التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عَسَىٰ أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُواْ بِٱلأَلْقَابِ بِئْسَ ٱلاسْمُ ٱلْفُسُوقُ بَعْدَ ٱلإَيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
١١
-الحجرات

تيسير التفسير

{ يا أيها الَّذين آمنُوا لا يسْخَرْ قَومٌ } منكم { مِن قومٍ } منكم آخرين، والسخر الاحتقار لعيب حقيق، أو مدعى وليس بعيب فى حضرة المسخور منه، أو غيبته أريد الاضحاك، أو لم يرد بفعل أو اشارة، أو كناية أو ايماء، أو ضحك، مثل أن تعيب أحدا بقصره أورقته أو نحو ذلك، مما ليس فعلا للمسخور منه، أو ما هو فعل منه، سخر قوم من بنى تميم، من بلال وسلمان، وعمار وخباب، وصهيب مولى أبى حذيفة، وابن نهبرة وسالم، لرثة حالهم رضى الله عنهم، فنزلت والقوم الذكور بدليل مقابلته بالنساء بعد، ومع ذلك فحكم الذكور شامل للاناث، ومع ذلك ذكرت النساء بعد أيضا لتأكيد النهى وتعميمه، قال:

أقوم آل حصن أم نساء

وأصله مصدر قام، قال بعض العرب، اذا أكلت طعاما أجبت نوما، وأبغضت قوما، اى قياما، وسموا لأنهم يقومون بالأمور العظام دنيا ودينا، ويقومون على النساء، وأما نحو قوم نوح فدخلن فيه بالتبع، وقيل: نزلت الآية فى شأن بنت أبى لهب، أسلمت فكان يقال لها: هذه بنت حمالة الحطب، وفى شأن عكرمة بن أبى جهل أسلم، وكان يمشى فى المدينة فقال له قوم: هذا ابن فرعون هذه الأمة، وشكت وشكا الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت:
{ عَسَى أنْ يكونوا } أى القوم المسخور منهم { خيراً } عند الله عز جل { منْهُم } من القوم الساخرين، روى أحمد ومسلم، عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه به، لو أقسم على الله لأبره" أو عسى أن يكون المسخور منهم اعزاء بعد والساخرون أذلاء، فينتقمون منهم أولا ينتقمون قال:

لا تهين الفقير علك أن تركع يوما والدهر قد رفعه

والأول أولى لتبادره من أن أحكام القرآن مبينة على مثال الآخرة { ولا نساءٌ } منكم { مِنْ نِساءٍ } أخر منكم { عَسَى أنْ يكُنَّ } أى النَّساء المسخور منهن { خيراً مِنْهنَّ } من النساء الساخرات عند الله، أو يصرن فى الدنيا خيرا منكم فى الدنيا على حد ما مر، روى أن عائشة وحفصة رأتا أم سلمة ربطت حقويها بثوب ابيض، وسدلت طرفه خلفها، فقالت عائشة لحفصة، كأن يسدلها لسان كلب، فنزلت الآية وتابت.
وروى أن عائشة كانت تسخر من زينب بنت خزيمة الهلالية، وكانت قصيرة، فنزلت الآية، وتابت، عن أنس نزلت فى نساء النبى صلى الله عليه وسلم اذ عيرن أم سليم بالقصر، وفى الترمذى، عن أنس، أن النبى صلى الله عليه وسلم دخل على صفية، وهى تبكى فقال:
"ما يبكيك؟ قالت إنّ حفصة قالت لي: بنت يهودي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنك لابنة نبي وإنَّ عمك لنبي وإنك تحت نبي ففيم تفتخر عليك، ثم قال: اتقي الله يا حفصة" وعن ابن عباس: نزلت فى صفية إذ قال لها بعض نساء النبى صلى الله عليه وسلم: يهودية بنت يهوديين، وفى أبى داود والترمذى، عن عائشة قلت للنبى صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا، قال بعض الرواه: المراد قصرها، فقال: "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" .
قالت: وحكيت له انساناً، فقال: "ما أحب أنى حكيت انسانا وان لى كذا وكذا" ولعلها نزلت فى جميع ذلك، إذ وقع قبل نزولها، وذكر جماعات دون أن يقول رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة، أو يقول أحد من أحد، لأن الغالب وقوع السخر فى الجماعة يتفكهون به ويتألم به المسخور منه، أو لأن الجماعة واقعة حال فنزلت الآية على حكم الجماعة كقوله تعالى: " { لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة } " [آل عمران: 130] فالربا حرام ولو لم يكن أضعافا مضاعفة، لكن نزلت فى قوم ضاعفوه أضعافا، وجملة ان والفعل وما عمل فيه يستغنى بها عن خبر عسى، لاشتمالها على المسند والمسند اليه، فيقدر المصدر مرفوعا لأن أصل ما بعدها هو المبتدأ والخبر، وهما مرفوعان، ولا تقل مرفوع ومنصوب، لأن التأويل بالمصدر لا يقبل إلا واحداً، وقيل: لا خبر لها، والمصدر فاعل، أو بمعنى قارب، والمصدر مفعول، أو بمعنى قرب، ويقدر الجار أى من أن يكونوا، أو من أن يكن.
{ ولا تَلمزُوا أنْفُسكُم } عبارة عن قوله: كل واحد منكم لا يلمز الآخر، ليفيد أن المسلمين كنفس واحدة، فمن لمز واحدا كمن لمز نفسه، فى هذا كفاية، وقيل: يقدر مضاف، الواو بمعنى بعض مجازا استعاريّاً، أى لا يلمز بعضكم أنفسكم، أى بعضكم فحذف بعض وناب عنه الواو، والجملة مقررة لمعنى الأولى قبلها لأنفسها، فان اللمز العيب، أى لا تعيبوا أنفسكم، وهو أعم من السخر، وقيل: اللمز التنبيه على المعائب او تتبعها، واشترط بعضهم قصد الاضحاك، وحضور المسخور منه فى السخر، وقيل اللمز ما كان بخفية، وقيل: المعنى لا تلمزوا أنفسكم والمزوا المشركين، ومن ينافق، كما قال صلى الله عليه وسلم: "أترعون أن تذكروا الفاسق بما فيه حتى يعرفه الناس" وهو غير متبادر، بل كأنه كالعمل بمفهوم اللقب وهو ضعيف، وليس انفس وصفا تعلق به الحكم، فيؤذن بالعلية، انما هو كذلك فى نفس الأمر لا فى العبارة، وقيل: المعنى لا تفعلوا ما تلمزون، فعبر بالمسبب واللازم عن السبب والملزوم وفيه بعد.
{ ولا تنابزوا بالألقاب } لا يخاطب بعضكم بعضا باللقب، كأنه يمضى بأصبعيه وبأسنانه، وأصل اللقب فى الذم، وكان يستعمل فى المدح والنبز مختص بالذم، وان يذكر الرجل بما يكره مما هو فى نفسه أو أبيه أو أمه أو غير ذلك، وسواء اللقب النحوى، والكنية النحوية، والاسم وغير ذلك مما هو ذم كل داخل فى اللقب، كانوا يفسحون لثابت بن قيس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، لثقل فى سمعه، فلم يفسح له رجل، وقال له: اجلس فقد أصبت مجلسا، فجلس مغضبا، ولما سكن بعض غضبه قال: من هذا؟ فقال: أنا فلان بن فلان، قال: لا بل ابن فلانة لامرأة يعير بها فى الجاهلية، فخجل فنزلت، فقال ثابت: والله لا أفخر أبدا على أحد فى النسب.
وقيل: نزل فيه قوله تعالى:
{ يا أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكر وأنثى } [الحجرات: 13] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم له: "إنك لا تفضل أحداً إلاَّ بالدين والتقوى" وفى البخارى وغيره نزلت فى بنى سلمة حى من الانصار قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وما بينهم رجل إلا له اسمان أو أو ثلاثة، فاذا أحدا دعا باسم قالوا: يا رسول الله انه يكره هذا الاسم، فنزلت، ومن ذلك أن يسلم الرجل وينادى بما فيه من قبل، كيا يهوديى ويا نصرانى ويا مجوسى، وقد كان كذلك قبل، أو يا فاعل كذا من معصية، أسلمت صفية بنت حيى فكانت النساء يقلن لها يهودية بنت يهوديين، فقال لها النبى صلى الله عليه وسلم: "هلا قلت أنا بنت هارون، وعمي موسى، وزوجي محمد" صلى الله عليه وسلم.
{ بئسَ الاسْم الفُسُوقُ } ساء اسم لهم هو الفسوق، يتصفون به بعد ايمانهم، وهو ذكرهم غيرهم بما يكره، والاسم هنا الذكر يقال: طار اسمه فى الناس أى ذكره بالكرم أو السوء، فان الايمان لا يخلط بالفسق كقوله: بئس الزنى بعد قراءة القرآن، وكقوله لتاجر صار فلاحا: بئست الفلاحة بعد التجر، والآية تدل على أن مرتكب الكبيرة فاسق، ولا تختص المعتزلة بهذا، وهذا العموم فى تفسير الآية أولى من قول بعض: ان معناها النهى عن ذكر أحد بمعصية قد تاب عنها، فهى الفسوق بعد الايمان، اى بعد التوبة، ولا بأس بما دعت اليه الضرورة للبيان كقولك: "رواه الأعمش، ولقب الخير مسنون لمن هو له اسم، كتلقيب حمزة بسيف الله، وخالد بأسد الله، وعمر بالفاروق، لظهور الاسلام به، الصديق والعتيق لأبى بكر أنه عظيم الصدق ومعتق من النار، وصفاء بدنه، وذى النورين لعثمان إذ تزوج بنتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبى تراب لعلى إذ وجده صلى الله عليه وسلم نائما على تراب".
{ ومَن لَم يتُب } من ذنوبه ومنها التنابز بالألقاب واللمز والسخرية { فأولئك هم الظالمون } لأنفسهم بتعريض أنفسهم للنار وللناس بالاخلال بحقهم، ولدين الله تعالى.