التفاسير

< >
عرض

قۤ وَٱلْقُرْآنِ ٱلْمَجِيدِ
١
بَلْ عَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ ٱلْكَافِرُونَ هَـٰذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ
٢
أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ
٣
قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ ٱلأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ
٤

تيسير التفسير

{ ق } كان صلى الله عليه وسلم كثيرا ما كان يقرؤها فى الأولى من الفجر، وفى الثانية " { اقتربت الساعة } " [القمر: 1] قالت أم هشام بنت حارثة: ما أخذت { ق والقرآن المجيد } إلا من فى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقرؤ بها فى كل جمعة على المنبر فى الخطبة، ومما قيل فى "ق" إنه فعل أمر ومفاعلة من قفا يقفو، ويقال قافى يقافى قاف بكسر الفاء، أى تابع باسكان العين، أمره باتباع القرآن والعمل بما فيه، أو افعل من وقف، أى قف عند ما شرع الله عز وجل لا تجاوزه، وقيل: اسم لله عز وجل، وقيل: مفتاح كل اسم لله تعالى مبدوء بالقاف، مثل قادر وقدير، وقاهر وقريب، وقابض وقدوس وقيوم.
وشهر ان وراء البحر المحيط جبلا محيطا بالدنيا يقال له "ق" من زمرد أخضر، عروقه فى الصخرة التى عليها الأرض، إذا أراد الله زلزلة أرض حرك عرقا يليها، ولم أر ذلك فى حديث مسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل وقف على التابعين وبعض الصحابة كابن عباس، ولو روته جماعة يلتزمون تخريج الحديث الصحيح، ومع ذلك فى القلب من صحته شىء، والله قادر على أضعاف ما لا يحصى من ذلك، وأما يرد ذلك بأن الناس قطعوا هذه الأرض برها وبحرها ولم يروه، فلا يصح لأنه لا يوجد من قطع البحر المحيط عرضا لهول ما بعد منه، ولو بسفن النار، ولظلمته فانه لا تقطعه الشمس دبورا وشمالا ومشرقا، فيكف الجنوب، وأمر الزلزلة لا يتوقف على جبل "ق" وعرقه، بل يزلزلها الله عز وجل بلا شىء، وان زلزلها باحتقان بخار فيما صلب تحتها أو بغيره.
{ والقُرآن المَجِيد } قسم مستأنف، أو عطف على الاقسام بقاف، على أن قافا جبل أقسم به الله، أو أنه السورة هذه أقسم الله بها، والجواب محذوف تقديره: لتبعثن، أو أنك جئتهم منذرا بالبعث، أو انا أنزلناه لتنذر به، أو انك لمنذر، أو لا حجة لهم فى الرد عليك، أو قوله: { ما تنقص الأرض } أو
" { ما يلفظ من قول } "[ق: 18] أو " { إنَّ في ذلك لذكرى } " [ق: 37] أو " { ما يُبدل القول لديَّ } " [ق: 29] حذفت اللام فى هذه الأربعة لطول الفصل أو هو قوله تعالى:
{ بلْ عَجبُوا أنْ جاءهم مُنذرٌ منْهُم } وفيه أن بل ولو لم تكن عاطفة لكنها للاضراب، فلا تكون فى الجواب، وهب أنها فيه لكن لا يجىء مثل ذلك فى كلام العرب، فلا يخرج عليه القرآن، والأولى أنها عاطفة على محذوف، وأن الجواب أنك جئتهم منذرا بالبعث، أو انك لمنذر، أو انا أنزلناه لتنذر به، وصورة العطف هكذا مثلا، انا أنزلناه لتنذر به الناس فلم يؤمنوا به، بل عجبوا، أو فلم يقبلوا بل عجبوا، أوفشكوا بل عجبوا، لم يكتفوا بالشك بل جزموا بالتكذيب، وجعلوه من الأمور التى يتعجب منها، وقيل: الاضراب متعلق بقوله: "المجيد" أى بل عجبوا لجهلهم بمجد القرآن، لا لانتهاء المجد عنه، فانه مجيد، والتعجب من الشىء يقتضى الجهل بسببه، وهو تكلف لا يتبادر.
ومعنى المجيد الشريف، ومجده حسنة لفظا ومعنى، فلا حاجة لوصفه للنسب أى ذى الشرف، على أن المشهور فى النسب فاعل، كتامر ولابن، لا فعيل كقريب وعجيب، ولو صح عن العرب، ولا يخفى أن شرفه على سائر كتب الله، لأنه أحسن لفظا ومعنى، وأنه معجز وناسخ غير منسوخ، ولأنه مشتمل على أسرار لم ينزلها الله تعالى فى غيره وغفلوا عن كون حسنه يوجب له اسم مجيد، فأولوه بالنسب ليكون المعنى انه صاحب المجد المنسوب لله تعالى، وأولوه بأنه من المجد الذى هو السعة فى الكرم فقالوا: معناه أنه مشتمل على ذكر مكارم كثيرة، دنيوية ودينية وأخروية، وأولوه بأنه وصف بصفة جاعله كما فى القرآن الحكيم بالاسناد المجازى العقلى، أو تقدير مضاف أى المجيد منزله أو جاعله أو خالقه والقرآن مخلوق، أو المجيد متبعه بالعمل به، وأولوه بأنه فعيل من الثلاثى بمعنى اسم مفعول من أمجده بالهمزة، أو مجده بالشد، أى صيره مجيدا.
قلت: لم يتخلص قائله من الاشكال مع ان استعمال الثلاثى بمعنى الأفعال أو التفعيل لا نسلم حسنه ولا جوازه، وان قلنا به فى موضع فعلى طريق الحكاية، وان جاءهم على تقدير اللام أو الباء، أى لمجىء منذر منهم، او بمجىء منذر منهم، أى من جنس قريش، أو من جنس العرب، أو جنس البشر، والأول أشد عيبا عليهم، ويليه الثانى، إذ لم يقبلوا ما هو شرف لهم، والثالث أنسب بقولهم: كيف يكون النبى بشرا، وكذا واو عجبوا لقريش أو العرب أو للناس.
{ فقال الكافرون هذا شيءٌ عجيبٌ } تفسير وتفصيل لعجبهم، والفاء لذلك، أو عطف لتعجبهم من البعث على تعجبهم من ارساله صلى الله عليه وسلم، والاشارة لى كونه منذرا، أو الى البعث المدلول عليه بقوله تعالى:
{ أئذا مِتْنا وكنَّا تراباً } مقررا للتعجب، ومؤكذا للانكار، ومبينا لموقع تعجبهم، وهو بعثهم بعد أن كانوا ترابا، والفاء لكون تعجبه بالبعث بعد تعجبهم بالارسال اذا جعلنا الاشارة للبعث، ومعلوم أن البعث يذكر بعد الرسالة، وانكار أحدهما انكار للآخر، ومقتضى الظاهر فقالوا وأظهر ليصفهم بما فيهم من قبل من الكفر، فذلك كالعهد الذكرى، وليحل على أن تعجبهم من البعث أقبح من تعجبهم من ارسال البشر لتضمن انكار البعث نسبة الله تعالى إلى العجز عنه، مع معاينتهم ما يدل له، وما هو أقوى منه، واذا متعلق بمحذوف يقدر قبله على خروجها عن الصدر، أى الحى إذا كنا تراباً، أو إذا كنا تراباً نحيا كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك كما يدل له قوله تعالى: { ذلكَ } الاحياء، أو ذلك البعث، أو ذلك الرجع { رجْعٌ } رد من موت الى حياة مصدر رجع المتعدى، والهمزة للانكار { بَعيدٌ } من الأوهام والعادة والامكان، وذلك من كلامهم.
ويجوز على ضعف أن يكون الرجع بمعنى رد المشركين لمخبرهم بالبعث، فتكون الاشارة الى انكارهم البعث فى قولهم: "أئذا متنا" الخ أو الى قولهم هذا أو الى جوابهم النبى صلى الله عليه وسلم بالانكار، فيكون قوله تعالى: "رجع بعيد" من كلام الله تعالى، أى بيعد عن الحق، أجابوا به منذرهم صلى الله عليه وسلم، ولا يلزم فى هذا الوجه أن يكون رجع بمَعنى مرجوع كما قيل، أى جواب مرجوع، ووجه انكارهم البعث تفتت الجسم وفناؤه، فرد الله تعالى عليهم بأنه عالم بما تفتت وما فنى منهم فى الأرض فقال:
{ قَد علمنَا ما تنقص الأرضُ } وغيرها اقتصر عليها لأنها أكثر فى ذلك ومعناه تفنى وتأكل، وهو أولى من تفسره بتغييب الميت فيها، فينقص من عدد الأحياء { مِنْهم } من شعورهم وجلودهم ولحومهم وعظامهم وأظفارهم { وعِنْدنا } وحدنا { كتابٌ حَفيظٌ } زيادة تعميم فى عمله بكل شىء، وانتفاء عجزه، وذلك كناية عن الضبط والاحاطة بكل شىء علما بأعمالهم، واجزاء الموتى، وان قلنا اللوح المحفوظ فذلك بيان لما ذكر، وتقدير له، ولا ينسى شيئاً ولا يحتاج الى اللوح المحفوظ، ولا يخفى أن القادر على خلق شىء من غير شىء، قادر على اعادة ما فنى ولم يبق منه بعض ولا أثر، نقول: هذا تقليدا لكمال قدرته، والا فالمعدوم كيف يرجع بنفسه، فأنه اذا تصورت وجوده فامَّا أن الموجود شىء آخر مثله كما قال به بعض، وهو مخالف للصواب، لأن الله عز وجل يقول: أبعثكم ولم يقل أبعث أمثالكم، اما أن يكون هو الأول فأين كان حتى رجع والغرض أنه عدم، وأما صفته أشكاله فلا اشكال كما يبقى عندك وصف الشىء وشكله، ووصف الفعل بعد العدم.
وانما قلت ذلك خلاف الصواب، لأن فيه نسبة العجز الى الله، وتعريض أجسام لم تعص على صورة العذاب، الخصم يقول: لا بأس فى ذلك، وله أن يفعل ما يشاء، مع أن العذاب مطلقا ليس للجسم، وانما هو للروح، والروح باق، وقد أذعنت قلوبنا الى أنه قادر على ايجاد ما فنى، كما قدر على خلق شىء من غير شىء، بل نقول: ولا بأس تغنى الأرواح التى فى صور اسرافيل، ويخلقها الله، أو تبقى وهى كالجماد ولا بأس، ويحيى الله تعالى بها الموتى، وان قلنا: هى احياء فى الصور فلا بد من موتها، ثم احيائها، قال أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم:
"ليس من الإنسان شىء لا يبلى إلاَّ عظم واحد وهو عجب الذنب، منه يركب الخلق يوم القيامة" رواه البخارى وغيره، ولا بأس فان المعنى أن حكمة الله ابقاءه لا أن الله يعجز عن البعث بدونه وهو أول ما يخلق، وآخر ما يخلق، فالله سبحانه وتعالى يحيى من الميت ما بقى، ويرد ما فنى ويحيه.