التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ ٱلظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ ٱلظَّنِّ إِثْمٌ وَلاَ تَجَسَّسُواْ وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ
١٢
-الحجرات

تيسير التفسير

{ يا أيُّها الَّذين آمنوا اجْتَنبُوا كَثيراً مِنَ الظنِّ } دعاء الى الاحتياط وتحضيض عليه، واذا اتسع المباح وخيف فيه قليل محرم اجتنب كله لئلا يوقع فى ذلك القليل، ويجوز أن يكون المراد اجتنبوا اجتنابا كثيرا، فتكون من بمعنى عن لتضمن اجتنبوا معنى اعرضوا، قيل: قال: { كثيراً } لأن الظن: واجب، وهو ظن الخير بالله تعالى، ومندوب اليه وهو الظن الحسن بالمسلم، ومحرم، وهو ظن السوء بالله عز وجل، وبالمسلم فى فعله أو قوله أو اعتقاده، والاجتناب الحذر والترك والتباعد، وأصله جعل الشىء جانبا، ولا بأس بملاحظة هذا المعنى، أى لا دخل فيه، بل تتجاوزه ويتجاوزك حتى يتضح لك الأمر، قال صلى الله عليه وسلم: "حرم من الرجل دمه وعرضه وأن يظن به ظن السوء" قالت عائشة رضى الله عنها، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ أساء بأخيه الظن فقد أساء بربه الظن" ان الله تعالى يقول: { اجتنبوا كثيراً من الظن }.
ويجوز الظن بأمارة كما اذا رأيت انسانا يدخل دار الفسق أو بيت الخمر، أو يصحب الغوانى، أو يديم النظر الى المرد، وجاء الخبر: الأمر بسوء الظن فى الناس مطلقا، بمعنى أخذ الحذر منهم، روى الطبرانى وابن عدى، عن أنس عنه صلى الله عليه وسلم:
"احترسوا من الناس بسوء الظن" وعنه صلى الله عليه وسلم: "إن من الحزم سوء الظن" .
كتب صحابى الى سعيد بن المسيب: ضع أمر أخيك على أحسنه ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظن بكلمة أخرجت منه سوءاً ما وجدت لها محملا، ومن عرض نفسه للتهم فلا يلومن إلا نفسه، ومن كتم سره كانت الخيرة فى يده، وما كافيت من عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تعالى فيه، واكتسب اخوان الصدق فانهم زينة فى الرخاء، عدة فى البلاء، ولا تتهاون بالحلف فيهينك الله تعالى، ولا تسأل عما لم يكن حتى يكون، ولا تضع حديثك إلا عند من تشتهيه، وعليك بالصدق وان قتلك، واعتزل عدوك، واحذر صديقك الا الأمين، ولا أمين الا من خشى الله تعالى، وشاور فى أمرك الذين يخشون ربهم بالغيب.
قال حارثة بن النعمان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"ثلاث لازمات أمتي: الطيرة، والحسد، وسوء الظن فقال رجل: ما يذهبهن يا رسول الله؟ قال: إذا حسدت فاستغفر الله" وروى: "فلا تبغ، وإذا ظننت فلا تحقق، وإذا تطيرت فامض" رواه الطبرانى، وروى الحسن مرسلا عنه صلى الله عليه وسلم: "ثلاث لم تسلم منهن هذه الأمة: الحسد والظن والطيرة ألا أنبئكم بالمخرج منها؟ إذا ظننت فلا تحقق، وإذا حسدت فلا تبغ، وإذا تطيرت فامض" والظن والحسد ضروريان فلا يؤاخذ بهما إلا ان بغى أوحقق وليحذر أن يوصلاه الى الاثم.
{ إنّ بعْضَ الظَّنِّ أثمٌ } ذنب اذا عمل به، بأن تحقق أو بنى عليه أمر سوء، فهو كسم فى بعض طعام لا يدرى فى أيه هو فيجتنب كل ما يمكن أن يكون فيه ما لم يخلص عن ذلك، وهذا البعض قيل: هو الكثير المذكور { ولا تَجسَّسوا } لا تبحثوا عن عورات الناس، وتطلبوا أن تحسوها، بالحاء المهملة، أى تدروها بحاسة كالأذن، كما قرأ الحسن وغيره بها، وهما بمعنى، وقيل بالجيم تتبع الظواهر وبالحاء تتبع البواطن، وقيل: بالجيم أن تبحث بغيرك، وبالمهملة بنفسك، ذلك جائز هنا، والصحيح ما مرَّ ولا يصح هنا ما قيل بالجيم فى الشر، وبالمهلة فى الخير، والظاهر جوازه، وفى مسلم، عن أبى هريرة أن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
"لا يستر عبد عبداً في الدنيا إلاَّ ستره الله يوم القيامة" وفى أبى داود، عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من رأى عورة وسترها كمن أحيا موءودة" .
قال نافع: نظر ابن عمر الى الكعبة فقال: ما أعظمك وأعظم حرمتك، والمؤمن أعظم حرمة عند الله منك، رواه الترمذى، وفى البخارى ومسلم، عن أبى هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحسسوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا كما أمركم، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، التقوى ها هنا، يشير إلى صدره، بحسب امرىء من الشر أنْ يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه وعرضه وماله، إنَّ الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم وأعمالكم، لكن ينظر إلى قلوبكم." .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فى خطبة: "يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تتبعوا عورات المسلمين، فإنَّ من تتبع عوراتهم فضحه الله تعالى في قعر بيته" ورفع صوته حتى أسمع العواتق فى الخدور رواه البيهقى عن البراء بن عازب، ومثله عن ابن عمر قال زيد بن وهب: قلت لابن مسعود: هل لك فى الوليد بن عقبة بن أبى معيط تقطر لحيته خمرا، فقال: نهينا عن التجسس، فان ظهر لنا شىء أخذنا به، قلت: لعل زيد بن وهب أراد أن الوليد فى وقت مضى، أو أراد أنه يعتاد ذلك ولم يرد أن ذلك عليه شهادة، ولا أنه شاهد ومعه آخر.
وكان عمر رضى الله عنه يعس، فسمع غناء فتسور البيت فوجد امرأة ورجلا وخمرا فقال: يا عدو الله، أظننت أن الله يستر عصيانك؟ فقال: لا تعجل فقد عصيت الله بتجسسك واتيانك من غير الباب، وبلا استئذان ولا سلام، فقال: هل عندك خير ان عفوت عنك، قال: نعم والخير ترك ما هو عليه، وقال له رجل: فلان لا يصحو، فقال له: اذا تهيأ للشرب فأتنى فأتياه وقد هيأه فاستاذنا فأزال الخمر فأذن لهما، فقال له عمر: أجد رائحة الخمر، فقال له: قد تجسست فخرج فتركه وحرس معه عبد الرحمن بن عوف، فرأيا ضوءا فى بيت ربيعة ابن أمية، فرجع وقال: أرى أنا تجسسنا، واستدل بعض على جواز الستور على المنكر بقصتى عمر قبل هذه، قلنا: لا دليل عليه، لأنه قد أذعن الى أن ذلك تجسيس، وترك ذلك ولا سيما فى القصة الأخيرة، وكذا قيل له، يكفى عمر ما رفع اليه فقبل.
{ ولا يغْتَب بَعضُكم بعضا } لا يذكره فى غيبته بما يكره فى بدنه، أو كلامه، أو فعله، أو ماله، أو ولده، أو زوجه، أو مملوكه، أو نسبه،أو طبيعته، أو لباسه، أو غير ذلك مما هو دينى أو دنيوى، سواء ذكره باللسان أو بالاشارة، بالتصريح أو بالكناية، وكذا فى محضره، وخص ذكر الغيب لأنه الغالب، وان لم يكن فيه فبهتان، وسواء كان فى الولاية أو فى الوقوف، قلت: وكذا فى البراءة، فانه يبرأ منه وينهاه، ولا يجعله شغلا الا الغرض صحيح، فليشتغل بقدر الحاجة، مثل أن يرى الناس يريدون أن يجعلوه أمينا لقضاء وفتوى، وامامة للصلاة، أو يعلن بفجوره ونحو ذلك، فإنه يذكره بالسوء كما قال صلى الله عليه وسلم:
"أترعون أن تذكروا الفاسق بما فيه متى يعرفه الناس" وقوله صلى الله عليه وسلم: "اذكروا الفاسق بما فيه يعرفه الناس" ويروى: "ليحذره الناس" وهذان الحديثان، ولو ادعى وضعهما لهما شواهد.
{ أيحبُّ أحدُكم أنْ يأكل لْحم أخيهِ مَيْتاً } بمعنى فى الاغتياب كمن فى أكل لحم اخيه ميتا لقبحه طبعا وعقلا، وشرعا فكذا الغيبة، ولا عاقل يقبل ذلك الأكل ولذا قال { فَكَرهتمُوه } عطف على محذوف أى لا يليق ذلك، ولا يحسن ذلك أو قبح ذلك فكرهتموه، والهاء للأكل قبل، أو للحم أو للميت، أو للاغتياب، ووجه شبه الاغتياب، بأكل ذلك اللحم، ان تمزيق الأعراض كتمزيق اللحم نفسه، ثم تمزيقه بالأكل، وان المغتاب كالميت لا علم له بالغيبة، لأنه غير حاضر، وذكر الحب لأن النفس مائلة اليها، واللحم ساتر على العظم، والشاتم كأنه يقشره ويكشف عن العظم، والمضى للمبالغة فى مسارعة الكراهة، أو المراد تبين الكراهة أى فتبينت كراهتهم لذلك، قيل: أو المعنى فاكرهوه، أى الاغتياب كما كرهتم ذلك الأكل.
{ فاتَّقُوا الله } عطف على كرهتموه اذا كان بمعنى اكرهوه، أو على محذوف أى فقد كرهتموه فلا تفعلوا، واتقوا الله أو امتثلوا ذلك النهى فاتقوا الله، ومن الجهالة القبيحة ما تفعله مالكية ورقلى فى الأذان من كلام يوهم لعن الصحابة، يلعنون من يبغض عليا ويقاتله، ويلعنون من يبغض معاوية ويقاتله، ويلعنون من يبغض عثمان ويقاتله، وفى ذلك لعن على ومعاوية، لأن كلا يبغض الآخر ويقاتله، ولعن الصحابة المفاتنين لعثمان، وأى داع لهم الى استمرارهم على ما يوهم لعن الصحابة والجهر به فى الأذان، ولا يوجد ذلك فى بلد من بلاد الشام. ولا فى بلاد الشرك.
وفى أبى داود عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
"لما عرج بي مررت بقوم لهم أظافير من نحاس: يخمشون وجوههم ولحومهم وصدورهم، فقلت: من هؤلاء يا جبريل قال: هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم" قال ميمون بن سيار: بينما أنا نائم إذا بجيفة زنجى وقائل يقول: كل يا عبد الله، قلت: وما آكل؟ قال: كل بما اغتبت عبد فلان، قلت: والله ما ذكرت فيه خيرا ولا شرا، قال ولكنك استمعت ورضيت، فكان ميمون لا يغتاب أحدا، ولا يدع أحدا يغتاب أحدا عنده.
{ إنَّ الله تَوابٌ رحيمٌ } لمن تاب مما اقترف من المناهى، ومما تفيده صيغة المبالغة فى اللفظين، تكرر توبته ورحمته على من عصى بعد التوبة وتاب، وهكذا، ومما تفيده كثرتهما لكثرة الذنوب، وعظم كيفيتهما مثل أن تمحق سيئاته من صحيفته، وينساها الملائكة، ويجعله كمن لم يذنب.
روى أن سلمان رضى الله عنه يخدم رجلين فى سفرهما وينال من طعامهما على عادته صلى الله عليه وسلم، فى أنه يضم فى أسفاره معسرا الى موسرين يخدمهما ويطعمانه، ونام يوما فلم يجداه، وضربا الخباء وقالا ما أراد الا أن يجىء الى طعام معدود، وخباء مضروب، فأرسلاه الى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى ادام، فأخبره سلمان، فقال صلى الله عليه وسلم:
"قل لهما قد ائتدمتما فأتياه فقالا له صلى الله عليه وسلم: والله ما رأينا اداما من حين نزلنا فقال: ائتدمتما بسلمان" وفى رواية أرسله صلى الله عليه وسلم الى أسامة، وكان أسامة خازن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى رحله، فقال: ما عندى شىء، فجاءهما فأخبرهما فقالا: ان عند أسامة اداما لكن بخل به، فأرسلا سلمان الى ناس من الصحابة، فلم يجد عندهم، فأخبرهما فقالا: لو أرسلناه الى بئر سميحة لغار ماؤها، فذلك ظن سوء بأسامة، واغتياب لسلمان، ولا سيما انهما ذهبا الى أسامة يتجسسان، وذهبا اليه صلى الله عليه وسلم فى طلب الادام، فقال: "قد ائتدمتما بلحم سلمان، وإني لأرى حرة اللحم على أفواهكما" .
وأخرج الطبرى أن سلمان أكل ورقد فنفخ فذكر رجلان أكله ورقاده، فنزلت، وفى البخارى ومسلم أنه كان مع أبى بكر وعمر رجل يخدمها فى سفر، واستيقظا ولم يهيىء لهما طعاما فقالا: انه لنؤوم، فأرسلاه فى ادام اليه صلى الله عليه وسلم فقال: "قد ائتدمتما فأتياه فقالا: يا رسول الله بم ائتدمنا؟ فقال: بلحم أخيكما والله لأرى لحمه بين ثناياكما فقالا: يا رسول الله استغفر لنا، فقال: مراه يستغفر لكما" وهذا أما قبل نزول الآية فتكون الغيبة محرمة قبل نزولها، وأما بعد نزولها ولم يدركا أن قولهما ذلك غيبة محرمة.
وبالحديث يفيد أن توبة الغيبة تكون بعفو المغتاب مما صدر، الغيبة كبيرة وأخطأ الغزالى فى قوله: انها صغيرة، ولا حجة له فى فشوها فى الناس الموجب للحرج، فانه لو فشت فى الناس كلهم لزمتهم التوبة كلهم، ولزمه أن لا تكون كبيرة ولو أصر عليها، فان فشوها يقتضى هذا، وان يصح الاصرار عليها، ودلائل كون الغيبة كبيرة لا تحصى: منها الآية، ومنها أنه مرّ صلى الله عليه وسلم بقبرين يعذب صاحبهما فى الغيبة والبول، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم:
"ما يعذبان في كبير" انهما يظنان أو يظن الناس أن ذلك حقير، أو أن ذلك شىء تسهل مجانبته، ولا تشق، ولا عذاب على صغيرة، وان قيل: لعلهما أصرا فكانت كبيرة، قلنا له: أى حجة لك فى أنه صغيرة حتى بنيت على ذلك أنها كبرت بالاصرار، ومن لم ينه عنها فعليه مثل وزر فاعلها ان قدر، وعلى الفاعل أن يتوب الى الله ويطلب العفو من المغتاب، ويستغفر له ان تولاه، ويوصل توبته الى من سمعه، ويضمن ما ترتب على ذلك من مال او مضرة بدن، وان لم تصل المغتاب فلا يخبره، وان مات اقتصر على الضمان المذكور، والايصال الى من سمع ويستغفر له ان تولاه.
وتوبة الطفل والمجنون كتوبة البالغ، ولا عفو لهما حتى يبلغ أو يعقل، وان أبى المغتاب من العفو لم يتوقف قبول التوبة على عفوه، وليفعل ما ذكر من اغتابه، وذكر قومنا أن الغيبة لا تحل فى حق الذمى، لقوله صلى الله عليه وسلم:
"من سمع يهودياً أو نصرانياً أي ما لا يجوز أو ما لا يحتاج إلى ذكره فله النار" قلت: لا بأس بمن يذم الشرك، وما هو عاقبة الشرك ولو كرها، وانما الممنوع أن تقول له: يا أعور، أو يا فقير، وقال بعض: لا غيبة لمشرك، لقوله صلى الله عليه وسلم: "الغيبة ذكرك أخاك بما يكره، ولا لمبتدع أخرجته بدعته إلى ما يقرب من الشرك" .