التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَى ٱلأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى ٱلْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّٰتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَٰرُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً
١٧
لَّقَدْ رَضِيَ ٱللَّهُ عَنِ ٱلْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ ٱلشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأنزَلَ ٱلسَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً
١٨
وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان ٱللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً
١٩
-الفتح

تيسير التفسير

{ لَيسَ عَلى الأعْمَى حَرجٌ } ضيق أو اثم فى تخلفه، وذلك نفى للوجوب كما عبر بعلى، وان خرج الأعمى بقائد جاز، كما غزا ابن مكتوم، وكان أعمى، وحضر فى بعض حروب القادسية، وكان يحمل الراية { ولا عَلى الأعْرج حَرجٌ } فى التخلف وان خرج جاز { ولا على المَريض حَرجٌ } فى التخلف، وإن خرج جاز، ومثل المريض المقعد وصاحب السعال الشديد، وصاحب الطحال الكبير، والفقير الذى لا يجد زادا أو سلاحا أو ما لا بد له منه، أو لا يجد من يقوم بالكسب لأهله، ومن لا يجد من يقوم بمريضه ممن لا بد له من قائم عليه، والجواز فى ذلك كله فى رجاء نفع ما بلا القاء نفس فى التهلكة، فقد قال الله عز وجل: " { ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } " [البقرة: 195] ولا تلقوا أنفسكم.
وقدم الأعمى فى العذر لأنه لا يبصر العدو، ولا الى أين يضرب، ولا قدرة له على الحرص بخلاف الأعرج، فله قدرة على الحرص والنظر وغيره، وقدم الأعرج على المريض، لأن المريض قد يتحامل ويشفى. { ومَن يُطِع الله ورسوله } فى الأمر والنهى { ندخِله جنات تجري من تَحتْها الأنهار ومن يتول } عن الاطاعة (نُعذُّبه عذاباً أليماً) لا يدرك قدره غير الله سبحانه وتعالى، والمراد بالمطيع والمتولين هنا ما يعم المخلفين والخارجين من الحديبية وغيرهم، وفيما قبل هذا المتخلفون والخارجون فقط، وقال: "نعذبه" ولم يقل ندخله نارا كما يناسب "ندخله جنات" على طريق الاعتناء بالعذاب، فان التعذيب يستلزم إدخال النار، وإدخال النار لا يستلزم التعذيب فى الجملة، فان الملائكة تدخلها كذا قيل، وفيه أن التعذيب لا يستلزم النار لإمكانه بلا نار، وما هنا مؤكد لما قبله، وذكر المؤمنين الخلَّص يوم الحديبية بقوله:
{ لقَد رضيَ الله عن المؤمنين إذْ يُبايعُونك تَحت الشَّجرة } هم السائرون يوم الحديبية الا جد بن قيس من بنى سلمة، فلم يبايع لنفاقه كما مر، استتر ببطن بعيره، وقال جابر بن عبد الله: كأنى أنظر اليه لاصقا بابط ناقته، مستترا من الناس، وتسمى بيعة الرضوان، لقوله تعالى: { لقد رضي الله }.
ما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الحديبية، بعث خراش ابن أمية الخزاعى بكسر الخاء، على جمل له صلى الله عليه وسلم، يقول عنه صلى الله عليه وسلم:
"إنَّه جاء للعمرة لا للقتال" فعقروا جمله، وأرادوا قتله، فمنعه الأحابيش، فدعا عمر ليبعثه اليهم فقال: يا رسول الله عرفت عدواتهم لى، ولا أحد من بنى عدى يمنعنى، ولكن ابعث عثمان فانه محبوب فيهم، وفيهم عشيرته، فبعثه الى أبى سفيان وأشراف قريش، وقال: "أخبرهم أني لم آت لقتال بل للعمرة وادعهم للإسلام" وأمره أن يبشر رجالا ونساء مؤمنات فيها بقرب الفتح، ولقيه أبان بن سعيد، فنزل عن دابته وحمله عليها، وأجاره وأخبر قريشا وقالوا له: ان شئت فطف بالبيت، ولا سبيل لدخولكم علينا، فقال: لا أطوف حتى يطوف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحبسوه، وشاع أنه قتل، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا نبرح حتى نناجز القوم" ونادى مناديه ألا ان لله أوحى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تبايعوه فبايعوه كلهم بسرعة إلا جد بن قيس، ثم أتى الخبر أنه لم يقتل عثمان.
قال جابر بن عبد الله: بايعناه على أن لا نفر كما فى مسلم، وقال سلمة بن الأكوع: بايعناه على الموت كما فى البخارى، وأول من بايعه أبو سنان، وهو وهب بن محصن، أخو عكاشة، وقيل سنان بن أبى سنان
" قال: ابسط يدك أبايعك، قال صلى الله عليه وسلم: علام تبايعني؟ قال: على ما في نفسك، قالوا: علام نبايعك يا رسول الله؟ فقال بكير بن الأشج: بايعوه على الموت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل على ما استطعتم" قال جابر: بايعناه وعمر آخذ بيده كما فى مسلم.
وقال البخارى عن نافع: ان عمر أرسل ابنه عبد الله يوم الحديبية الى فرس له عند رجل من الأنصار ليقاتل به يبايع عند الشجرة، ولا يدرى عمر بذلك، فبايع ابنه وذهب الى الفرس فجاء به الى عمر، ووجده يستلئم للقتال، فأخبره بالمبايعة، فذهب معه ليبايع تحت الشجرة، فضرب صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى على يده الأخرى وقال:
"هذه بيعة عثمان" وسمع المشركون فخافوا، وبعثوا عثمان، وجماعة من المسلمين.
وجمع بين حديث مسلم وحديث البخارى بأن ما فى مسلم فى مبدأ البيعة، المؤمنون ألف وأربعمائة عند الجمهور، ورواه البخارى عن جابر، وحدث سعيد بن المسيب، عن جابر أنهم ألف وخمسمائة، كذا رواه أبو داود، عن عبد الله بن أبى أوفى ألف وثلاثمائة، وعند ابن أبى شيبة، عن سلمة بن الأكوع: ألف وسبعمائة، وذكر موسى بن عقبة: أنهم ألف وستمائة، وعن ابن سعد: أنهم ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون، ويجمع بالازدياد، وبعدة الأصاغر، واسقاطها، والشجرة سمرة، وكان الناس يأتونها ويصلون عندها بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر عمر بقطعها خشية الفتنة لقرب الجاهلية، ولخوف أن تعظم حتى كأنها تعبد.
وعن ابن عمر: رجعنا من العام الصقيل فما اجتمع منا اثنان على الشجرة التى بايعنا تحتها، وكانت رحمة من الله تعالى، أى كان ذهابها رحمة من الله تعالى، لئلا يفتن بها.
ويروى أن الناس اتخذوا عندها مسجدا، وأخبر سعيد بن المسيب: أن أبى أخبرنى بها، وهو ممن بايع، ومن قابل نسيناها أينساها الصحابة وتعلمونها أنتم، ويجمع بأنه لما قطعها عمر توهموا أنهم نسوها، وروى أن عمر قال: اين كانت الشجرة؟ فبعض يقال: ها هنا، وبعض ها هنا، وكثر اختلافهم، فقال: سيروا ذهبت الشجرة، وعن عمرو ابن دينار، سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية:
"أنتم اليوم خير أهل الأرض" وكنا الفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر اليوم لأريتكم مكان الشجرة.
وعن سالم: عن جابر: كنا خمس عشر مائة، وأفادت الآية أن من لم يبايع سخط الله عليه، وهو ضد الرضا، وذلك جد بن قيس لعنه الله، واذ للتعليل، ولا بأس بالتعليل لما هو ازلى، وهو الرضا بالحادث، وهو المبايعة، والمضارع لحكاية الحال الماضية على كل حال، ومعنى الرضا الأزلى علمه بسعادة السعيد، واعداد التوفيق له، ولك جعل الرضا صفة فعل حادثة كالمدح، واثبات الجنة والتوفيق، ونحو ذلك، وذلك كاثابة من رضى عمن تحت يده، ثم قيل: مفيد التعليل هو اذ، وقيل: هى ظرف زمان، ومفيدة ما بعدها كافادة العلة بتعليق الحكم بمضمون المشتق.
{ فعَلِم مَا فى قُلوبِهم } من الصدق فى المبايعة عند قتادة وابن جريج والقراء، ومن الايمان والخرص على الدين وحبه عند ابن جرير ومنذر بن سعيد، ومن بغض المشركين ومصالحتهم ورغبتهم فى القتال لو أنه صلى الله عليه وسلم قد قبل الصلح، أو من كراهة البيعة على الموت، لكن أنزل الله سكينته فبايعوا، بل من كل ذلك، والعطف على يبايعونك، لأن المعنى بايعوك فعبر عنه بالمضارع كما مرّ، أو على رضى على أن معنى علم ظهر علمه فعل لله، ولا فعلمه ازلى لا حادث.
{ فأنْزل السَّكينَة عَليْهم } سكون القلب بالتشجيع، فلا يضطربوا بخوف، أو المراد سكون القلب بالصلح الواضع، والأول أظهر، أو المراد سكون القلب خضوعه لقبول أمر الله مطلقا، ومنه الصلح، وعن مقاتل: علم الله منهم كراهة البيعة على الموت، فأنزل الله سكينتة فبايعوا عليه { وأثابهم فتْحاً قريباً * ومغَانِم كثيرة يأخُذونَها } أما الفتح ففتح خيبر عند ابن عباس وعكرمة وقتادة، لأنها عقب انصرافهم عن الحديبية، وقال الحسن: فتح هجر، يعنى البحرين، وقد كتب الى عمرو بن حزم فيها بالصدقات والديات، وفى البخارى أنه صالح أهل البحرين، وأخذ الجزية من مجوس هجر، ولم يغزهم وإطلاق الفتح على الصلح غير مشهور، وهو مجاز عرفى خاص، وحقيقة لغوية، لأنها كانت ممتنعة فانفتحت بالصلح، وقيل: المراد فتح مكة، وأما المغانم فمغانم خيبر قبل فتح مكة، والأولى أن الفتح فتح خيبر، والمغانم منها أيضا وفيهم ثلاثمائة فارس، للفرس سهمان، وللراجل سهم، رواه أحمد وأبو داود والحاكم، عن مجمع بن جارية الأنصارى، وقيل مغانم هجر.
{ وكانَ الله عَزيزاً } غالبا فهو يعطيكم الغلبة على من يشاء { حَكيماً } يفعل بحسب ما اقتضته حكمته تعالى.