التفاسير

< >
عرض

قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا ٱثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا ٱثْنَتَيْنِ فَٱعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَىٰ خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ
١١
ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ ٱللَّهُ وَحْدَهُ كَـفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَٱلْحُكْمُ للَّهِ ٱلْعَلِـيِّ ٱلْكَبِيرِ
١٢
-غافر

تيسير التفسير

{ قالُوا } إذعانا لقدرة الله على البعث { ربَّنا } يا ربنا { أمتَّنا اثْنَتَيْن } اماتتين اثنتين { وأحْييتنا اثْنَتيْن } احياءتين اثنتين، فالنصب على المفعولية المطلقة على القياس من لفظ الفعل، ولاحاجة الى دعوى خلاف الأصل من تقدير اسم مصدر الفعلين، هكذا موتتين اثنتين، وحياتين اثنتين، وتفسير اسم المصدر بالمصدر، فليقدر المصدر من أول أولى من تقدير فعل ثلاثى ومصدره والأصل عدم الحذف، أى أمتنا فمتنا موتتين اثنتين، وأحييتنا فحيينا حياتين اثنتين.
روى ابن جرير، عن ابن عباس، والحاكم، عن ابن مسعود: أن الاماتة الأولى خلقهم أمواتا، والثانية اماتتهم لأجلهم، والاحياءة الأولى نفخ الروح فيهم، وهم فى البطون، والثانية نفخ الروح فيهم يوم البعث كقوله تعالى:
" { كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتا فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم } " [البقرة: 28] ويجوز اعتبار موت النطفة بانفصالها عن الصلب، وهى فيه حية حال خروجها أيضا،واطلاق الامانة على خلق الشىء بلا روح مجاز، والحقيقة سلب الحياة مما هى فيه، وذلك من باب حمل الفعل على الصرف على غيره.
فمعنى أماتهم أولا: صرف الحياة عنهم، أى تركها كوسع الدار، ووسع الباب بمعنى أنه بناهما من أول الأمر واسعين، ولا يشترط فى ذلك القدرة على المصروف عنه كما يوهم كلام بعض المحققين، وذلك كقولنا: سبحان من صغر البعوضة، وكبر جسم الفيل، وليس فى ذلك نقل من كبر الى صغر، ومن صغر الى كبر، وذلك أن الكبر والصغر جائزان فى الشىء واذا صرفه عن أحدهما فصرفه كنقله عنه، وجعل بعضهم ذلك استعارة بالكتابة، يترتب عليها المجازالمرسل، وفى ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز، وهو عدم الحياة هكذا مطلقا والاحياء والحياة لا يحتاجان الى سبق موت مسبوق بالحياة، فلا جمع بين الحقيقة والمجاز فى الاحياء المذكور فافاضة الروح على الجنين احياء حقيقة، وعلى الموتى يوم البعث حقيقة أيضا.
وقال السيد: الاماتة الأولى إماتتهم لأجلهم، والاحياءة الأولى احياءهم فى القبر للسؤال، والاماتة الثانية اماتتهم الى قيام الساعة بعد الاحياء للسؤال، والاحياءة الثانية ايحاءهم فى البعث، ولا يبحث بأن فى ذلك ثلاث احياءات، لأنه لم يذكر حياة الدنيا، لأن انكارهم فى الدنيا انما هو لاحيائهم فى القبر، واحياءهم للبعث، ولم يفسر كلامهم بالثلاث، وهو فى الآية باثنين، ولا اشكال فى ذلك، وقال ابن زيد: أحاؤهم نسما عند "ألست بربكم" واماتتهم بعد أخذ العهد، واحياءهم فى الدنيا، واماتتهم فيها، ثم احياءهم أى فى القبر على أن يعده، ويعد احياء البعث واحدا، أو أراد احياء البعث، ولا يبحث بأن فيه احياءات واماتات، أنه لم يفسر الآية ذلك، بل أراد ذكر ما كان.
وعبارة بعض الصوفية عدوا أوقات البلاء والمحنة أربعة: الموتة الأولى فى الدنيا، ثم الحياة فى القبر للسؤال، والموتة الثانية فى القبر، ثم الحياة للجزاء، ولم يعدوا الحياة الدنيا لأنها ليست من أقسام البلاء، وقيل حياتان: حياة الدنيا وحياة الآخرة، وموتتان: الموتة الأولى فى الدنيا، ثم الموتة الثانية فى القبر بعد حياة السؤال، ولم يعدوا حياة السؤال لقصرها، ويشكل فى الباب ما ورد من الأخبار فى تعذيب الكفار فى قبورهم استمرارا، وتعدد حياتهم وموتهم فيها مع العذاب، كلما رجع اليهم أرواحهم، ولا يصح أن يقال: التثنية فى الآية للكثير، فتشمل الاحياءات كلها، والاماتات كلها، مثل:
" { ثم ارجع البصر كرتين } " [الملك: 4] وفلان يفعل كذا مرة بعد أخرى، يراد أنه يكثر فعله، لأن ذلك يصح اذا لم يذكر لفظ اثنين والثنتين، أما اذا ذكر فلا.
{ فاعْتَرفْنا بذُنُوبنا } بسبب الاماتتين والاحياءتين التى شاهدنا من انكار البعث، وسائر المعاصى { فَهَل إلى خُروجٍ } ما من النار الى الدنيا، أو موضع من المواضع ندارك فيه ما فات، والظاهر أنهم أرادوا الخروج العاجل، ويحتمل أن يريدوا العاجل والآجل وهو خبر { مِنْ سَبيلٍ } مبتدأ، ومن صلة للعموم أى الى سبيل ما ولو ضيقا أو قليلا أو عسرا، واجيب طمعهم فى الخروج بالاقناط فى قوله تعالى:
{ ذلِكُم } الخ أى تستمرون فى النار كما استمررتم على الشرك، حتى متم لا خروج لكم، وهذا أولى من أن يقال: أرادوا بقولهم: فهل الخ غير ظاهره من طلب الخروج، بل كلاماً يقوله القانط تعللا وتحيزاً، ولا يقال: لو أريد الخروج ليتداركوا لقال: اخسئوا فيها، لأن فى معناه قوله تعالى: { ذلكم } وقد يناسب ارادة التسحر دون الطمع فى الخروج قوله تعالى: { ذلكم بأنه } الخ أى ذلكم الذى أذعنتم لدوامه من العذاب، وتحسرتم فيه، أو ذلكم المقت بأوجهه السابقة { بأنَّه } أى ذلكم العذاب الذى أنتم فيه ثابت دائم بسبب أنه، أى أن الشأن { إذا دُعِيَ الله وحْدَه } أى عبد وحده، أو ذكر بالألوهية وحده، ووحده فى معنى اسم مفرد غير مضاف هو حال، أى منفردا أو هو مصدر مفعول مطلق لمحذوف هو حال، أى يوحده وحده.
{ كَفَرتُم } بتوحيده، تعالى: { وإنْ يُشْرك بهِ تُؤمنُوا } بالاشراك وتعتقدونه { فالحُكْم لله } الَّذى لا يقضى إلا بالحق { العَلىِّ الكَبير } المتصف بغاية العلم والحكمة وعلو الشأن، فيشتد عقابه على العصاة بحسب ذلك، فيكون بنار دائمة.