التفاسير

< >
عرض

وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَٱحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ ٱلْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَـٰكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَىٰ الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ
٤٨
-المائدة

تيسير التفسير

{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ } يا محمد { الكِتَابَ } القرآن عطف على أَنزلنا التوراة { بالحَقِّ } حال من نَا أو الكاف أَو الكتاب، ولا مانع من تعليقه بأَنزل والباء بمعنى مع أَو يقدر إِنزالاً كائنا بالحق، وإِن قدرنا ملتبسين أَو ملتبساً بالحق ونحو ذلك من الأَكوان الخاصة فليس بالحق نائباً عنه { مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ } من الكتب السابقة كلها فَأَلْ لاستغراق الكتب قبله، وتحتمل الحقيقة الصادقة بالتوراة والإِنجيل لأَنهما للأَحكام ومتأَخران وأَصحابهما حاضرون متنافسون ولا يدخل القرآن في ذلك لأَنه هو المصدق لها مثلما تقول: المتكلم لا يدخل في عموم كلامه حيث تبادر العموم في غيره إلا أن يتكلف أَيضاً بقصد أَن بعضه يقصد بعضاً، والبينة هنا بمعنى التقدم فربما يفسر بها ما فى غيرها من سائر القرآن وَمَهُيْمِناً عَلَيْهِ } أَى رقيباً على ذلك الكتاب الذى أريد به الحقيقة أَو الاستغراق بأَن كان مبيناً لفساد ما نسب إِليه من الباطل وشاهدا لها بالصحة وانتفاء ما خالف الحق عنها ومقرراً لما فيها، وهاؤه أَصلية يقال هيمن كبيطر وخيصر وسيطر وبيقر، وقيل بدل من الهمزة كهراق وأَصله أَراق { فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ } بين أَهل الكتاب { بِمَا أَنْزَلَ اللهُ } إِليك وافق توراتهم أَو إِنجيلهم أَو لم يوافق، ولم يقل فاحكم به ليؤكد شأنه بذكره بلفظ الإِنزال { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ } مائلاً أَو معرضاً عما جاءَك من الحق ونحو ذلك من الأَكوان الخاصة كعادلا، والكون الخاص يجوز حذفه لدليل، أَو متعلق يتتبع لتضمنه معنى الإِعراض والميل عما جاءَه ولا يتعين هذا، ولو كان الحال كالخبر والجار والمجرور يضعف الأَخبار بهما في نحو زيد بك لأَنه إِن أريد الكون العام فلا بأس أَو الخاص ودل عليه جاز حذفه أَو لم يدل عليه لم يجز حذفه { لِكُلٍّ } أَى لكل أَمه متعلق بقوله { جَعَلْنَا } أَى أَثبتنا { مِنْكُمْ } أَيها الأُمم الحاضرون والماضون والآتون غلب الحاضرين بالخطاب، وقيل الخطاب للأَنبياء المشار إِليهم في آيات قبل وهو بعيد وأَبعد منه كونه لهذه الأُمة وليس تقديم الجار للحصر ولفظ منكم نعت لأَمة المقدر مفعول يجعلنا كقوله تعالى { أَغير الله اتخذ ولياً فاطر السماوات والأَرض } [الأنعام: 14] أَو الخطاب لليهود والنصارى وهذه الأَمة، ويناسب هذا أَنهم المذكورون والكلام فيهم أَلا ترى إِلى قوله تعالى: { { إِنا أَنزلنا التوراة } [المائدة: 44]، وقوله تعالى: { { ثم قفينا .... بعيسى ابن مريم وآتيناه الإِنجيل } [الحديد: 27]، وقوله تعالى: { { إِنا أَنزلنا إليك الكتاب } [النساء: 105] { شِرْعَةً } سميت لأَنها شرعت أَى أَظهرت وبينت أَو شرعت أَى وضعت لتقصد ويؤخذ منها كماءٍ دائم على وجه الأَرض يقصد للشرب والاستقاء وغير ذلك يتوصل بها إلى حياة القلب والحياة الأَبدية كالماء للبدن، أَو لأَنها طريقة إِلى رضى الله والجنة وطريق إِلى العمل بما يثبت ذلك { وَمِنْهَاجاً } طريقاً واضحاً واسعاً فالملة شريعة باعتبار تلك المعاني ومنهاج باعتبار وضوحه واتساعه، وإِذا فسرنا الشريعة بالظهور فقد زاد لفظ منهاج لها سعة، أَو الشرعة العبادة والمنهاج أَحكام الدين، ولأمة موسى شريعة ولأمة عيسى شريعة تضم إِليها أَمة موسى ولمن وجد في زمان سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم بعد بعثه من اليهود والنصارى والعرب وغيرهم شريعة هى القرآن والسنة وما يؤخذ منهما وكذ لكل أَمة قبل سيدنا موسى عليه السلام شريعة، والدين واحد وهو التوحيد لا يختلف ومكارم الأَخلاق واجتناب مساوئها والإقرار بحقيقة ما جاءَ من الله، ولا شريعة بعد البعثة المحمدية سوى الملة المحمدية، وتدل الآية أَن شرع من قبلنا ليس شرعاً لنا، وكذا بين الشرائع وقيل هما واحد والعطف لاختلاف الصفة أَو للتأَكيد كقول عنترة: أَقوى وأَقفر بعد أَم الهيثم، وقال المبرد: الشرعة ابتداء الطريق والمنهاج الطريق الواسع، وقيل المنهاج أَصول الدين والشرعة فروعه، وضعف وقيل الشرعة النبى والمنهاج الكتاب. وقيل: المنهاج الدليل والشرعة الطريق مطلقاً { وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } على دين واحد لا يلحق نسخ شريعة، وقيل لو شَاءَ الله لجعلكم على دين الإِسلام كلكم ولا يشرك منكم أَحد، ولا يناسبه قوله تعالى { وَلكِنْ لِيِبْلُوَكُمْ } ليظهر مطيعكم وعاصيكم خارجاً طبق علمه { فِيمَا آتاكُمْ } فإِن المعنى ولكن خالف بين شرائعكم ليبلوكم فيما آتاكم من الشرائع ولا يصح أن يقال ولكن لم يجعلكم كلكم مسلمين ليبلوكم فيم آتاكم من الشرائع ويظهر المطيع والعاصى فإِن فرض الحمل على دين الإِسلام وأَنه الأَمة الواحدة ينافى تعدد الشرائع فافهم، وقيل لو شاءَ اجتماعكم على الإِسلام لأَجبركم عليه، وقيل لو شاءَ الله تعالى لم يبعث نبياً فيتعبدكم بعقولكم، ويوفق بينها، وليس الشرائع مجرد ابتلاء بل نظر للصلاح لهم كما يدل له قوله تعالى { فَاسْتَبقُوا الخَيْرَاتِ } سارعوا إِلى الخيرات بمسابقة من الافتعال الذى بمعنى التفاعل، افعلوا طاقتكم في الخيرات وهي الأَعمال الصالحات من فعل ما أَمر به وترك ما نهى عنه كما يفعل كل من المتنافسين مع الآخر { إلَى اللهِ مَرْجعُكُمْ جَمِيعاً } أَى لأَن رجوعكم بالبعث إِلى الله لا إِلى غيره وهو لا يخفى عنه شيء من مبادرة المبادر وتقصير المقصر فيجازيه على ذلك كما قال { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } من أَمر الدين إن فلاناً مبادر للحق ثوابه الجنة وفلاناً مقصر مبطل عقابه النار وجميعاً حال من الكاف المضاف إِليها المصدر الميمى إِضافة مصدر لفاعله من رجع اللازم أَو لمفعوله من رجع المتعدى، ولو كان هذا المصدر لا ينحل إِلى حرف المصدر والفعل إِذ لا يصح أَن يقال إِلى الله أَن ترجعوا جميعاً.