التفاسير

< >
عرض

وَتَرَىٰ كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
٦٢
لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ ٱلرَّبَّانِيُّونَ وَٱلأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ ٱلإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ ٱلسُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ
٦٣
وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
-المائدة

تيسير التفسير

{ وَتَرَى } تعلم أَو تشاهد وهو أَنسب لظهور حالهم { كَثِيراً مِنْهُمْ } من المنافقين أَو اليهود { يُسَارِعُونَ } أَصله المسارعة في الخير ففيه المبالغة بأَنهم رغبوا في الشر كأَنه خير يتسابق إِليه { في الإِثمِ } الذنب ويقال الكذب لقوله { عن قولهم الإِثم } وقيل الإِثم الحرام وقيل الكذب بقولهم آمنا إِخبارا كان أَو إِنشاء إِلا أنه إِن كان إِنشاء فالكذب باعتبار تضمنه الإِخبار بحصول صفة الإِيمان وقيل الإِثم الكفر مطلقا { والعُدْوَانِ } الذنب بينهم وبين الخلق أَو خصوص الذنب المجاوز للحد { وَأَكْلِهُمُ السُّحْتَ } الحرام كالرشا وما يؤكل على الدين وعلى إِفساده، والربا وعطفه تخصيص بعد تعميم { لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلونَ } هو المسارعة في الإِثم والعدوان وأَكل السحت..
{ لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ } تحضيض على النهى { الرَّبَّانيوُّنَ } العباد { والأَحْبَارُ } العلماء، ومر كلام فيهما وهما من اليهود لأَن الكلام فيهم، وقيل الربانيون علماءِ النصارى والأَحبار علماء اليهود ولا مانع من أَن يؤمر نصراني بنهى اليهود { عَنْ قَوْلِهِمُ الإثْمَ } نصب المفرد بالقول اعتباراً لمعنى الذكر أَى عن ذكرهم الإِثم أَو لكونه بمعنى الجملة أَى عن قولهم: القرآن غير حق، أَو محمد غير رسول، أَو ليس في التوراة كذا وهو فيها، أَو معناه كذا وليس كذلك، أَو فيها كذا وليس فيها، وليس بمعنى المقول وإِلا لم ينصب المفرد مفعولا { وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ } والله لبئس أَو اللام للابتداء لشبه الفعل بالاسم لجموده { مَا كَانُوا } أَى الربانيون والأَحبار { يَصْنَعُونَ } من ترك النهى عن المنكر وترك النهى منهم عن المنكر أَشد من أَكل السحت وقول الإِثم، ولذلك قال يصنعون وهناك يعملون لأَن الصنعة ما كان من تدبير وتفكر وإِبرام فهو راسخ فبرسوخ ترك النهى زاد تركهم إِياه قبحا على قول الإِثم وأَكل السحت وأَيضاً بعلمهم بالله وكتبه يشتد النهى في حقهم عن المنكر فبتركه يشتد القبح، ويؤخذ من الآية الوعيد الشديد على من ترك النهى من علماء هذه الأُمة كما قال ابن عباس والضحاك: ما فى فى القرآن أَشد على العلماء من هذه الآية، وأيضاً المعصية لذة للعاصى ولا لذة في ترك النهى فكيف يترك فتاركه أَقبح. وأيضاً يجترئ الناس على تلك المعصية وغيرها إِذا ترك النهى فيزداد ذنب تارك النهى، ولما كذب اليهود صلى الله عليه وسلم كف عنهم ما كان مبسوطاً عندهم من النعم، وكانوا قبل ذلك أَكثر الناس مالا ونعمة فقال فنحاص بن عازوراءَ رأس يهود قينقاع أَو النباش بن قيس روايتان عن ابن عباس { يد الله مغلولة } ورضى بقوله اليهود ولم ينهوه، فكلهم قالوا فنزل قوله تعالى:
{ وقالت الَيهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ } مقبوضة عن توسيع الرزق قبضها وهو كناية عن البخل أَو عن مطلق المنع أَو مجاز استعارى، والكناية لا يلزم تحقق كلماتها بل لازمها ولو لم تتحقق كلماتها، أَو عن الفقر تعالى الله عنه كقوله تعالى:
{ { لقد سمع الله قول الذين قالوا إِن الله فقير ونحن أغنياء } [آل عمران: 181]، وذلك أَن الله جل جلاله لا يتصف باليد، وقد قيل أَنها بمعنى النعمة، لكن اليهود الزائغون مجسمون فلا يبعد أَنهم أَثبتوا اليد لله عز وجل، ومن التجسيم قولهم إِن ربهم أَبيض الرأس واللحية قاعد على كرسى فرغ من خلق السماوات والأَرض يوم الجمعة واستلقى على ظهره واضعاً إِحدى رجليه على الأَرض وإِحدى يديه على صدره ليستريح من التعب تعالى الله عن ذلك، وقالوا لموسى عليه السلام: { { اجعل لنا إِلهاً كما لهم آلهة } [الأعراف: 138] وقد عبدوا العجل وقيل قالوا استهزاءاً بالنبى صلى الله عليه وسلم إِذ لم يوسع عليه وعلى أَصحابه، وقيل يده ممنوعة من عذابنا إِلا قدر أَيام عبادة العجل، واليد القدرة أَو على ظاهره { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ } إِخبار بأَن أَيديهم ستغل في النار أَو تغل عند السحب إِلى النار أَو تغل بالأَسر، أَو تزداد فقرا بحيث لا تعطى ولا تأخذ، فالمعنى ستغل غلا لا بد منه وكأنه حاضر ومتحقق الآن، أَو غلت عن الإِنفاق الموجب لإِدرار الرزق عليهم وإخبار ببخلهم فلا ترى أَبخل منهم ولا أَفقر ولو كانوا ذوى مال؛ لأَن الغنى غنى القلب، أَو أَمسكت عن فعل الخير فالمراد كلهم لا أَيديهم فقط لا دعاء بفقر أَو قبض لأَن الله لا يدعو لأَنه إِنما يدعو المحتاج العاجز والله جل وعلا لا يحتاج ولا أَحد مثله أَو فوقه يستجلب منه إلا أَن يقال صورة دعاء بطريق الكناية بأَن يراد لازمها وهو كونهم بحال خسيسة بحيث يستحقون الدعاءَ عليهم بسوءٍ { وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا } من أَن يد الله مغلولة، أَو به وبسائر بهاتينهم أَى أَبعدوا عن الرحمة بالمسخ قردة وخنازير والذل والجلاء وإِدخال النار، والعطف على غلت أَيديهم وهو مثله في أَنه إِخبار أَو دعاء، وناقض قولهم باثبات البسط له وبكونه يعطى بيديه معاً في قوله { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } عطف على محذوف أَى ليس الأَمر كما قالوا بل يداه مبسوطتان، والمعنى أَنه جواد باسط النعمة، وهكذا المراد لا إِثبات الجارحتين ولكن ثنى اليد إِعلاماً بأَنه في غاية الجود، وكناية يراد لازمها وحده تارة وهو هنا كثرة العطاء لا معناها الحقيقى فهو هنا الجارحتان ولازمها ومعناها معاً تارة، أَو اليدان النعمتان نعمة الدنيا ونعمة الآخرة أَو نعمة إِعطاء الخير ونعمة صرف الضر، أَو نعمة الدين أَو نعمة الظاهر ونعمة الباطن وما يعطى إِكراماً وما يعطى إِهانة واستدراجاً. وقيل التثنية للثواب والعقاب وقيل للتكثير ككرتين ولبيك ومرة بعد أخرى وزعم جمهور الأَشاعرة أَن اليد في حق الله واليدين والأَيدى صفة ذات يؤمن بها بلا تكييف وهو خطأ وجمهور المتكلمين على ما نحن عليه من تفسير ذلك بالنعمة والقدرة ونحو ذلك وهو البسط المذكور فى الآية مقيد بقوله { يُنْفِقُ } الخلق أَو يصرف النعم { كَيْفَ يَشَاءُ } من تضييق وبسط على مقتضى الحكمة، وقوله { ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الأَرض ولكن ينزل بقدر ما يشاء } [الشورى: 27] وقوله { يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر } [سبأ: 36] فكأَنه قيل بل يداه مبسوطتان متى شاءَ ولمن شاءَ فهو مطلقاً جواد يبسط الخير الكثير مفرقاً بحسب مشيئته { وَلَيزِيدَنَّ } أَى والله ليزيدن { كثيراً مِنْهُمْ } من اليهود { مَا أُنْزِلَ إِلْيَك } من القرآن وغيره { مِنْ رَبِّكَ طُغْيَاناً وَكَفْراً } على طغيانهم وكفرهم السابقين كلما نزل من الله شئ كفروا به، أَو سعوا في إطفائه بالتحريف للفظة ومعناه ما أَمكن، كالمريض كلما أَكل غذاءً صالحاً للأَصحاء ازداد مرضاً { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العَدَاوَةَ والبَغْضَاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } كل فرقة من اليهود تخالف الأُخرى قلباً وقولا، وقيل: الضمير للنصارى واليهود لذكرهم في { لا تتخذوا اليهود والنصارى } [المائدة: 51] وفى لفظ أَهل الكتاب، فمنهم مجبرة ومنهم قدرية ومشبهة ومجسمة ومرجئة كما أَن النصارى ملكانية ونسطورية وماردانية وهم على ذلك حتى فى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن، وزادت النصارى أنهم على ذلك حتى فى عهد نزول الإِنجيل بخلاف فرق هذه الأمة فإِنها لم توجد في زمان نزول القرآن بل بعد رسول الله صلى الله عليهوسلم، والبغضاء في القلب والعداوة أَثرها على الجوارح من شتم وضرب ونحو ذلك فكلما كانت العداوة فالبغضاء موجودة، وليس كلما كانت البغضاء فالعداوة موجودة، فالعداوة أَخص من البغضاء وكل عدو مبغض وقد تبغض من ليس عدوا، ومن تلك العداوة بين اليهود والنصارى لا يرى جند يهوديون ونصرانيون مجتمعين على قتال المسلمين { كلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً للحْربِ } كلما شددوا شرا من جوع وأَموال ومكر وحيل وشجاعة يلقون به رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين { أَطْفَأَهَا } أَبطلها كما تطفأ النار بالماء.. { اللهُ } بإلقاء البأْس بينهم وتفرق الناس عنهم، وكذلك قبل النبي صلى الله عليه وسلم لما خالفوا التوراة وقتلوا الأَنبياءَ سلط الله عليهم بخت نصر من بابل قتل كبارهم وسبى صغارهم وأَحرق التوراة وأَخرب بيت المقدس، وذلك حين حبسوا أَرمياءَ وقتلوا يحيى وقيل شعيا، ثم أَفسدوا بقتل يحيى أَو أشعياءَ على ما مر فسلط الله عليهم قطرس الرومى، ثم أَفسدوا بقصد قتل عيسى فسلط عليهم المجوس ثم أَفسدوا فسلط عليهم الروم إِذ ردت لهم الغلبة على المجوس ثم سلط الله المسلمين عليهم وعلى الروم فقتلوا قريظة وأَجلوا النضير وبنى قينقاع، وأسر أَهل خيبر وزاد لهم أَهل وادى القرى، وضرب على أَهل الذمة الجزية، وقيل: جاء الإِسلام وهم تحت المجوس، ووجهة أن حيث غلبت الروم الفرس وهم مجوس كانوا تحت المجوس كما كانوا من قبل حتى تغلب المسلمون على الفرس مع أَن من كان منهم في أرض الروم فهو تحت الروم، وقيل الآية على العموم لا يقاتل اليهود قوماً إِلا غلبهم القوم كفاراً أَو مسلمين، وأَشار إِلى تلك الإِفسادات وغيرها بقوله { وَيَسْعُونَ فِى الأَرضِ } أَى أَرض كانوا أَو فى أَرضهم { فَسَاداً } مفعول يسعون لتضمنه معنى يكسبون ففيه مبالغة بأَنهم راغبون فى الفساد كالرغبة في جمع المال، أَو يسعون سعى فساد أَو اسم مصدر أَى لأَجل الإِفساد أَو ذوى إِفساد، وذلك أَنهم يجتهدون في الكيد على المسلمين وإِثارة الحروب وهتك الحرم، أَو يسعون بمعنى يفسدون أَى يفسدون فسادا أَى إِفسادا { واللهُ لاَ يحِبُ المفْسِدينَ } أَى يجازيهم شرا عموماً فيدخل هؤلاء بالأولى، أَو المراد من عهد أَظهر لهم ليصفهم بالإِفساد فيدخل غيرهم بالإِلحاق لعلة الإِفساد.