التفاسير

< >
عرض

وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٨٩
-المائدة

تيسير التفسير

{ وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلاَلاَ طَيِّباً } لذيذاً، لما مدح النصارى بالتقشف عن الدنيا وشهواتها زجر المسلمين عن إِفراطهم، ثم نهاهم عن التفريط بالاعتداء فدين الله بين ذلك لا إِفراط ولا تفريط، وكان صلى الله عليه وسلم يحب لحم مقدم الشاة، ويأْكل ثريد اللحم ويحب الحلوى ويمدح الحلوى وثريد اللحم ويأْمر بأَكل الحلوى، وقال صلى الله عليه وسلم: "إِن الله تعالى لم يأْمَرنى بالرهبانية" . وقال صلى الله عليه وسلم: "شراركم عزابكم، وأَرازل موتاكم عزابكم" . وقال صلى الله عليه وسلم، "من كان موسراً لأَن ينكح فلم ينكح فليس منى" ، وفى الآية النهى عن تحريم ما حل وتحليل ما حرم، وفيها أَن الرزق يطلق على ما تملك الإِنسان من حلال أَو حرام، وهو مذهبنا ومذهب الأَشعرية خلافاً للمعتزلة إِذ قصروه على الحلال، وبيان ذلك أَنه لولا الاحتراز عن الرزق الحرام لم يذكر حلالا، وهو مفعول لكلوا أَو حال من ما أََو من عائدها المحذوف، أَو مفعول مطلق أَى أَكلا حلالا، والأَكل الحرام يكون بالمأَكول الحرام إِلا أَن المعروف أَن المتصف بالحلال المأكول لا الأَكل، وللمعتزلة أَن يقولوا ذكر حلالا توطئة لطيباً وأَن يقولوا الأَكل الحرام هو أَكل الحلال باسراف { وَاتَّقُوا الله الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ } كيف تدعون الإِيمان به إِن خالفتموه في أَمره ونهيه وروى أَن هؤلاء الصحابة حلفوا على أَن يجتنبوا تلك الملاذ وأَن اجتنابها قربة، ولما نهوا قالوا: يا رسول الله كيف نفعل بأَيْماننا فنزل قوله تعالى:
{ لاَ يُؤَاخذْكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِى أَيْمَانِكُمْ } وهو الحلف غلطاً والقصد إِلى لفظ الحلف بلا قصد حلف كقولك لا والله بلا قصد يمين، والحلف على ما يعتقده أَنه وقع فيخرج خلافه كما اعتقد هؤلاءِ الصحابة أَن جب المذاكر واجتناب الطيبات ونحو ذلك قربة فخرج أَنها غير قربة، وقيل: نزلت الآية في عبد الله بن رواحة أَخرت زوجه عشاءَ ضيفه فحلف لا يأْكل من الطعام، وحلفت زوجه لا تأْكل إِن لم يأكل وحلف الضيف لا يأْكل إِن لم يأْكلا، فأَكل عبد الله بن رواحة فأَكلا معه، فقال صلى الله عليه وسلم له:
"أَحسنت، أَى بتحنيث نفسك" { وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ } بتشديد القاف للمبالغة بأَن يكون الحلف بالله وباللسان والقلب، أَو شدد لموافقة المجرد { الأَيْمَانَ } أَى بعقدكم الأَيمان من قلوبكم، أَى بنكث عقدكم الأَيمان، والنكث هنا الحنث، أَو بما عقدتم عليه الأَيمان فحذف الرابط للعلم به ولو مجروراً بما لم يجر به الموصول ولم يتعلق بمثل ما تعلق به ما جر الموصول والمراد بنكث ما عقدتم عليه الأَيمان أَو بما عقدتم عليه الأيمان إِذا حلفتم وفي هذا رد على من فسر اللغو بما يعتقده ويخرج خلافه لأَنه يصدق عليه أَنه عقد الأَيمان عليه من قلبه، والمعنى ترك الإِهمال فإِنه يؤخذ بالكفارة من عقد من قلبه { فَكَفَّارَتُهُ } صفة مبالغة أَى فعلته التى تبالغ في ستره وإِذهاب إِثمه، أَى فستارته، وفى عرف الفقه تغلبت عليه الإِسمية فالتاء للنقل، وقد قيل فعال بالشد يجوز تذكيره مع المؤنث، والهاء للنكث أَو للعقد باعتبار نكثه أَو الحنث المعلوم من المقام، أَو لليمين لجواز تذكير اليمين كما قال القرطبي، وقيل لا إلا بتأْويل الحلف، أَو للحالف المعلوم من المقام المراد به الجنس، واستدل الشافعية بذكر الكفارة بلا ذكر الحنث في الاية على جواز التكفير قبله بالمال لا بالصوم؛ لأَن الصوم لا يكون إِلا عند العجز عن غيره والعجز يتحقق بعد الحنث، وقاسوا تقديم الكفارة على الحنث على تقديم الزكاة على الحول، والصحيح أَنه لا يجوز إِلا بعده وفاقاً للحنفية لأَن موجبه الحنث، ولا دليل في الآية ولا فى قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأَى غيرها خيراً منها فليكفر عن يمينه وليأَت الذى هو خير" ؛ لأَن الواو لا ترتب، وأَيضاً في رواية "فليأت الذى هو خير ثم ليكفر عن يمينه" ، وروى أَن الشافعية يجمعون بين الروايتين في الحديث بأَن إِحداهما لبيان جواز التقديم والأُخرى لبيان الوجوب، وفاءُ الجواب ترتب مجموع ما بعدها على ما قبلها ولا ترتيب لها بين أَجزاء ما بعدها { إِطْعَامُ عَشْرَةِ مَسَاكِينَ } بالعدد ولا يجزى إِطعام ما يكفيهم إِنساناً واحداً فصاعداً إِلى تسعة أَو أَحد عشر فصاعداً خلافاً لأَبى حنيفة، وكذا فى الكسوة يعطى كسوة عشرة لواحد فعنده فيما يظهر، والمراد بالإِطعام ما يشمل الإِيكال والكيل ولا يلزم التوالى فيجوز أَن يوكل اليوم إِنساناً أَو أَكثر، ومن الغد أَو بعد الغد آخر أَو أَكثر، حتى يتم العدد، أَو يكيل كذلك أَو يوكل بعضاً ويكيل البعض كذلك، والكيل مدان من الطعام الجيد أَو ثلاثة من دونه، وأَجيز مدان من طعام مطلقاً، وأُجيز مد { مِنْ أَوْسَطَ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } لا يجزئ الدون ولا يلزم الأَعلى، وظاهر الآية عموم الطعام، والمذهب أَنه من الحبوب الست، قالت الشافعية: مد لكل مسكين، والحنفية نصف صاع من بر أَو صاع من شعير، وعن ابن عمر: الأَوسط الخبز والتمر والخبز والزيت والخبز والسمن والأَفضَل الخبز واللحم، وعن ابن سيرين الأَفضل الخبز واللحم، والأَوسط الخبز والسمن والأخس الخبز والتمر، والرابط محذوف أَى ما تطعمونه، وأَهلى جمع مذكر سالم شاذ قياساً لأَنه ليس أَهل علماً ولا صفة فعده بعض اسم جمع { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قدر ما يكفى الأَنثى في الصلاة إِن كسا أَنثى وهو ما يسترها كلها إِلا الكف والوجه، وما يكفى الذكر فيها وهو ما يستره من كتفه وقيل من سُرته إِلى أَسفل من ركبتيه قدر مالا ينكشف باطن ركبتيه إِذا ركع، والكسوة إِما بمعنى اللباس فيقدر مضاف أَى وإِعطاء كسوتهم أَو إِلباس كسوتهم، ويقدر أَيضاً أَو كسوتهم من أَوسط ما تكتسون، ويجزئ الرجل سراويل، ويشترط أَن يكون مما ينتفع به ثلاثة أَشهر لا أَقل، وعن ابن عباس: كانت العباءَة تجزئ، وعن ابن عمر: قميص أَو رداء أَو كساء، وعن الحسن ثوبان أَبيضان، وعن جعفر الصادق ثوبان لكل مسكين، ويجزئ ثوب واحد عند الضرورة، ويجزئ كسوة صبى، واشترط الحنفية أَن يكون مراهقاً. { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مؤمنة عندنا قياساً على رقبة القتل، وأَيضاً الكفارة حق الله تعالى فلا يصرف إِلى عدو الله عز وجل كالزكاة التي جاءَ فيها: ضعوها في فقرائكم، لا حملا للمطلق على المقيد وهكذا قل ولا تقل ما شهر من حمل المطلق على المقيد كما تقول الشافعية؛ وإِنما يصح هذا الحمل عندى لو كان النوع واحدا، أَو إن شئت فقل لو كان السبب واحدا أَو المعنى واحدا وليس كذلك؛ فإِن اليمين نوع والقتل نوع، فلو ذكر في موضع أَن على الحالف الحانث عتق رقبة مؤمنة وذكر في موضع آخر أَن عليه عتق رقبة لصح الحمل لاتحاد النوع، والتحرير هو الواجب لا هو والكسوة لمحرر، وصححوا وجوبها، وأَجاز أَبو حنيفة عتق الرقبة الكافرة في جميع الكفارات: اليمين والظهار وغيرهما إِلا كفارة القتل، والثلاثة على التخيير وهن فى الفضل على ترتيبهن في الآية. { فَمَنْ لَمْ يَجِدْ } ما ذكر { فَصِيام ثَلاثَة أَيَّامٍ } أَى فكفارته صيام ثلاثة أَيام، أَو فعليه صيام ثلاثة أَيام، ويشترط التتابع قياساً على الظهار أَو حملا لأَن ذلك كله نوع واحد وهو اليمين، والقياس أَولى لتخالفهما ولو كانا جميعاً يميناً، وغير الواجد من ليس له قوت سنة، وقيل من لم يكن له عشرون درهما، وقيل خمسة عشر درهما. وعن الشافعي غير الواجد من لم يكن عنده قوته وقوت عياله يومه وليلته، وفضل ما يطعم عشرة أَو يكسوهم، وعن أَبى حنيفة من لم يكن له نصاب فهو غير واجد، وعن قتادة: من لم يكن له خمسون درهماً فغير واجد، ومن غريب أَموره أَن قوله في الجديد أَن غير الواجد من من لا يملك كفاية العمر الغالب ولو ملك قوت أَيام أَو شهور أَو سنين، وهو ظاهر البطلان، وأَظن أَنه لا يصح عنه ذلك، وللشافعي قول بعدم وجوب التتابع ولا ينقضه الحيض والنفاس خلافاً للحنفية، وأَما قوله صلى الله عليه وسلم لحذيفة: فصيام ثلاثة أَيام متتابعات ففى من له اختيار، وأَما من لا اختيار له كالحائض والنفساء فلا يشترط له أَن لا يفصله حيض أَو نفاس، وكذا فيما روى عن ابن مسعود وأَبى بن كعب من التتابع { ذَلِكَ } ما ذكر كله أَى الواحد منه { كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذْا حَلَفْتُمْ } أَى وحنثتم { وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُم } عن الحنث بها، أَو احفظوا أَيمانكم بأَن لا تحلفوا إِلا في أَمرمهم لداع صحيح، وبأَن لا تواقعوها إِلا باسم الله، واحفظوا شأْنها بالتكفير إِذا حنثتم، أَو لا تنسوها فإِن حفظها أَفضل من الحنث والتزام الكفارة، إلا إِن كانت على فعل مكروه أَو معصية أَو ترك طاعة فليحنث وجوباً بترك المعصية، وبفعل الطاعة الواجبة، واستحساناً في المكروه والطاعة غير الواجبة جاءَ الحديث بذلك، وقيل: ترك المعصية وفعل الواجب كفارته، وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: "إنى والله لا أَحلف على يمين فأَرى غيرها خيراً منها إلا كفرت عن يمينى وأَتيت الذى هو خير" ، ولا يفيد هذا تقديم الكفارة على الحنث جوازاً لأَن الواو لا ترتب { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ } أَى مثل ذلك التبيين في اليمين يبين الله { لَكُمْ آياتِهِ } سائر أَحكامه في الآيات { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } لعلكم تشكرون الله على تبيينه لكم فى سهولة وعلى نعمة التعليم وجعله المخرج لكم.