التفاسير

< >
عرض

بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ
١٨
لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ
١٩
وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ
٢٠
وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ
٢١
-الواقعة

تيسير التفسير

{ بِأَكْوَابٍ } جمع كوب وهو إِناء لا عروة له ولا خرطوم يسمى قدحا { وَأَبَارِيقَ } جمع إبريق وهو إِناء له خرطوم، وقيل له خرطوم وعروة من البريق وهو اللمعان وهو وعاء خمر يتخذ مما يبرق كالفضة والبلور، ثم استعمل فيما له خرطوم وعروة، ولو لم يكن بريق وزعم بعض أن إِبريق معرب إِبريز أى صاب للماء وأنا برئ من دعوى كل تعريب لما قبلته العربية بلا تعريب، وفى هذه الأَيام سئلت عن اسم بططه فى العربية، فأَجبت بأَن هذه الثمرة لم توجد فى زمان العربية الصحيحة، بل حدثت من أمريك المسماة بالدنيا الجديدة منذ أربعمائة قبل وقتنا هذا، وهو ثلاث عشرة مائة وثلاث وعشرون سنة وأمريك اسم لنصرانى طلبها بعدما كشفها غيره بطول سفر فى كفالة امرأة نصرانية أندلسية فسميت باسمه، وانتفع بها أمريك دون الذى كشفها أولا، الذى فى كفالة المرأة الأَندلسية، ونصارى أندلس يسمون تلك الثمرة بطاط، وأهل بريش وهو باريز يسمونها تفاح الأَرض بلغتهم هكذا. ولعلها ترفاس وهى الكماة بالعربية فتكون كماة تلك الأَرض أقوى من كماة غيرها فتسمى ترفاس بلغتنا وكماة بلغة العرب، ولو لم تكن فى زمان العربية الصحيحة معلومة واسمها بلغة بريش بم دتير، بمعنى نبات التراب أو نبات الأَرض أو تفاح الأَرض، وتتولد ثمرات تحت الأَرض منتشرة ولها أوراق فى موضع واحد نبتت فيه وكأَنها نوع من الكماة.
{ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أى كأْس مملوءة من خمر جارٍ من العيون من قولك: ماء معين أى جار، ومعن جرى وخمر الجنة مخلوقة فى عيون لا معصور كخمر الدنيا، ومعن الشئ ظهر، فهو معن بإِسكان العين والميم أصل والباء زائدة بوزن فعيل، أو معين خمر ترى بالعين ومعين بمعنى مرئية بالعين لأَن اللذة فى رؤيتها أكثر وأعظم فى الشرب بلا رؤية، فالميم زائدة ميم مفعول والياء أصل وهو فعيل بمعنى مفعول يقال عانه رآه بعينه، والخمر يذكر ويؤنث ولا يقال كأَس إِلا مع امتلائه.
{ لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } لا يصابون بصداع الرءوس من سببها فعن للسببية وإِن شئت فباقية على المجاورة، أى لا يصدر عنها صداع لهم، والماصدق واحد أو المعنى لا يفرقون عنها ولا ينقطعون عنها فهم كلما شاءوها نالوها فلا تفارقهم لذاتها بهَمٍّ أو بحزن أو مرض أو سوء صنعها أو غير ذلك كما تقطع خمر الدنيا بعدم وجودها أو عدم الوصول إِليها، أو بالموت وكما تفارق لذتها بنحو الهم ويدل على التفسير بالمفارقة قراءة مجاهد بفتح الياء وشد الصاد قلبا لتاء يتصدع صادا أو إِدغامها لها فى الصاد بمعنى لا يتفرقون عنها.
{ وَلاَ يُنزِفُونَ } على حذف مضاف أى لا تنزف عقولهم، لا تزال عقولهم شيئا فشيئا بشربها، كما يكون ذلك بخمر الدنيا من قوله نزف الماء نزحه حتى فرغ، فهذا نفى لأَن تضر عقولهم، وقوله لا يصدعون نفى لأَن تضر أجسادهم. { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يتَخَيَّرُونَ } مما يختارونه لو خيروا { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } لحم وفاكهة معطوفان على كوب، فالولدان المخلدون يطوفون عليهم بالأَكواب والأَباريق وبالكأْس وبالفاكهة وبلحم طير مما تميل إِليه أنفسهم من أنواع الطير ومن صورة شوى ومطبوخ بلا نار ولا دخان يشتهى طائرا فيقع على مائدته كأنه مطبوخ أو مشوى، وكأَنه بعير فى العظم فيأَكل منه، فيقوم حيا تاما بإِذن الله عز وجل كما جاء فى الحديث وحكمة الطواف بالفاكهة، مع أن الأَشجار تتدلى إِليهم فينالها القاعد والمضطجع تعظيمهم فيأَخذون الشجر ويأَخذون من أيدى الولدان، وذلك تنويع للتلذذ كما يلقى فى الطعام مثله إِكراما لصاحبه وأُجيز العطف على جنات أى فى جنات النعيم وفى فاكهة ولحم، ومعنى كونهم فى فاكهة ولحم أنهم راسخون فى أكلهما، ومعنى كونهم فى جنات النعيم السكنى والثبوت كقوله:

علفتها تبنا وماء باردا

وقدم الفاكهة لأَن اللحم من طعام الجائع ولا جوع فى الجنة وإِنما أكلهم تلذذ والتلذذ بالفاكهة أكثر، ولأَن الفاكهة تحرك اشتهاء الأَكل بخلاف اللحم فإِنه يدفع اشتهاء الأَكل ولا جوع فى الجنة، فهم أشد ميلا إلى الفاكهة ولكثرتها وعدم غيبتها عنهم، وذلك مما يلذ الأَعين ولا تمل نعم الجنة، وذكر التخيير فى الفاكهة والاشتهاء فى اللحم لأَن الشبعان يميل إِلى الفاكهة، وكثرة أنواع الفاكهة واختلاف طعومها وألوانها وأشكالها.