التفاسير

< >
عرض

فَبِأَيِّ آلاۤءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ
١٣
خَلَقَ ٱلإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَٱلْفَخَّارِ
١٤
-الرحمن

تيسير التفسير

{ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } الفاء لترتيب التوبيخ على كفران ما ذكر من النعم وصنوف الأَنعام، وكل ما ذكر مثل هذه الجملة فترتيب على ما اتصل به فلا تكرير فى ذلك، ولو كان تكريرا لكان بلا فاء بل مجردا أو بالواو لا بالفاء المبنية على ما قبلها، وذلك كقولك لعبدك: ألا تطيعنى وقد ألبستك، ألا تطيعنى وقد زوجتك، ألا تطيعنى وقد خففت عنك الخدمة، ألا ألا، وقولك لمن أنعمت عليه مرارا وكفر النعمة: ألم تكن فقيرا فأَغنيتك، أتنكر هذا، ألم تكن عريانَ فكسوتك، أفتنكر هذا، ألم تكن خاملا فعززتك، أفتنكر هذا. وهذا كثير فى كلام العرب والعجم مطردا لا ينكره إِلا جاهل معاند. ونقول لو لم يذكر هذا التكرير إِلا فى القرآن لكان معجزا، إِذ لا يجد الإِنسان ثقلا فى تكريره على نفسه، بل كل واحد طرى جديد كأَنه منفرد، كما يجد القارئ جدة تعجب ونشاط كلما قرأ قصة الخضر وموسى فى قوله تعالى: { { حَتَّى إِذَا رَكِبَا } [الكهف: 71]، كأَنه أول ما سمعها وجاء التكرير أيضا فى الشعر. قال الشاعر:

على أن ليس عدلا من كليب إِذا ما ضيم جيــران المجيــر
على أن ليس عدلا من كليب إِذا رجف العضاة من الدبـور
على أن ليس عدلا من كليب إِذا خرجـت مخبــأَة الخـــدور
على أن ليس عدلا من كليب إِذا ما أعلنت نجــوى الأمـور
على أن ليس عدلا من كليب إِذا خيف المخوف من الثغور
على أن ليس عدلا من كليب غـــداة تأَثـل الأَمـــر الكبيـــر
على أن ليس عدلا من كليب إِذا مـا جـار جـأش المستجير

وللعرب قصائد على هذا النمط من التكرير، ومنه قول بعض المولدين ممن لو احتج به لجاز: أبا الفضل إِنى لم أقم، وذكر رب لمزيد التوبيخ فإِن معناه مالك مرب منعم ومن هو كذلك لا يليق به أن يكفر ويعصى مع وضوح دلائله كأَنها ناطقة، حتى أن الكفر بها كتكذيب من تكلم لما عبر بالتكذيب والخطاب للثقلين كما أنهما المراد بالأَنام أو الداخلان فيه، كما مر وكما صرح به فى قوله عز وجل { { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلاَن } ِ } [الرحمن: 31] وقيل الخطاب للذكر والأُنثى من بنى آدم وهو بعيد، وقيل للواحد على العموم البدلى الصلوحى من خطاب الواحد بخطاب الاثنين، كما هو قول فى قوله تعالى: { { ألْقِيَا فِي جَهَنَّمَ } } [ق: 24] على عادة العرب فى سفر ثلاثة يخاطب منهم الواحد الاثنين وهو أبعد من الذى قبله.
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - سورة الرحمن على أصحابه ولم يجيبوه فقال:
"الجن أفضل منكم فإِني كلما قرأت { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تَكَذِّبَانِ } قالوا لا بشئ من آلائك نكذب" . رواه جابر بن عبد الله، ولفظ ابن عمر من رواية الطبرى والبزار والدارقطنى أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ سورة الرحمن على أصحابه فسكتوا فقال: "مالي أسمع الجن أحسن جواباً لربها منكم، ما أتيت على قول الله تعالى: { فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَان } إِلاَّ قالوا: لا بشيء من نعمك ربنا نكذب، فلك الحمد ولك الشكر" . ومثله للترمذى ذكر الله عز وجل ثمانى مرات فى عجائب خلق الله تعالى ومبدأ الخلق ومعادهم وسبعا فى ذكر النار وشدتها عدد أبواب النار، وثمانى فى وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة، وثمانى فى الجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانى الأولى وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة وأغلقت عنه أبواب النار أعاذنا الله منها، والجملة إِحدى وثلاثون آية { خَلَقَ الإِنسَانَ } آدم { مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ } هذا بيان لأَصل خلقة بنى آدم، فبنو آدم خلقوا من صلصال كالفخار بواسطة أبيهم، فما بالهم يفتخرون ولا يشكرون النعمة، وقد قيل الإِنسان بنو آدم لخلق أصلهم من ذلك، والجمهور على الأَول لأَنه المخلوق حقيقة من صلصال كالفخار بلا واسطة، والصلصال الطين المتيبس وهو مأخوذ من الصلصلة، وهى تردد الصوت من الشئ اليابس، وقيل الطين المنتن، من قولهم: صل اللحم، أى تغيرت رائحته. ويرده قوله تعالى: { كَالْفَخَّارِ } وهو ما أُحرق من الطين حتى تحجر، فإِنه ليس فيه رائحة اللحم المنتن. وفى آية أخرى خلقه من تراب، وفى أخرى من حمأ مسنون، فذلك كله واقع، أصله تراب جعل طينا ثم حمأَ مسنونا ثم صلصالا كالفخار، وأصل الصاد الثانية لام أدغمت فيها اللام الأُولى، ولفظ الآية يلوح أن الإِنسان متصور بصورة من يكثر التفاخر.