التفاسير

< >
عرض

قَالَ قرِينُهُ رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ وَلَـٰكِن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ
٢٧
قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِٱلْوَعِيدِ
٢٨
مَا يُبَدَّلُ ٱلْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ
٢٩
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ ٱمْتَلأَتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ
٣٠

تيسير التفسير

{ قالَ قَرينُه } شيطانه المقرون للاغواء { ربنا ما أطغَيتُه } ما حلمته على الطغيان بالاجبار، وهذا الكلام يستدعى أن الكافر اشتكى الى الله عز وجل بأن قرينه أضله، وطمع أن يكون له عذر، أو يعذب قرينه بدله، أو يخفف عنه العذاب، أو يكون تحته فى النار أو نحو ذلك، أو القرين كل من قرن به ويغويه من الإنس والجن، وعن ابن عباس: القرين الملك، يقول الكافر: ان الملك زاد علىَّ من السيئات ما لم أفعله، فيكون معنى { ما أطغيته } ما زدت عليه ما يكون به طاغيا.
{ ولكن كان في ضلالٍ } باختياره لا بإجبار كما قال:
" { وما كان لي عليكم من سلطان } " [إبراهيم: 22] إلخ { بعيدٍ } راسخ شديد من جهة نفسه حتى أثر فيه أدنى وسواس، فذلك هو البعد، وقيل: بعيد عن الحق لم يقرب منه، وكأنه قيل: فما قال الله عز وجل؟ فقال عز وجل:
{ قال } الله عز وجل { لا تَخْتصمُوا لديَّ } أى عندى فى موقف الحساب، وليس ينفعكم اختصامكم، والحال أنى قد أنذرتكم وبينت لكم فى الدنيا ما قال: { وقَد قَدَّمت إليْكُم بالوعيدِ } فى كتبى، وعلى ألسنة رسلى افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا، أو أنه من عصانى أعذبه، وجاءكم أنى قلت لابليس:
" { لأملأن جهنم منك وممن تبعك } " [ص: 85] والباء صلة، والوعيد مفعول به، أو قدمت بمعنى تقدمت، فالباء على أصلها، ولا يصلح أن يكون قوله تعالى:
{ ما يُبدَّلُ القَولُ لَديَّ } مفعول به لقدَّمت إلا على أن المراد هذا اللفظ الذى هو: { ما يبدل } الخ وتقدير أنه ما يبدل، أو تضمين قدمت معنى قلت، والأصل خلاف ذلك كله، فهو مستأنف فى مجموع ما انسحب عليه قوله: قال ولدى متعلق بيبدل، ولا حاجة الى تعليقه بالقول، والقول هو قوله عز وجل:
" { لأملأن جهنَّم } " [السجدة: 13، ص: 85] أو الوعيد مطلقا، أو قوله يوم خلق العباد، هذا سعيد وهذا شقى، أو قوله: " { ألقيا في جهنم } " [ق: 24] أو مطلق الوعد والوعيد، والمراد لا أبدل القول، ولا يبدله غيرى لا طاقة لأحد أن يبدل ما قلت.
{ وما أنا بظلام للعَبِيد } إنما أجازكم بأعمالكم، وقد فعلتموها باختياركم لا باجبارى، ولو أجبرتكم عليها، وعاقبتكم عليها، لكنت طالما لكم، وقوله:
{ يوم نَقُول لجهنَّم هَل امْتَلأت وتَقُول هَلْ مِنْ مَزيدٍ } متعلق بظلام، أو بيبدل، أو مفعول به لا ذكر أو لأنذر لأنه كما يقال أنذرهم بكذا، يقال: أنذرهم كذا، وقوله: "لجهنم" ايحاء اليها بملك أو بخلق كلام حيث شاء، وقولها هو نطق باذن الله يخلق فيها عقلا ونطقا، وقد تعبدنا باتباع الظواهر كما فى قول جهنم ما لم يمنع مانع، كما فى قول الله، فانه منزه عن التلفظ، ومن تمييز النار وعقلها، وتميز الجنة وعقلها تحتاجهما تقول النار مفتخرة: انه وضع فيها المتكبرون، وتقول الجنة: مالى لا يدخلنى الا الضعفاء؟ فيقول الله عز وجل للنار: أنت عذابى، وللجنة: أنت رحمتى، ولعل الحديث موضوع، وكيف تفتخر النار بالعصاة، وكيف يهون على الجنة من يدخلها، وان لم يكن موضوعا فالمراد التمثيل والبيان، فلا نطق ولا محاجر، ولا حاجة إلى قول بعض يوم نقول لخزنة جهنَّم هل امتلأت جهنم، تقول هى اى خزنتها: هل من مزيد، ومن صلة لتاكيد العموم، ومزيد مبتدأ خبره محذوف، أى عندك أولى، سواء جعلناه مصدرا ميميّاً بمعنى الزيادة، أو اسم مفعول أى مزيود، ثقلت الضمة على الياء فحذفت وقلبت الواو يا لكسر محدث قبلها، وحذفت الياء الأولى أو الثانية للساكن.
قيل: المراد أنها متسعة يبقى فيها فراغ عمن يدخلها من الانس والجن، فذلك كناية عن اتساعها، ولست تطلب الزيادة حقيقة، ويعترض بقوله تعالى:
" { لأملأن جهنم } " [السجدة: 13،ص: 85] فلا فراغ فيها، وأجيب بأن المراد بملئها اكثار داخليها حتى لا تخلو طبقة من طبقاتها من كثرة، وهذا معتاد، تقول: امتلأت القرية بالناس، تريد كثرتهم، ولا تريد أنه ما فيها فراغ، والاستفهام للتقرير، ويجوز أن يكون المعنى أنها لا تقبل الزيادة، فيكون الاستفهام للانكار، وبه قال ابن عباس رضى الله عنهما.
ونجمع بين لك بأن يكون فيها فراغ فتطلب الزيادة حتى تمتلىء، وفى حديث أنس عنه صلى الله عليه وسلم: لا
"تزال تطلب المزيد حتى يضع الرب فيها قدمه" وفى حديث أبى هريرة: "حتى يضع الرب فيها رجله" وذلك تقرير للزيادة لا انكار لها، والقدم عبارة عما يقدم اليها آخرا، فلا تزال تستزيد ويلقى فيها ما يلقى، حتى يلقى فيها آخر ما يلقى، أو المعنى حتى يتم فيها ما قضى الله أن يتقدم اليها كقوله تعالى: "قدم صدق" أى متقدم صدق، والرجل الجماعة كما فى حديث أيوب عليه السلام:" ألقى الله اليه رجلا من جراد، أى جماعة من جراد من ذهب، أو وضع والرجل عبارة عن كفها عن طلب الزيادة، وابطاله كما تقول: وضعته تحت قدمى، تزيد ابطاله، وسلف الأشعرية يقولون: ان ذلك قدم ورجل بلا كيف، ويعرضون عن التأويل ونقول: الحديث ان لم يكن موضوعا فهو مأول بما.
وعن ابن عباس: سبقت كلمة الله
" { لأملأن جهنم من الجنَّة والناس أجمعين } " [السجدة: 13] فتقول ألست أقسمت فتملأني، فيضع قدمه فيها فيقول: هل امتلأت فتقول: قط قط قد امتلأت ولا مزيد فيَّ، ولفظ البخارى ومسلم، عن أنس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزال جهنم يلقى فيها تقول: هل من مزيد، حتى يضع رب العرش" وفى رواية "رب العزة" وفى رواية: "الرب" فيها قدمه فيزوى بعضها الى بعض وتقول قط قط بعزتك، ولا يزال فى الجنة فاضل حتى ينشىء الله تعالى لها خلقا فيسكنهم فتقول الجنة" ولأبى هريرة نحوه، وزاد: "ولا يظلم الله أحدا من خلقه".