التفاسير

< >
عرض

يَا أَيُّهَآ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ ءَامِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَىٰ أَدْبَارِهَآ أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَٰبَ ٱلسَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ ٱللَّهِ مَفْعُولاً
٤٧
إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱفْتَرَىٰ إِثْماً عَظِيماً
٤٨
-النساء

تيسير التفسير

{ يَآ أّيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ ءَامِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا } أى القرآن { مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُم } من التوراة والإنجيل { مِّن قَبْلِ أن نَّطْمِسَ } فى الدنيا والآخرة { وُجُوهاً } نمحو ما فيها من حواجب وعيون وأنوف وأفواه، فتكون كالقفا لا أنف ولا فم ولا عين ولا حاجب فقوله { فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَآ } بيان للإجمال، قيل أى نصيرها على صورة الأقفاء، أو المعنى نجعل الوجوه مكان الأقفاء، والأقفاء مكان الوجوه، وفى كل من ذلك تشويه عظيم يوجب الغم الشديد والأول أشد، أو المعنى من قبل أن نزيل عزتها ووجاهتها ونكسوها الذل والإدبار، أو من قبل أن نقبحها، أو من قبل أن نردها إلى حيث كانت، وهو أريحا وأذرعات من الشام، إذ كانوا فيها قديما، فجاءوا إلى الحجاز وقد لحقهم ذلك؛ إذ أجلى النضير إلى الشام فطمس آثارهم من الحجاز وبلاد العرب، أو من قبل أن نغير أحوالهم بالطبع على قلوبهم إلى الضلال، أو من قبل أن نذل رؤساءهم، ولما دخل غعمر بن الخطاب رضى الله عنه الشام فى خلافته قرأ قارىء هذه الآية ليلا، فسمعها كعب الأحبار، وقد جاء من اليمن، يريد بيت المقدس، فبادر إلى عمر صبحاً، وهو فى حمص، سافر إليها من المدينة، فأسلم أو جدد إسلاماً له سابقاً ضعيفاً، وقال بت خائفاً أن أطمس وأمسخ، كما قال الله جل وعلا، وقد قيل رجع إلى أهله باليمن فجاء بهم وأسلموا قبل وصول بيت المقدس { أَوْ نَلْعَنَهُمْ } يجزى أصحاب الوجوه المدلول عليهم بالوجوه، أو نخزى الوجوه أى الرؤساء، أو نخزى الذين أوتوا الكتاب، التفاتا من الخطاب إلى الغيبة، وذلك الخزى بالمسخ قردة وخنازير { كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السَّبْتِ } بالمسخ، وكذلك روى أنه لما نزلت وسمعها عبد الله بن سلام قادما من الشام بادر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتى أهله فى المدينة، وقال يا رسول الله: ما كنت أَرى أن أصل اليك حتى يتحول وجهي في قفاي، أو نلعنهم على لسانك كما لعنا أصحاب السبت على لسان داود عليه السلام، وهو أظهر لقوله تعالى: { قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة } الآية، فجمع بين اللعن والمسخ، فتبين أنه غير المسخ، وعلى التفسير بالمسخ رفع الله المسخ بإتيان البعض كما يرد الله العذاب عن قوم لرجل فيهم أو لأطفال المخاض، أو المراد أنهم استحقوا الطمس لا وعيد به فلم يتخلف وعيد، وقيل سيكون، وهو بعيد، لأن الذين باشروا الكفر على عهده صلى الله عليه وسلم أحق به، وأجيب بأن عادة الله الانتقام من أخلاف اليهود بما فعلوا من اتباع أسلافهم، قال المبرد: لا بد من طمس ومسخ فى اليهود قبل قيام الساعة { وَكانَ اَمَرُ اللهِ } قضاؤه كله { مَفْعُولاً } لا يبطل ولا يتبدل ولا يتغير، جعل الوليد لعبده وحشي بن حرب أن يعتقه إن قتل حمزة يوم أحد فقتله فلم يعتقه، فكتب من مكة هو وأصحابه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خدعنا ومنعنا من الإسلام ما تقرؤه حين كنت بمكة، { { والذين لا يدَعون مع الله إلهاً آخر } [الفرقان: 68] الآية، وقد فعلنا ذلك كله، فنزل { { إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحاً } [الفرقان: 70] الآيتين، فكتب بهما صلى الله عليه وسلم إليهم فكتبوا إليه، إنا نخاف أن لا نعمل عملا صالحا فنزل قوله تعالى:
{ إنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرِكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } فبعثها إليهم، فبعثوا إليه، إنا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته تعالى، فنزل
{ { قل يا عبادى الذين أسرفوا.. } [الزمر: 53] الآية، فبعثها إليهم، فأسلموا فجاءوا من مكة، فقال صلى الله عليه وسلم: "كيف قتلت حمزة؟" فقال: كنت له بجنب صخرة ولا يعلم بى، فاستقبلته بخنجر خرج من ظهره فقال له: "ويحك، غيّب وجهك عنى" ، فلحق بالشام، قيل مات فى خمر ولم يرتد، ومعنى قولهم نخاف أن لا نعمل صالحا نخاف أن لا نقتصر على العمل الصالح بل تارة عملا صالحا وآخر سيئا وتوهموا أنه من تاب لا تغفر له معصية فعلها بعد توبته، فأوحى الله إن الله لا يغفر الإشراك لمن أشرك ولم يتب، حتى إنه لو كان فى المسلم خصلة شرك لم ينتبه لها ولم يقبل عمله الصالح ولا اجتنابه الكبائر والصغائر إلا إن كان يقول: اللهم إنى أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم وأستغفرك لما لا أعلم، أو اللهم اغفر لى الشرك، وما دونه، ويغفر الله ما دون ذلك الإشراك لمن يشاء، ككبيرة نسيها ولم ينو الإصرار، ولو حقا لمخلوق، فتخرج من حسناته، أو يخلصها عنه ولده أو غيره، ومثل أن تعد حسناته وسيئاته عند أصحابنا المشارقة، فتغلبها الحسنات، أو الآية من باب التنازع أى أن الله لا يغفر له أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، فالهاء فى له لمن يشاء، وكأنه قيل: إن الله لا يغفر الإشراك لمن يشاء، وهو من قضى أن لا يتوب من شركه ويغفر ما دون الإشراك لمن يشاء، وهو من قضى أن يتوب أو نسى ذنبه بحيث لا يطلق عليه اسم المصر، أو من الحذف من الأول لدلالة الأخير أى لا يغفر أن يشرك به لمن يشاء، وقال أبو عماررحمه الله : ما دون ذلك الصغائر لأنها تغفر لمن اجتنب الكبائر ولو بلا قصد توبة منها، ما لم يصر عيها، لقوله تعالى: { { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } [النساء: 31]، فليس فى آيتنا هذه أن الله لا يغفر الخ، إن الكبيرة تغفر بلا توبة، والآية حجة على الخوارج، إذ قالوا إن كل ذنب شرك أو كل كبيرة شرك، وهم الصقرية والنجدية والأزارقة، قال السعد فى حاشية الكشاف: لما كانت الآية نازلة فى شأن التائب دل سبب النزول على أن المراد بقوله: { ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء }، لمن يكون تائباً من ذنبه فلا يفيد جواز المغفرة بدون التوبة، أهو، يعنى ردا لهذه الآية إلى سائر آيات التوبة، فلا يعترض بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، بل قيد آية بغيرها، والآية نزلت بسبب تائب كما روى أن شيخا من العرب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أنى شيخ منهمك فى الذنوب إلا أنى لم أشرك بالله شيئا منذ عرفته وآمنت به، ولم أتخذ من دونه وليا، ولم أوقع المعاصى جرأة على الله ومكابرة له وما نوهت طرفة عين أنى أعجز الله هربأ، وإنى لنادم تائب مستغفر، فماترى حالى عند الله؟ فنزلت { وَمَن يُشْرِكْ بِاللهِ } فى اعتقاد أو قول مع اعتقاد أو فعل مع اعتقاد { فَقَدِ افْتَرَى إثْماً عَظِيماً } أعظم من كل ذنب إلا الإياس من قبول التوبة من شىء ما، فإنه أعظم من ذلك كله، وإلا كتم نبى وحيا، فإنه أعظم من ذلك، إلا أنه لم يكتم نبى قط، حاشاهم صلى الله وسلم عليهم، والافتراء القطع، وهو حقيقة فى الكذب، وفى فعل ما لا يصلح، وقيل مجاز مرسل أو استعارة فيما لا يصلح.