التفاسير

< >
عرض

سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً
١١
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰ أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً
١٢
-الفتح

تيسير التفسير

{ سَيقُول لك المخلَّفون } الذين تركتموهم خلفكم، ولم يخرجوا معكم الى مكة عام الحديبية معتمرين { مِن الأعراب } عرب البدو لا واحد له من لفظه الا بالنسب، تقول: جاء أعرابى، وقل مفرده عرب على العموم، ثم خص بأهل البدو ومنهم، والمخلفون منهم: جهينة، ومزينة، وغفار، وأشجع، والصمايل، أو سلم، وديل، ونخع، طلبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرجوا معه للعمرة حذرا من قريش أن يتعرضوا له بحرب، أو يصدون عن البيت، وأحرم هو صلى الله عليه وسلم، وساق معه الهدى، ليعلم أنه ما أراد حربا، فامتنعوا لما رأوا أنه استقبل صلى الله عليه وسلم عددا عظيما من قريش وثقيف وكنانة والأحابيش، وهم القبائل المجاورون حول مكة، وقالوا: كيف نذهب الى قوم عزوه فى داره وقتلوا أصحابه؟ وقالوا ولم يتمكن الايمان فى قلوبهم: لن يرجع محمد وأصحابه من هذه السفرة، فأوحى الله تعلى اليه بما قالوا، فأخبرهم بما قالوا قبل أن يصل اليه رسولهم به، وباعتذارهم المذكور فى قوله تعالى: { شَغَلتْنا } عن السفر معك الى مكة للعمرة { أموالنا وأهْلونا } اذ لا حافظ لها بعدنا، وأخروا ذكر الأهل للترقى، بأن يذكروا شيئا فشيئا فيختموا بما يكون حجة لا ترد، وان رد ما قبلها لا للاهانة، لأن المحافظة على النسوة والمماليك والأولاد أهم عند ذوى الغيرة، من المحافظة على الأموال، وذلك مطبوع فى القلوب.
{ فاسْتَغْفر لنا } ادع الله أن يغفر لنا تخلفنا عنك، فانه لم يكن لتكاسل أو لحب خذلان لك، بل لذلك الشغل، وقوله تعالى: { يقُولُون بألْسِنَتهم ما لَيسَ في قلوبهم } مستأنف لتكذيبهم إذ قالوا: تخلفنا لذلك الشغل، وفى قلوبهم أنهم تخلفوا لخذلانه، ولخوف أن يقتلوا وبخلا بمئونة السفر ومشقته، وإذ طلبوا الاستغفار طلب المعترف بالذنب، وفى قلوبهم أنهم لم يذنبوا فى تخلفهم، وأطلت الكلام على الكذب عند النظام وغيره فى موضع آخر.
{ قُل } رداً عليهم { فمن يمْلكُ } عاطفة فى الأصل على كلامهم، وأما فى الحال فمما نصب بالقول، كأنه قيل اعطف على كلامهم بقولك، فمن يملك أو فى جواب شرط محذوف، والكل وما بعده منصوب بقول، أى قل ان كان ذلك فمن يملك الخ، والملك التغلب على الشىء بقوة وضبط، قال شيخ من العرب: أصبحت لا أملك رأس البعير، ان نفر، أويقال: ملكت العجين اذا شددت عجنه، فمعنى الآية من يستطيع لكم امساك شىء من قدرة الله تعالى ان أراده بكم { لَكُم } هذه اللام صلة للفعل قبلها وهى للتمليك والنفع، والقول بأنها للبيان، أى أعنى لكم تخليط وزيادة معنى غير مراد { مِن الله } من للابتداء متعلق بيملك كما تعلقت به اللام، أو بمحذوف حال من قوله: { شيئاً } نفعا، أو دفع ضر، ودفع الضر نفع فصح أن اللازم للتملك والنفع، ولا ينافى هذا النفع عموم قوله:{ شيئاً }للضر لما عملت أن دفعه بقوله:
{ إنْ أراد بكُم ضراً } ايقاع الضر { أو أراد بكُم نفْعاً } ايقاع النفع، والضر والنفع باقيان على المعنى المصدرى، ويجوز تفسيرهما بمعنى الوصف أى الأمر الضار أو النافع، كأنه قيل: ما يضر وما ينفع، وقدر بعض من يملك لكم شيئا ان أراد بكم ضرا أو من يحرمكم النفع، ان أراد بكم نفعا، وهذا تفسير ليملك بدفع المضرة هنا، كقوله تعالى:
" { فمن يملك مِنَ الله شيئاً إنْ أراد أنْ يَهلك المسيح ابن مريم } " [المائدة: 17] الخ، وقوله: " { ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئاً } " [المائدة: 41] وأنت خبير أن دفع الضر نفع، ولا نسلم أن قولهم ملك له كذا مختص بدفع الضر، ومثل ذلك قوله تعالى: " { قل مَنْ ذا الذي يعصمكم من الله إنْ أراد بكم سوءاً وأراد بكم رحمة } " [الأحزاب: 17] والمراد عموم كل نفع، وكل ضر لا خصوص اضاعة الأهل والمال وحفظهما، كما زعم بعض، لأن العموم يفيدهما وزيادة، ولا دليل لذلك الزعم فى تهديدهم بقوله: { بلْ كانَ اللَّهُ بما تَعْملون } من الخذلان وسائر المعاصى { خَبيراً } فيجازيكم عليه، والاضراب ببل انتقالى، وكذا فى قوله:
{ بلْ ظنَنْتم أنْ لن ينْقَلب } يرجع { الرسُول } الخ والاضرابتان مقصودتان كل واحدة عما قبلها، قيل: وفى الأخيرة بدل من قوله: { بل كان الله } الخ وتفسير لما فيه من الابهام، وان شئت فاضرابات ثلاثة، والثلاثة: { وَزُيِّنَ ذلك } او الثالثة { ظننتم ظن السوء } على ان المراد ظنهم السوء عموما لا خصوص ظن أن لن ينقلب الرسول، وقيل: هو بيان للعلة فى تخلفهم، والمعنى أن اعتذاركم بالأموال والأهلين كذب، ليس ذلك مرادا، بل خفتم أن يقتل النبى صلى الله عليه وسلم والمؤمنون فتقتلوا معهم، كما قال: { أنْ لنْ ينقلب الرسول } { والمؤمنون إلى أهليهم } عشائرهم وقربائهم، ومن جاورهم { أبداً } بان يقتلهم المشركون، أو يقتلوا ويأسروا بعضا، وقالوا: محمد ومن معه أكملة رأس بفتح الهمزة والكاف، أى عدد قليل كمقدار عدد يشبعهم رأس ناقة أو بعير بالنظر الى من فى مكة وحولها، أو بضم فاسكان، أى كرأس مأكول، وجمع أهل جمع السلامة لمذكر فصيح استعمالا، شاذ قياسا، لأنه ليس عملا ولا وصفا، ولا يخرجه عن الشذوذ تأويل بالوصف، وأبدا تأكيد لمعنى لمن، وهو التأبيد فى النفى على أن لن للتأبيد.
{ وزيِّن ذلك } زين الشطان أو الله بخذلانه { في قُلوبكُم } ذلك الظن المدلول عليه بظننتم، أو ذلك المظنون الذى هو انتفاء انقلاب الرسول والمؤمنين الى أهليهم أبدا، والأول أنسب بقوله: { وظنَنْتم ظنَّ السَّوءِ } أى استمررتم عليه فاشتغلتم بأموالكم وأهليكم، ولم تبالوا برسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، وانما اولت الظن بالاستمرار لئلا يتكرر مع ما قبله، أو كرر للتأكيد، أو ليجمعه تأكيدا مع ما بعده من كونهم قوما بورا، كقولك: قبح الله عمرا يزنى يزنى ويسرق بذكر يزنى مرة ثانية ليكون كقولك تصريحا قبحه الله، يزنى ويجمع مع الزنى السرقة، وأل فى ذلك كله للعهد فى ظن انتفاء انقلاب الرسول والمؤمنين، وان جعلناها للجنس كان الظن مع السوء تعمما بعد تخصيص بأن يراد ذلك الظن، وسائر ظنونهم الفاسدة.
{ وكُنْتم } فى أحوالكم، أو فى علم الله، أو فى اللوح المحفوظ، أو صرتم { قَوماً بُوراً } هالكين لفساد اعتقادكم، أو فاسدين فى أنفسكم وقلوبكم واعتقادكم، وأصله مصدر ضمن معنى الوصف وهو بائر، وأجيز أنه جمع بائر لأن فاعلا قد يجمع على فعل بضم فاسكان كحائل وحول، وعائذ وعوذ، وبازل وبزل.