحاق" وكذا ما روى عن أبى هريرة أنه صلى الله عليه وسلم قال: " "لما فرج الله عن إسحاق كرب الذبح قيل له: يا إسحاق سل تعطه" وأيضا فى سنده عبد الرحمن بن زيد، وحديثه غريب منكر كما قال ابن كثير، وكثر تحريفهم فلعلهم حرفوا: إسماعيل بإسحاق، فالمرجع الى ما مر أولا من الأدلة على أنه إسماعيل، واحتمال كون ذلك بالشام لا يدفع كونه بمكة، ودعوى أن القرنين حملا من الشام خلاف الأصل مع قوة أهل الشام على أهل مكة فى الجاهلية عددا وعدة وديانة، فكيف يتركون القرنين لهم.
وخبر أنه سار فى غداة وأخذ بإسحاق الى منحر منى، ورجع وبلغ أهله عشية اليوم موضوع عليه أثر الاهمال، وخبر يا ابن الذبيحين، ولو زعموا أن فيه من لا يعرف يقويه ظاهر الآية، ونص التوراة فنقول: لو كذب القائل يا ابن الذبيحين لزجره النبى صلى الله عليه وسلم، ولو لم يعرف صحته ولا كذبه لم يبتسم له، بل يطلبه بالدليل، ودل سكوته وتبسمه أن أباه عبد الله لم يولد حين قال عبد المطلب ما مر، فطلب كمال العدد به، لا كما قيل: إنه قد ولد حين قال، وحمل الأب على إسحاق لأنه عم خلاف الأصل.
قال السيوطى: قد كنت أميل إلى أن الذبيح إسحاق، ولا رأيت قوة الأدلة توقفت، وفى أدلة أنه إسحاق رائحة الأخذ عن اليهود، وظاهر الآية يكفى، ومن نذر ذبح ولده عصى ولا نذر فى معصية الله وذلك لإبراهيم خاصة.