التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي ٱلنَّارِ وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ
١٥
-محمد

تيسير التفسير

{ مَثَل الجنَّة الَّتي وعد المتَّقُون } صفتها العجيبة كبعض الأمثال الغريبة، وهو مبتدأ خبره محذوف، أى فيما يتلى عليكم مثل الجنة، أو فيما قصصنا عليك مثل الجنة، وقيل فيما يتلى عليكم ما تستمعون، وفسره بقوله عز وجل: { فيها أنهارٌ } وقدره بعض هكذا ظاهر فى نفس من وعى هذه الأوصاف، وقيل: الخبر هو قوله: { فيها أنهار } ولا تحتاج لرابط لأنها نفس المبتدأ فى المعنى أو الخبر، هذه المجملة، ومثل زائد أى الجنة فيها أنهار، وهو ضعيف، وقيل: الخبر { كمن هو خالد في النار } وانما لم يذكر الستفهام فى مثل الجنة لظهور أن من اشتبه عليه حال المتمسك بالبينة، وحال التابع لهواه، اشتبه عليه أن مثل الجنة الخ كمن هو خالد فى النار، وكأنه قيل: مثل ساكن الجنة، كمن هو خالد فى النار، كقوله: " { أجعلتم سقاية الحاج } " [التوبة: 19] الخ.
{ مِن ماءٍ غير آسِن } متغير الطعم أو الريح لنحو طول المكث، والفعل كنصر ينصر، وضرب يضرب، وعلم يعلم، وهو لازم، ومن متعلق بمحذوف نعت لأنهار للبيان أو للتبعيض، أو للابتداء وكذا فى قوله: { وأنهارٌ من لبنٍ لمْ يتغيَّر طَعْمه وأنهارٌ من خَمْر لذةٍ للشَّاربين وأنهارٌ من عَسلٍ مُصفَّى } فى معانى من معنى من، وكون ما بعد النكرة نعتا لها، وتغير الطعم فى اللبن بالحموضة، وتغير الريح لا يفارق تغير طعام، أو شراب لذ، ويجوز كونه هنا مصدرا للمبالغة، كأنها نفس الالتذاذ، واحترز به عن كراهة ريح خمر الدنيا، والسكر بها وحموضتها، ولا لذة فى نفس شرب خمر الدنيا، ولذلك قيدها بلذة، ومعنى وصف العسل بالتصفية خلوصه من شمع وفضلات النحل وغيرها، وذلك شرب، وما يجرى مجرى الشراب.
وبدأ بالماء لأنه أفضل المشروبات لذة اذا احتيج اليه فى الدنيا، وتعالج به الأطعمة فيها، ولا يغنى عنه شراب، وهو يغنى عن سائر الأشربة، وأيضا هو مركب الطعام، وبه يسرى الطعام فى العروق، ثم باللبن لأنه يجرى مجرى الطعام، ولا سيما عند البدويين، ولأنه يتولد منه غيره كالزبد والسمن والأقط وغير ذلك، ثم بالخمر لأنه اذا حصل الرى والشبع تشوقت النفس إلى ما تلذ به، وأخر العسل لأنه شفاء، ولا مرض فى الجنة، وذلك الماء لم يمسه يد، ولا عالجت خروجه، بل يروى أنه يجىء الفم، وذلك البن لم يعالج بيد، ولا جرى من بين فرث ودم، وتلك الخمر لم تعصرها يد ولا رجل، ولا أصلها شىء عصر منه، وذلك العسل لم يجر من نحل، وكل ذلك خلقة من الله.
ومما ذكر فى الأخبار ما روى عن الكلبى: ان نهر دجلة نهر الخمر فى الجنة، وأن عليه ابراهيم عليه السلام، وجيحون نهر الماء فيها، ويسمى نهر الرب، والفرات نهر اللبن لذرية المؤمنين، والنيل نهر العسل، وفى البيهقى عن كعب الأحبار: النيل نهر العسل، ودجلة نهر اللبن، والفرات نهر الخمر، وسيحان نهر الماء فى الجنة، وعن كعب الأحبار: نهر دجلة نهر ماء أهل الجنة، ونهر الفرات نهر لبنهم، ونهر مصر نهر خمرهم، ونهر سيحان نهر عسلهم، وهذه الأنهار تخرج من الكوثر كذا قيل، ولفظ مسلم عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"سيحان وجيحان والفرات والنيل كلها من أنهار الجنة" فيقال ذلك على حقيقته، وأن الجنة مخلوقة الآن، والمعنى أنها تصير فى الجنة ماء الجنة وخمرها ولبنها وعسلها، أو هى الآن فيها على تلك الأوصاف، ولما خرجت الى الدنيا تغيرت.
وعنه صلى الله عليه وسلم:
"إن في الجنة بحر العسل وبحر الماء، وبحر الخمر، وبحر اللبن ثم تشقق الأنهار" رواه الترمذى، وسيحان وجيحان من بلاد الأرمن نهران عظيمان جدا، سيحان فى أدرنة، وجيحان فى المصيصة، وأكبرهما جيحان، وهما غير سيحون وجيحون، والله أعلم بصحة ذلك، وعلى صحته يكثر الله ماء تلك الأنهار، ويفرقها على أهل الجنة، وينبعها من حيث شاء، ويعلى منها ما زاد، والله على كل شىء قدير.
{ ولَهُم فيها } مع الأنهار المذكورة { مِن كلِّ الثَّمرات } يتعلق بمحذوف نعت المبتدأ محذوف مخبر عنه بلهم، أى نوع ثابت من الثمرات، وقدر بعض زوجان من كل الثمرات لقوله تعالى:
" { من كل فاكهة زوجان } " [الرحمن: 52] ومن للتبعيض، ومن أجاز زيادة من فى الايجاب والتصريف أجاز كون كل مبتدأ، ومما يقال: ولا مانع منه أن فيها كل تمرة ولو حامضة أو مرة أو قاتلة، أو لا يرغب فيها يصيرها الله غير حامضة، وغير قاتلة، وغير مرة، بل مرغوبا فيها ففيها الحنظل حلوا أو زنجبيلا، أو على سائر الأوصاف المحمودة { ومغفرة } عظيمة مبتدأ محذوف الخبر، أى ولهم مغفرة عاطفة سابق على لاحق، ولم أعطفه على المبتدأ المخبر عنه بلهم، لأنه مقيد بقوله: { فيها } والمغفرة قبل دخول الجنة، لا فى الجنة، وانظر هل يجوز عطفه عليها بدون قيده، أجازه بعض المحققين، اذ لو قيل: ولهم مغفرة قبلها لجاز، فليجز اثباتها هكذا، ولا مانع من أن تعطفه عليه بقيد آخر، أى ومغفر قبلها، ولو قلت: لزيد عند حبشى وأمة لم يلزم أن تكون حبشية، أو بقيد صالح فى الجنة كتقدير مضاف، أى ونعيم مغفرة، أو يراد أثرها وهو التنعم لا النعيم، لأنه مذكور بما قبل، إلا أن يراد تعميم فى النعم بعد تخصيص، أو يراد بها رضوان الله مجازا أو يراد بها أن لا تذكر لهم ذنوبهم لئلا يلحقهم وجع الحياء.
{ مِن ربِّهم } نعت مؤكد للمغفرة بعد توكيدها بالتنكير المفيد للتعظيم { كَمَن هُو خالدٌ في النَّار } خبر لمحذوف مقرون باستفهام محذوف للتقرير، أى أمن هو خالد فى تلك الجنة الموصوفة كمن هو خالد فى النار أو يقدر مؤخر النكتة، ويقدر الاستفهام فى الخبر، أى أكمن هو خالد فى النار من هو خالد فى تلك الجنة، ويبعد كونه بدل كل من قوله:
" { كمن زين له سوء عمله } " [محمد: 14] وما بينهما اعتراض جىء به لبيان ما يمتاز به فى الآخرة من هو على بينة من ربه فى الدنيا تقريرا لانكار المساواة.
{ وسُقُوا ماءً حميماً } حارا مكان أشربة المؤمنين اللذيذة المذكورة، وفى تسمية ذلك سقيا بعد ذكر ما سقى به المؤمنون تهكم بهم، فان السقى موضوع لما هو لذيذ للشارب، واستعمل المطلق إلا ساعة، ولو مع كراهة، والجمع باعتبار معنى من، والجمله فعلية عطفت على اسمية هى قوله: { هو خالد فى النار } { فَقطَّع } شدد لمبالغة، كأنه قيل تفتت ثم ترجع باذن الله { أمْعاءَهُم } من شدة الحرارة، والمفرد مع بفتح الميم وكسرها، وهو ما ينتقل الطعام اليه بعد المعدة اذا أدني الى وجوههم ذلك الماء شوى وجوههم، حتى يسقط لحمها وجلدها، فيبقى العظم ثم يرد كما كان، فإذا شربوه قطع أمعاءهم.
روى الترمذى، عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"إن الحميم ليصب على رءوسهم فينفذ إلى الجوف فيسلت ما فيه حتى يخرج من قدميه، وهو الصهر، ثم يعاد كما كان" وروى الترمذى، عن أبى أمامة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يسقى من ماء صديد يتجرعه يقرب إلى فيه فيكرهه، فإذا أُدني منه شوى وجهه، وقعت فروة رأسه، فإذا شربه قطع أمعاءه حتى تخرج من دبره" قال الله تعالى: { ماءً حميماً فقطع أمعاءهم } ويقول: " { وإنْ يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل يشوي الوجوه } " [الكهف: 29] وقال: حديث غريب.