التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ يُحْيِـي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢
هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ وَٱلظَّاهِرُ وَٱلْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٣
-الحديد

تيسير التفسير

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم } قال محمد بن الحنفية قال البراء بن عازب لعلى بن أبى طالب: أسأَلك بالله إِلا ما خصصتنى بأَفضل ما خصك به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما خصه به جبريل مما بعث به الرحمن عز وجل. قال: يا براء إِذا أردت أن تدعو الله باسمه الأَعظم فاقرأ من أول الحديد عشر آيات وآخر الحشر ثم قل يا من هو هكذا أو ليس شئ هكذا غيره أسأَلك أن تفعل لى كذا وكذا، فوالله يا براء لو دعوت علىَّ لخسف بى { سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } ما واقعه على ما فيهما من العقلاء وغيرها من الحيوانات والجمادات وأجزاء السماوات والأَرض، والتسبيح بمعنى الخضوع فى الكل أو بمعنى النطق بالتنزيه فى الكل بأَن يخلق الله لما لا نطق له نطقاً لا يسمع وقد أثبتت الصوفية للجمادات النفوس الناطقة، وإن من شئ إِلا يسبح بحمده، أو تسبيح الحيوان بالنطق والجماد بقصد يخلقه له فيه أو بالخضوع له بأَن يتصرف فيها بما يشاء فيكون جمعاً بين الحقيقة والمجاز أو من عموم المجاز باعتبار الخضوع أو التعظيم والكل راجع إِلى تنزيه الله عما لا يجوز فى حقه اعتقادا وقولا وعملا، ويقال سبح فى الأَرض زيد أو الماء بالتخفيف بمعنى ذهب فيها وأبعد وشدد للمبالغة وقيل للتعدية بمعنى الحمل على قول لا إِله إِلا الله وهو خلاف المتبادر وقيل ما للعقلاء هنا خاصة كما استعملت للعالم سبحانه وحده فى قولهم: سبحان ما سبح الرعد بحمده، والعموم أولى وعلى كل حال هى عامة بلا تقدير لفظ آخر فى قوله: والأَرض هكذا وما فى الأَرض والتسبيح متعد فاللام للتأْكيد كنصحته ونصحت له وشكرته وشكرت له أو للتعليل على أن الفعل منزل منزلة اللام لا يعتبر له تعلق بالمفعول فيكون المعنى إِيقاع التسبيح لأَجل الله عز وجل أو إِيقاع التسبيح لله عز وجل كما تقول فعلت لزيد كذا بمعنى النفع له تعالى الله عز وجل، وكان فى بعض السور سبح، وفى بعضها يسبح إِيذاناً بأَن الله أهل لأَن يسبحه خلقه فى الماضى والحال والمستقبل، وخلقه حقيق أن يسبحوه كذلك والمضارع للاستمرار أو الماضى باعتبار ما مضى إِلى وقت النزول والمضارع من حين النزول على الاستمرار فعم، وأيضاً كان بعض بالأَمر وبعض بالمعنى المصدرى وهو سبحان، ففى أول سورة الإِسراء التسبيح باسم المصدر، وفى أول سورة الأَعلى بفعل الأَمر وفى أول بعض بالماضى وفى بعضه بالمضارع فقد استوعب التسبيح هذه الجهات كلها من الكلمة، كما أن الخلق من حين إِخراجه من العدم يسبح الله قولا وفعلا واعتقادا وطوعا وكرها { وَهُوَ الْعَزِيزُ } الغالب الذى لا يرد ما أراد أو قال أو فعل { الْحَكِيمُ } لا يفعل إِلا ما هو صواب { لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } إِيجاداً وإِعداما وإِبقاء بكل ما أراد من التصرف { يُحْيِي وَيُمِيتُ } استئناف ولا غرض للفعلين فى المفعول به فهما لازمان فى الآية أى يفعل الإِحياء والإِماتة { وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ } من الأَجسام والأَعراض والجواهر { قَدِيرٌ } عظيم القدرة يوجده ويتصرف فيه بما أراد { هُوَ الأَوَّلُ } وحده لم يسبقه شئ ولم يكن معه شئ بلا أول فأَخطأَ من قال صفاته غيره، قديمة معه ومن قال لم يزل يخلق الأَشياء فيبقى ما يبقى ويفنى ما يفنى والزمان حادث فالله عز وجل متقدم عليه { وَالآخِرُ } الباقى بعد الإِحياء ودوام المخلوق غير ممنوع والممنوع قدمه فبعض الأَجسام تبقى ولا تتلاشى وتبعث وتدوم فى الجنة أو النار والجنة والنار حادثتان وهما دائمتان مع ما فيهما، وإِن شئت فكل مخلوق ولو فى حال استمرار معدوم بمعنى الصلوح للعدم، أو الأَول تبتدئ منه الأَسباب، بخلقه لها والآخر ذهنا بحسب التعقل، من حيث أن الصنعة تدل على الصانع كما يقال ما رأيت شيئاً إلا رأيت الله بعده، وإِن شئت فقل إِلا رأيت الله معه وذلك أنه يستدل بالموجود على الموجد تعالى، وبالصنعة على الصانع ومعنى أنَّ الله موجود أنا نعتقد وجوده وكذا غيره، وإِن شئت فقل فى غيره موجد بضم الميم وفتح الجيم، ولا تناقض فى أنه أول وآخر معاً لاختلاف متعلقى الأَولية والآخرية كما مر هنا ومن ذلك أنك تعرف وجوده بأَفعاله أولا، وكل معرفة تحصل فهى مرقاة إِلى معرفته ولا تنتهى إِلا إِليه وفسر بعضهم الآية بهذا وأنا أعوذ بالله عز وجل أن أفسر القرآن بما هو تصوف وبالأُمور البعيدة، ولو كنت قد أذكر ذلك حكاية.
{ وَالظَّاهِرُ } بمخلوقاته { وَالْبَاطِنُ } عن أن يدركه خلقه بحاسة أو عقل فلا تناقض بين الظاهرية والباطنية لاختلاف متعلقيهما والمخالف للحوادث لا يتصور أن تدركه الحوادث، وذلك مخالفة ذاتية لا تختلف بالدنيا والآخرة، والظاهر معطوف على الأَول لا على الآخر، لأَن الواو لا ترتب والباطن معطوف على الظاهر، لأَنه مقابله كما عطف الآخر على الأَول وهو مقابله ولا وجه لعطفهما معا على الأَول والآخر معا، ولو كان المعنى على ذلك وقيل المعنى العالم بالظاهر والباطن، وذلك أن ما بطن يحتجب عنه ما ظهر، وما ظهر يحتجب عنه ما بطن كقوله تعالى لا شرقية ولا غربية، أى لا شرقية فقط ولا غربية فقط بل جامعة لفائدة الشرقية والغربية، وقيل الظاهر الغالب وهو استعمال مشهور، يقال ظهر عليهم أى غلبهم والباطن العالم بما بطن منهم فتفوت المطابقة معنى، ولو بقيت لفظا، وفيه أنه لا يعرف فى اللغة بطنه بمعنى علم باطنه، ولو ورد مثل ركبه بفتح الكاف بمعنى أصاب ركبته أو أصابه بركبته، إِذ هذا مقصور على السماع فلا يخرج عليه القرآن حتى يعلم بوروده، وجاء الظاهر بمعنى الغالب فى قوله - صلى الله عليه وسلم - لفاطمة رضى الله عنها لما سأَلته خادما قولى:
"اللهم رب السماوات السبع ورب العرش الكريم العظيم، ربنا ورب كل شيء منزل التوراة والإِنجيل والفرقان فالق الحب والنوى أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، أنت الأَول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين واغننا من الفقر" إِلا أنه لا مانع من أن الظاهر فى الحديث بمعنى الغاية فى الظهور إِذ كل شئ دليل عليه والباطن فيه بمعنى أنه لا شىء أخفى منك إِذ لا يعلمك غيرك، وما علمك إِلا أنت، وعبارة بعض الأَول القديم والآخر الرحيم والظاهر الحكيم والباطن العليم، وقيل الأَول بصفاته وأفعاله والآخر بصفاته وأفعاله بعد فناء الخلق وأفعالهم وصفاتهم، وعن مقاتل بلغنا أن المعنى الأَول قبل كل شئ والآخر بعد كل شئ والظاهر فوق كل شئ والباطن أقرب من كل شئ يعنى القرب بعلمه وقدرته.
وعن أبى هريرة: والذى نفسى بيده لو أنكم دليتم بحبل إِلى الأَرض السفلى لهبطتم على الله أى لهبطتم على ما هو معلوم لله وهو متصرف فيه وعالم به غير مهمل له وقرأ الآية. وفى الترمذى عن أبى هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"بين كل سماء وسماء خمسمائة عام وبين السماء والأَرض خمسمائة عام، والذى نفسى بيده لو تدليتم بحبل إِلى الأَرض السابعة، لهبطتم على الله تعالى، ثم قرأ هو الأَول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم" ، وعن ابن عباس أنه اشتكى إِليه أبو زميل الوسوسة فقال: إِذا وجدت شيئا فقل هو الأَول الآية، وعنه - صلى الله عليه وسلم - "إِذا قال الناس علمنا أنَّ الله قبل كل شيء فماذا قبل الله؟ فقولوا: هو الأَول والآخر" إِلخ. يعنى إِذا قالوا علمنا أن الله قبل هذه الأَشياء التى علمناها وسأَل عمر كعبا فقال علمه بالأَول كعلمه بالآخر وعلمه بالظاهر كعلمه بالباطن، ومن التصوف قول الجنيد الأَول بشرح القلوب والآخر بغفران الذنوب والظاهر بكشف الكروب والباطن بعلم الغيوب، وقول بعض الأَول ببره إِذ عرفك توحيده والآخر بجوده إِذ عرفك طريق التوبة والظاهر بتوفيقه إِذ وفقك للسجود له والباطن بستره عيوبك { وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أى مع أنه باطن عالم بما ظهر ومع أنه ظاهر عالم بما بطن فهو عالم بكل شئ، لا كالحادث الباطن لا يعلم بالظاهر والحادث الظاهر لا يعلم بالباطن، فهذا تحرز عن أن يتوهم أنه لما كان باطنا لا يعلم ظاهراً ولما كان ظاهراً لا يعلم باطنا.