التفاسير

< >
عرض

فَإِنْ عُثِرَ عَلَىٰ أَنَّهُمَا ٱسْتَحَقَّآ إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِٱللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا ٱعْتَدَيْنَآ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ ٱلظَّالِمِينَ
١٠٧
-المائدة

تيسير التفسير

{ فإِنْ عُثِرَ } اطلع، يستعمل في الاطلاع على ما يخفى مأخوذ من عثر إِذا كبا لأَن العاثر ينظر إِلى موضع عثارة فيعرفه وذلك مجاز بحسب الأَصل ثم صار حقيقة عرفية عامة، وذلك إِذا قلنا مصدرها واحد { عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثماْ } أَى على استحقاقهما إِثماً وذلك نائب فاعل عثر، وقيل مصدره العثور ومصدر عثر بمعنى سقط أَو كاد يسقط العثرة والعثار فلا مجاز، لأَن معنى الاطلاع من مصدر ومعنى السقوط من وزن مصدر آخر، واستحقاق الإِثم فعل ما يثبته كتحريف وخيانة وكذب فى الشهادة بأَن وجد عندهما ما اتهما به وادعيا أَنهما اشترياه من الميت أَو أَعطاهما إِياه أَو أوصى لهما به، أَو وجد شخص آخر باعه له أَو أَعطياه إِياه أَو نحو ذلك، أَو وجد عند شخص ادعيا أَن الميت أَوصى له به أَو أَعطاه إياه أَو نحو ذلك، وقدر بعض عقوبة الإِثم والهاء للشاهدين الحالفين أَو الوصيين على ما مر أَن الاثنين المذكورين في الآية شاهدان أَو وصيان { فآخَرَانِ } فالواجب شاهدان آخران، أَو فعليكم شاهدان آخران أَو مبتدأَ خبره قوله { يَقُومَانِ } أَو هذا نعته والخبر الأوليان، أَو من الذين، ولا يحتاج لمسوغ لأَنه وصف لمحذوف وما لم يجعل خبره فهو نعته أَو حاله إلا الأَوليان فلا يصح حالا لأَنه مرفوع وصح نعت النكرة به لأَن الـ فيه للجنس، وإِذا جعل هو الخبر ففيه الإِخبار بالمعرفة عن النكرة وهو مرجوح، ولكنها هنا كالنكرة لأَن الـ فيه للجنس، وإِذا جعل نعتاً ويقومان خبراً ففيه الفصل بين المبتدأ ونعته بالخبر، وكذا إِذا جعل من الذين نعتا ويقومان خبراً وهو مرجوح فالأُولى فى من الذين جعله حالا من أَلف يقومان لكن فاءَ الجزاء أَجازت كون الخبر أَجنبياً من الموصوف بناء على أَنها جعلت مضمون الجملة الجزائية، لأَن ما للعثور على خيانتهما، والمعنى فإِن عثر على أَن الاثنين منكم أَو من غيركم استحقا إِثما بخيانتهما فآخران من أَولياءِ الميت يقومان { مَقَامَهُمَا } في توجه اليمين عليهما { مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ } من الورثة الذين استحق عليهم، أَى جنى عليهم، فإِن الشاهدين أَو الوصيين لما جنيا أَو استحقا إِثماً بسبب جنايتهما على الورثة كانت الورثة مجنياً عليهم متضررين بجنايتهما واستحقاق الإِثم كناية عن هذا المعنى؛ لأَن معنى استحق الشئَ لاق به أَن ينسب إِليه فالجانى لاق أَن ينسب إِليه الإِثم، واستحقاق الإِثم ارتكابه، وعليهم نائب الفاعل أَو استحق الإِيصاء عليهم أَى لهم، أَى لأَجلهم برد التركة إِليهم وهم الورثة، أَو استحق الإِثم عند الجمهور، أَو الضمير للإيصاء، وقيل للمال وقيل للوصية، وعليه فالتذكير بتأويل ما ذكر { الأَوليان } الأقربان إِلى الميت نسباً الوارثان له، وأيضاً هما أَحق بالشهادة لقربهما ومعرفتهما،
والمفرد أَولى أَقرب قلبت الألف ياء وتقدم إِعرابه، ويجوز جعله خبر المحذوف أَى هما الأَوليان، أَو خبراً آخر لآخران، أَو مبتدأ خبره آخران أَو بدلا من أَلف يقومان { فَيُقْسِمَانِ بِاللهِ } على خيانة الشاهدين أَو الوصيين ويقولان فى حلفهما { لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادِتِهِمَا } والله لشهادتنا إِلخ، فيقسمان في الآية قائم مقام والله. فكان قوله تعالى لشهادتنا إِلخ جوابا لقوله يقسمان، والشهادة في الموضعين بمعنى اليمين عند ابن عباس والجمهور، كقوله تعالى
{ { فشهادة أَحدهم أَربع شهادات } [النور: 6] إِلخ، واليمين كالشهادة على ما يحلف عليه إِنه كذلك أَو على ظاهرها إِلا أَنها تقرن باليمين، كما أَن اليمين يقرن بها { وَمَا اعْتَدَيْنَا } ما جاوزنا الحق باليمين بل صدقنا فيها { إنَّا إِذاً } إذا اعتدينا { لَمِنَ الظَّالِمِينَ } لصاحب الحق ولأَنفسنا بوضع الباطل موضع الحق، ومعنى الآيتين أَنه يشهد المحتضر على وصيته اثنين أَو يوصى إِليهما بدفع تركته إِلى ورثته، وهما مسلمان أَو كافران إِن فقد المسلمين لسفر أَو نحوه، والأُولى أَن يكونا مسلمين من قرابته، وإِن لم يجد من قرابته فمن غيرهم، والإِصاء إلى الاثنين احتياط فإنَ رابهما الورثة بالخيانة بأَحد أَوجهها السابقة حلفا على صدق ما قالا بالتغليظ في الوقت، وإِن اطلع الورثة بامارة فادعيا الإِعطاءَ لهما أَو لمن انتقل منهما إِليه حلف اثنان من الورثة على صدق ما قالا وعلى كذب ما قال الشاهدان أو الوصيان، والحكم منسوخ إِن كان الاثنان في الآية الشاهدين والحكم اليمين، والشاهد لا يحلف ولا يعارض يمينه بيمين الورثة، وإن كان الاثنان الوصيين فالحكم منسوخ أَيضاً وهو حلف المدعى إِذا عجز عن البينة رضى المنكر بحلفه أَو لم يرض، وإِنما الثابت حلفه برضى المنكر، وقيل أَيضا لا يجوز، وعن علي أَنه كان يحلف الشاهد والراوى إِذا اتهمهما، وفى بعض كتب الحنفية أَن الشاهد إِن لم يجد من تزكيه يجوز تحليفه احتياطاً، وروى أَن المائدة لا منسوخ فيها، روى أَن رجلا من بنى سهم خرج مع تميم الدارى وعدى بن بداء - وروى ابن نداء بالنون - وهما نصرانيان فمات السهمى بأَرض ليس فيها مسلم، ولما قدما بتركته فقد الورثة جاما من فضة مخوصاً بالذهب فرفعا إِليه صلى الله عليه وسلم فنزلت فحلفهم، ثم وجد الجام بمكة فقال المكى: ابتعناه من تميم وعدى فنزلت الآية الثانية: فإِن عثر إِلخ، فقام رجلان من أَولياء الميت السهمى فحلفا، وفى رواية الترمذى فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم - أَى وهو المطلب بن أَبى وداعة وكانا أَقرب إِليه - وفى رواية فمرض فأَوصى إِليهما وأَمرهما أَن يبلغا ما ترك لآله، ولما مات أَخذا الجام ودفعا إِلى أَهله ما بقى، ورد اليمين إِلى الورثة إِما لظهور خيانة الوصيين وتصديق الوصيين لأَمانته، وإِما لتغير الدعوى بأَن صار الوصيان مدعيين للملك والورثة منكرين، فليس ذلك من رد اليمين. وأَسلم تميم الدارى وعدى بن بداء بعد ذلك، وروى أَن تميماً وعدياً المذكورين خرجا في تجر وهما نصرانيان ومعهما بديل مولى عمرو بن العاص مسلماً إِلى الشام ومرض بديل فيه فدونَّ ما معه فى صحيفة وطرحها فى متاعه ولم يخبرهما بها وأَوصى إِليهما أَن يدفعا متاعه إِلى أَهله، ومات ففتشاه وأَخذا منه إِناء من فضة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشاً بالذهب فغيباه فوجد أَهله الصحيفة فطالبوهما بالإِناء فجحدا، فترافعوا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت فإِن عثر.. إِلخ. فقام عمرو بن العاص والمطلب بن أَبى وداعة السهميان وحلفا أَن الجام للميت، ولا يخفى أَن الوصى الواحد يكفى شأن الميت إِجماعاً وإِنما عدد الوصيين في الآية على أَنهما المراد بالاثنين لهذه الواقعة الحالية المتعددين هما فيها والسهمى بديل بن أَبى مارية بدال مهملة وهو من تميم، وليس بديل ابن ورقاءَ لأَن هذا خزاعى، ويروى بزاى بدل الدال وكلاهما مصغر، وعدى بن ابن بداء بالفتح والشد والمد والصرف، قال الذهبى لم يبلغنا إِسلامه. وروى أَنهما جحدا أَشياءَ من متاع السهمى المكتوب منها الجام، وروى أَن بديلا أَراد بذلك الجام ملك الشام. وروى أَن أَهله وجدوا الصحيفة فقالوا لهما: هل باع صاحبنا شيئاً؟ قالا: لا. قالوا: فهل اتجر تجارة؟ قالا: لا. قالوا: فهل طال مرضه فأَنفق على نفسه؟ قالا: لا. قالوا: فإنا وجدنا فى متاعه صحيفة فيها تسمية ما معه وإِنا فقدنا منها إِناء من فضة مموها بالذهب وزنه ثلاثمائة مثقال من فضة. قالا: ما ندرى إِنما أَوصى لنا بشئ وأَمرنا أَن ندفعه لكم فدفعناه وما لنا علم بالإِناء فاختصموا إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأَنكروا وحلفا ونزلت الآية الأُولى وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر ودعاهما وحلفهما عند المنبر بالله الذى لا إِله إِلا هو أَنهما لم يختانا شيئاً مما دفع إِليهما إِلخ ما مر.