التفاسير

< >
عرض

هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي ٱلأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٤
لَّهُ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٥
يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٦
آمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ
٧
وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ
٨
هُوَ ٱلَّذِي يُنَزِّلُ عَلَىٰ عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَإِنَّ ٱللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ
٩
وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ ٱلْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَـٰئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ ٱلَّذِينَ أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلْحُسْنَىٰ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١٠
مَّن ذَا ٱلَّذِي يُقْرِضُ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ
١١
يَوْمَ تَرَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَىٰ نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ ٱلْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
يَوْمَ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُواْ ٱنظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ٱرْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَٱلْتَمِسُواْ نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ ٱلرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ ٱلْعَذَابُ
١٣
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بَلَىٰ وَلَـٰكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَٱرْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ ٱلأَمَانِيُّ حَتَّىٰ جَآءَ أَمْرُ ٱللَّهِ وَغَرَّكُم بِٱللَّهِ ٱلْغَرُورُ
١٤
-الحديد

تيسير التفسير

{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرضَ فِي سِتَّةِ أيَّامٍ } مقدار ستة أيام { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } الترتيب ذكرى أو رتبى والعرش الملك كله أو الجسم العظيم الذى الكرسى كالحلقة فيه والاستواء على ذلك بمعنى الإِحاطة وضبطه وكونه تحت حكمه { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرضِ } يدخل فيها من ماء وموتى وكنوز { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من ماء وكنوز ونبات وموتى تبعث { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ } من جهة العلو من ماء وثلج وصواعق وملائكة وكتب وخيور وشرور فالسماء يشمل السبع والهواء { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } يدخلها من الأَعمال والملائكة ومرت الآية { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ } هذا مجاز مركب غير استعارة تمثيلية إِذ لا يشبه العلم بشئ بالكون معه بل ذلك كناية عن إِحاطة علمه بهم وعدم خروجهم عن حكمه أو المعية مجاز مرسل عن العلم لعلاقة التسبب واللزوم، كما قال ابن عباس عالم بكم أينما كنتم، وكما قال سفيان الثورى علمه معكم، و الحق ما قال أبو حيان من تأْويل كل ما يوهم وصف الله تعالى بما لا يجوز، لا الإِبقاء على ظاهره كالمعية فى الآية بالذات ولا الوقف ولا القول بلا كيف.
{ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } هذا مثل ما قبله إِلا أن هذا كناية عن الإِحاطة بأَعمالهم وما قيل كناية عن الإِحاطة بذواتهم وقدم الخلق فى قوله: { هو الذي خلق } الخ عن العلم فى قوله: { وهو معكم } وفى قوله: { والله بما تعملون بصير } مع أن الخلق فعل وهو متأَخر عن الصفة وهى العلم لأَن المراد الإِشارة إِلى ما يدور عليه الجزاء من العلم التابع للمعلوم كذا قيل: وقيل لأَن الخلق دليل العلم لأَن جودة الصنعة دليل على علم الصانع والمدلول متأَخر عن الدليل، لأَنه يحصل بالدليل وأكد ذلك بقوله تعالى: { لَّهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ } الإِضافة للبيان أى مملوكات هى السماوات والأَرض أو إِضافة مصدر لمفعوله ومهد به لقوله تعالى { وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } وتقديم له وإِلى الله لنفى أن يكون ذلك لغيره وأن يكون له مع غيره { يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ } يدخل كل منهما فى الآخر فينقص الداخل ويزداد المدخول عليه.
{ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } أى بصاحبة الصدور وهى ما فيها من المكنونات قيل أو بنفس الصدور فيلزم العلم بما فيها بالأَولى، إِلا أن استعمال الذات بمعنى نفس الشئ، لا يوجد فى كلام العرب، والصدر القلب تسمية للحال باسم المحل، وفيه أنه لا نسلم أن القلب حال فى الصدر بل خلقا معا إِلا أن يلاحظ الفهم بالقلب فإِنه متأَخر فأَولى من ذلك أن الصدر ظرف للقلب فيقال تسمية للمظروف باسم الظرف وقد يريد هذا من عبر هنا بالحال والمحل، وتقدم الظرف على المظروف غير لازم بل يجوز اقترانهما ويجوز أن التسمية للجوار ولا تظهر الكلية والجزئية إِذ لا نسلم أن القلب جزء من الصدر { آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأنفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فيهِ } الإِيمان بالله ورسوله محقق ومبين لأَن يعلم المالك أن ما فى يده هو خليفة فيه عمن قبله وخليفة لمن بعده يحفظه لمن بعده كما حفظه له من قبله وإِذا تحقق أنه انتقل إليه ممن قبله، وسينتقل عنه لمن بعده سهل عليه الإِنفاق منه ورغب فى أن يربح به الأَجر قيل فوته، وفى أن ينفقه فيما أمره بإِنفاقه فيه من جعله خليفة عليه ولم يملكه حقيقة الملك، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"يقول ابن آدم: مالي، مالي، وهل لك من مال إِلاَّ ما أكلت فأَفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأَمضيت" . قيل لأَعرابى لمن هذه الإِبل قال هى لله عندى، قيل:

وما المال والأَهلون إِلا ودائع ولا بد يوماً أن ترد الودائع

أى ترد لله تعالى ولمن بعد بأَن يورث المال وتتزوج المرأة. وعظ عالم زاهد عمر بن عبد العزيز فقال: ليس بينك وبين آدم إِلا الموتى وأنت خليفة فيما بين يديك حافظ له لمن بعدك. والمراد بالإِنفاق ما يشمل الواجب والمندوب إِليه استعمالا للكلمة فى معنييها أو فى حقيقتها ومجازها على أن الأَمر حقيقة فيهما أو مجاز فى المندوب إِليه أو فى عموم المجاز، وهو هنا مطلق الترغيب فى الإِنفاق { فَالَّذِينَ آمَنُوا } بالله ورسوله { مِنكُمْ وَأَنفَقُوا } كما أمروا به { لَهُمْ } على إِيمانهم وإِنفاقهم { أجْرٌ كَبِيرٌ } أكد بالجملة الاسمية ثبوت الأَجر، إِذ لم يقل يثابون أجراً كبيراً، وبإِعادة ذكر الإِيمان والإِنفاق إِذ لم يقل فمن يفعل ذلك { وَمَا مَالَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ } عطف إِنشاء على إِخبار، فإِن ما للاستفهام الإِنكارى المسلط على السبب دون المسبب ولا تؤمنون بالله حال من الكاف أى: أى شئ حصل لكم غير مؤمنين، والمسبب هو مضمون لا تؤمنون بالله وهو ثابت لا منتف فإِن عدم إِيمانهم ثابت، وقد ينتفى المسبب مع السبب فى مثل هذه العبارة نحو قوله تعالى: { { ومالي لا أعبد الذي فطرني.. } [يس: 22] إِلخ، فإِن انتفاء عبادته الله منتف فإِنه عابد له تعالى { والرَّسُولُ } محمد - صلى الله عليه وسلم - { يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ } جملة الرسول الخ حال من واو تؤمنون موبخ لهم على انتفاء الإِيمان مع وجود موجبه، وهو دعاء الرسول لهم إِلى الإِيمان دعاء فصيحاً بليغاً عليه النور كالشمس، واللام بمعنى إِلى أو للتعدية فإِنه يقال دعاه ودعا له أو للتعليل، وعليه فيقدر يدعوكم إِلى الإِيمان لتؤمنوا بربكم { وَقَدْ أخَذَ } الله أو الرسول { مِيثَاقَكُمْ } حال من كاف يدعوكم أو من المستتر فى يدعو أو حال ثان من واو تؤمنون بواسطة العطف وفيه تخالف بالفعلية والاسمية، فما تقدم أولى وأخذ الميثاق نصب الدلائل التى هى السموات والأَرض وأبدانهم وأحوالها وسائر الخلق وأحواله والتمكن لهم من النظر بالفكر فأَخذ الميثاق دليل عقلى ودعاء الرسول دليل سمعى ولعل تقديمه يدل على شرف السمعى على العقلى، وعن مجاهد وعطاء والكلبى ومقاتل أن الميثاق هو ما كان يوم: ألست بربكم ويبحث بأَن المشركين لا يعرفونه فكيف يحتج عليهم به قبل تصديقهم برسالته، فيجاب بأَن المتحقق يذكر فى الاحتجاج به على من لا يقربه إِلغاء لإِنكاره كقول امرئَ القيس:

ألم تريان كلما جئت زائرا وجدت بها طيبا وإِن لم تطيب

فعنف على ما لم يشاهده غيره إِذ تحقق فى زعمه ولا سيما إِن قارنه احتجاج آخر قبله أو معه كما هو شأْن الرسول والقرآن، ويجوز أن يكون الميثاق { { فإِما يأْتينكم مني هدى } [طه: 123] الخ أى هدى برسول كما قال: والرسول يدعوكم الخ أو بكتاب كما قال هو الذى ينزل على عبده آيات الخ أو كلاهما أو يرد ضمير أخذ للرسول، فالميثاق ما فى قوله تعالى: { { وإِذ أخذ الله ميثاق النبيين } [آل عمران: 81]، إِلى { { لتؤمنن به ولتنصرنه } [آل عمران: 81] أى الميثاق الذى أخذه الأَنبياء على أممهم إِلا المشركين لا يقرون بإِما يأْتينكم منى هدى الخ ولا ينزل على عبده الخ ولا بأَخذ الله ميثاق النبيين الخ، فكيف يحتج عليهم به ففى ذلك ما مر من ميثاق يوم ألست بربكم وأبعد من ذلك فى الاحتجاج على المشركين ما قيل إِن الميثاق هو ما فى حديث عبادة بن الصامت بايعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على السمع والطاعة فى النشاط والكسل وعلى النفقة فى العسر واليسر وعلى الأَمر بالمعروف والنهى عن المنكر وعلى أن نقول فى الله تعالى ولا نخاف لومة لائم، والواضح ما مر أولا والخطاب للكفار وقيل لمن لم يؤمن ثم آمن ولم ينفق وقيل للمؤمنين على أن معنى آمنوا اثبتوا على الإِيمان، ومعنى ما لكم لا تؤمنون مالكم لا تثبتون عليه { إِنْ كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } الجواب محذوف أى إِن كنتم تؤمنون لدليل ما فهذا دليل كالشمس لا دليل يساويه أو يفوقه أو إِن كنتم ممن يؤمن فما لكم لا تؤمنون الآن لحال أخذ الميثاق ودعاء الرسول.
أو إِن كنتم تؤمنون بدليل عقلى أو نقلى فكلاهما جاءكم على يد محمد - صلى الله عليه وسلم - بالقرآن المشتمل على دلائل الآفاق والأَنفس أو إِن كنتم مؤمنين بنبى أو أنبياء كموسى وعيسى وإِبراهيم فآمنوا بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فقد جاءوا بنبوءته، وجاء بما جاءوا به وقيل الخطاب للمؤمنين أى إِن دمتم على الإِيمان فلكم شرف عظيم دنيا وأخرى { هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ } محمد - صلى الله عليه وسلم - { آيَات بَيِّنَاتٍ } واضحات متلوة ومعجزات أفقية ونفسية { لِّيُخْرِجَكُمْ } بالآيات أى يخرجكم الله لأَنه المخبر عنه العمدة فى الجملة قبل هذا أو ليخرجكم عبده وهو أقرب فى الذكر وهذان أولى من رد الضمير إِلى الله تعالى والعبد - صلى الله عليه وسلم - بتأَويل من ذكر أى ليخرجكم الله ورسوله { مِنَ الظُّلُمَاتِ } الشرك أو أنواعه أو الشرك وسائر المعاصى لما علم أن المشرك مخاطب بالفروع أيضاً فالظلمات مستعار لما ذكر والجامع المضرة وعدم التمسك بما ينجى منها { إِلَى النُّورِ } الإِيمان الواحد فى نفسه المتفرع عليه الأَعمال المنجية وهو استعارة لجامع النفع العام والتمسك بما ينجى { وَإِنَّ الله بِكُمْ } متعلق بما بعد لام الخبر ولا صدر لها { لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } الرأفة أخص من الرحمة ومع ذلك قدمت لجواز الرجوع إِلى ذكر الأَعم بالتفصيل للامتنان ولأَنه قد لا يتذكر العموم بعد الخصوص وللفاصلة فإِن الميم أقرب إلى النون { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُوا } فى أن لا تنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه وذلك توبيخ للمؤمنين الذين لا ينفقون أو للكفار على ترك الإِنفاق بعد توبيخهم على الكفر ولا عذر لهم { فِي سَبِيلِ اللهِ } فى ما يقربكم إِلى الله عز وجل استعير له لفظ السبيل لجامع الإِيصال وفى ذكره مزيد توبيخ، كيف لا تنفقون فيما ينجيكم من المضار العامة دنيا وأخرى ويورثكم المنافع العامة فيهما مما جعل فى أيديكم لتصرفوه فى ذلك لا لتملكوه البتة مع أنه ينتقل عنكم لمن بعدكم أو لمن معكم من عدو أو صديق كما انتقل إِليكم ممن قبلكم كذلك وأكد انتقاله عنهم بقوله عز وجل { وَللهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } الجملة حال من واو تنفقوا أى والحال أنه لا يبقى لكم بل يبقى لله عز وجل، وترك الإِنفاق قبيح مطلقا فيما أمر به ومع ما يوجب الإِنفاق أشد قبحاً وميراث مجازاً بالاستعارة أو الجملة استعارة تمثيلية أو المراد ميراث ما فيهما لأَن أخذ الظرف مستلزم لأَخذ ما فيه أو المراد يرثهما وما فيهما ولو كان لا علاقة لأَخذهما لأَن أخذهما تأْكيد وتحقيق لأَخذ ما فيهما { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أنفَقَ } ومن لم ينفق وقدم منكم وهو حال مما بعده تنويهاً بشأن المؤمنين مطلقا { مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاَتَلَ } أى فتح مكة وال للعهد وهو الصحيح المشهور أو فتح الحديبية، سمى فتحاً لأَن فتح مكة بنى عليه فانظر ما مر فى سورة الفتح، قال أبو سعيد الخدرى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"يوشك أن يأَتي قوم تحتقرون أعمالكم مع أعمالهم. قلنا: من هم يا رسول الله، أقريش؟ قال: لا لكنهم أهل اليمن، هم أرق أفئدة وألين قلوباً. فقلنا: أهم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأَحدهم جبل من ذهب فأَنفقه ما أدرك مد أحدكم ولا نصيفه إِلاَّ أن هذا فصل ما بيننا وبين الناس، لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح" : الآية وذلك خطاب للصحابة وتفضيل لبعض على بعض وزجر للمتأَخر عنهم أن يحقر المتقدم، جرى كلام بين خالد وعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنهما فقال خالد: تستطيلون علينا بأَيام سبقتمونا بها فقال - صلى الله عليه وسلم - "دعوا لي أصحابي فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم" { أُوْلَئِكَ }المنفقون من قبل الفتح المقاتلون فى سبيل الله عز وجل وكل من إِشارة البعد ووضعها موضع الإِضمار للتعظيم والجمع نظر لمعنى من والإِفراد قبل نظر للفظها { أعْظَمُ دَرَجَةً } منزلة { مِّنَ الَّذِينَ أنفَقُوا مِن بَعْدُ } بعد الفتح { وَقَاتَلُوا } لأَن الإِنفاق والقتال قبل الفتح أشد على النفس لقلة المال وقلة المسلمين وكثرة المشركين وقلة الطمع فى الغنائم { وَكُلاًّ } ممن قاتل وأنفق قبل الفتح ومن أنفق وقاتل بعده لا الفريق الأَول فقط وقدم المفعول على طريق الاهتمام { وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى } الأَشياء الحسنى أو المثوبة الحسنى النصر والغنيمة والجنة ورضاه { وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } وعد ووعيد أى عالم بظاهر الأَشياء وبواطنها فيجازى كلاً على قدر عمله فللسابقين الأَولين من المهاجرين والأَنصار فضل على غيرهم وللمقاتلين المنافقين قبل الفتح فضل على من فعل بعد ولمن أنفق وقاتل قبل وبعد فضل على الفريقين وللصديق فضل على الكل قال - صلى الله عليه وسلم - "ليس أحد آمن عليَّ بصحبته من أبي بكر" ، روى عن الكلبى أن الآية فى أبى بكر أنه أول من أسلم وأول من أنفق ماله فى سبيل الله وذبَّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ابن مسعود أول من أظهر إِسلامه النبى - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر قال ابن عمر كنت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها فى صدره بخلال فنزل جبريل فقال: مالى أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها فى صدره بخلال؟ قال: أنفق علىَّ ماله قبل الفتح قال فإِن الله عز وجل قال اقرأ عليه السلام وقل له: أراض أنت عنى فى فقرك هذا أم ساخط؟ فقال: أأسخط على ربى، إِنى على ربى راض، إِنى على ربى راض وفى ذلك وفى الآية فضل أبى بكر على غيره.
{ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا } استفهام حث وتحضيض على القرض الحسن متضمن للتوبيخ على تركه والقرض الحسن أن يكون من حلال مع إخلاص وأن يكون مما يحبه وأن يضعه فى أهله وأن يكتمه ولا يمن به ويكون من أحب ماله إِليه وأن يستحقره ولو كثر أو عظم وأن لا يرى عز نفسه على الفقير وزاد بعض أن يحتاج هو إِلى ما أنفق فذلك عشرة شروط ولا يخرج القرض عن كونه حسنا، إِذا كان من أوسط ماله أو من رديئه أو كريهه إِذا لم يتيسر له فى الحال إِلا رديئة أو كريهه ولا إِذا لم يكتمه لأَمر لا بد منه لا رياء ولا سمعة ولا إِذا ذكره لمن يقتدى به مع خلوص النية ولا إِذا دُعِىَ المعْطَى ليأخذه ولم يحمله إِليه ولا إِذا أعطاه من لم يحتج جداً أو لم يحتج البتة ولكن له سرور به وأنت تعرف أن الحسن يتفاوت، فالحمل إِلى المعْطَى أحسن من دعائه والآية تشمل ما أعطى وأمضى وما أعطى سلفا لوجه الله فإِنه صدقة أيضا، سمى الصدقة قرضا تشبيها بالقرض إِذ يرد الله تعالى إِليه بها الثواب { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } يعطيه اثنين أو ثلاثا فصاعدا إِلى سبعمائة وأكثر وإِذا أعطاه الله تعالى عليه ما دون العشر، فلكل مما أعطاه عشر فصاعدا لأَن الحسنة بعشر ولا تكون دونها { وَلَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ } الواو للحال فليس الأَجر الكريم زيادة على المضاعفة والمعنى فى حال أن تلك المضاعفة أجر كريم أو فى حال أن تلك المضاعفة فى العدد مضاعفة فى الكيف كريمة ويجوز العطف بالواو على أن الإِضعاف من محض الفضل والمثل فضل أيضا سماه أجراً لأَن الثواب على العمل بلا مضاعفة فضل من الله أيضا، إِذ لا واجب على الله، وإِذ ثواب الله لا يقابله عمل ما، لأَنه هو الموفق إِليه، ولأَنه لو حوسب لعذب ولم ينصب المضارع فى جواب الاستفهام لأَن المراد انسحاب الاستفهام حثهم على الإِقراض الحسن، وأن يكون على وجه يضاعف لا على وجه لا يثاب عليه، فضلا عن أن يضاعف ولا يوجد هذا المعنى بوضوح فى النصب، وكأَنه قيل أيقرض فيضاعف.
{ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ } متعلق بيضاعف أو باستقرار له أجر أو بله الأَخير أو بمحذوف نعت لأَجر ولا دليل على تقدير اذكر مع وجود متعلق بلا داع والخطاب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لكل من يصلح له على العموم البدلى { يَسْعَى نُورُهُم } حال من المؤمنين والمؤمنات وإِن جعلت الرؤية علمية فمفعول ثان والنور حسى على الصحيح وهو قول الجمهور وقيل معنوى وهو نجاتهم وفوزهم.
وفى حديث ابن مسعود منهم من نوره كالجبل ومن نوره كالنخلة وأدناهم من نوره على إِبهامه، وذلك على قدر أعمالهم، كما قيل نورهم القرآن وكما قيل عن الضحاك: نورهم الهدى والرضوان الذى هم فيه، وعن ابن مسعود: نورهم على قدر إِيمانهم فمنهم من نوره كالنخلة، ومنهم من نوره كالرجل القائم وأدناكم نورا من نوره على إِبهامه فيطفأ تارة ويقد أُخرى، وعن قتادة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"من المؤمنين من نوره من المدينة إلى عدن أبين وصنعاء ومن دون ذلك حتى أن من المؤمنين من لا يضئ له إِلاَّ موضع قدميه" وقيل نورهم كتب أعمالهم.
{ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم } يسعون به إِلى الجنة لأَن السعداء يعطون كتبهم من جهتين الأَمام واليمين، كما أن الأَشقياء يعطونها من جهتين الخلف واليسرى، فنور يمينهم يضئ به الخلف والشمال والفوق، ونور الأَمام يضئ به الجهة التى يمضون إِليها جعلنا الله عز وجل منهم بفضله، وقيل المراد فى الآية جميع الجهات، وقال الجمهور نور الأَمام هو من نور اليمين وقيل الباء بمعنى عن، والمعنى فى جهاتهم، وخص اليمين بالذكر تشريفا، روى عن أبى ذر وأبى الدرداء عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأَرفع رأسي، فأَنظر بين يدي وعن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأَعرف أُمتي بين الأُمم، فقيل يا رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأُمم ما بين نوح عليه السلام إِلى أُمتك. قال: غُر محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأَحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأَيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم" وظاهر الحديث تخصيص هذه الأُمة بالنور وإِعطاء الكتب بالأَيمان. والآية هذه كسائر الأَخبار تفيد عموم مؤمنى الأُمم السابقة بالنور ويدل له حديث أبى أُمامة "تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم" وحديث ابن عباس رضى الله عنهما "بينما الناس في ظلمة إِذ بعث الله تعالى نوراً، فإِذا رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلا لهم من الله عز وجل إِلى الجنة" . وأقول المراد فى الحديث الأَول أنه يعرف هذه الأُمة بإِيتاء كتبهم بأَيمانهم إِيتاء فوق إِيتاء الأُمم وبنور فوق نور الأُمم أو يمتاز إِيتاؤهم ونورهم عما للأُمم بنور تمييز، أو لم يذكر إِيتاء مؤمنى الأُمم ونورهم لقلتهم بالنسبة إِلى مؤمنى هذه الأُمة { بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ } الجملة مفعول لحال تقدر بعد المفعول الثانى لرأى أو لحال بعد حال أى مقولا لهم بشراكم اليوم وجنات أو مفعول لقول مستأَنف أى يقال لهم بشراكم اليوم جنات، والقائل الملائكة وبشرى بمعنى ما يبشرون اسم مصدر، هو تبشير بمعنى مفعول، ويقدر مضاف أى دخول جنات لأَن البشارة لا تكون بالأَعيان وإِذا قيل بشرته بولد فالمعنى بولادة ولد، وإِذا قيل بشرته بضالته فالمراد بوجود ضالته ومعنى قوله تعالى بشرناه بإِسحاق وبشرناه بغلام بشرناه بوعد ما ذكر أو بوجوده بعد، كما تقرر أن الأَحكام لا تعلق بالذوات ولا أشكال واليوم متعلق ببشراكم.
{ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ } نعت جنات { خَالِدِينَ فِيهَا } حال سببية من جنات جارية علىغيرما هى له ولم يبرز الضمير مع ذلك لظهور المراد وكذا فى النعت الجارى على غير ما هو له والصلة والخبر لمولو أبرز لقيل خالدا هم فيها وهم فاعل خالدا على طريق الالتفات إِلى الغيبة، أو خالدا أنتم فيها على عدم الالتفات وأنتم فاعل خالدا ويجوز أن تكون نعتا لجنات كأَنه قيل الجنات التى خلدوا فيها. { ذّلِكَ } المذكور من النور والتبشير على أن هذا من كلام الله تعالى أو ذلك الذى هم فيه من النور وغيره، أو ذلك المذكور من الجنات أو تلك الجنات لكن أفرد لتأويل ما ذكر، وذكر لأَن الخبر مذكر وهو الفوز على أن هذا كلام من الملائكة.
{ هُوَ الْفَوْزُ } مصدر بمعنى مفعول أى المفوز به أو يقدر مضاف فيبقى على المصدرية أى حصول ذلك أو تحصيل ذلك هو الفوز { الْعَظِيمُ } لا فوز دونه.
{ يَوْمَ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ } وذكر المنافقات ولم يدخلهن فى لفظ المنافقين لزيادة بيان حالهم القبيحة، والمقام لذلك بخلاف المؤمنات فدخلن فى الذين آمنوا، ويوم بدل من يوم أو يتعلق بالفوز، فيكون الأَمر أشد على المنافقين حسرة وللمؤمنين فرحا أى تفوزون يوم يخسر المنافقون والمنافقات وظهور المرء يوم خمول عدوه مضادة أبدع، وقيل لا يوصف المصدر قبل مجئ متعلقه، قال بعضهم من استعمل ذلك على خلاف قوله:

إِن وجدى بك الشديد أرانى

فقد أخطأَ ولو علق بعظيم لسلم من ذلك. { لِلَّذِينَ آمَنُوا } إِيمانا خالصا من النفاق { انظُرُونَا } انتظرونا لنمشى قريبا منكم أو انظروا إِلينا فحذف الجار وانتصب المجرور ويدل للأَول قراءة فتح الهمزة وكسر الظاء بمعنى أمهلونا { نَقْتَبِسْ } نأَخذ القبس أى الجذوة أى قطعة كقطعة من النار { مِن نُّورِكُمْ } شبه النور بالنار لجامع الإِضاءة ورمز إِلى ذلك باقتبس وذلك أن للمؤمنين - كما مر - نورا عن يمينهم وأمامهم أو فى جميع جهاتهم والمنافقون فى ظلمة، وقيل يكون لهم ضعيف فيطفأ، فإِذا أُطفئ قالوا انظرونا الخ، وقال المؤمنون ربنا أتمم لنا نورنا لا تسلبه عنا كما سلبت عن المنافقين نورهم، ويروى أن الله عز وجل يرسل ظلمة على الناس فيستغيثون ربهم فيعطى المؤمنين نورا عظيما والمنافقين نورا ضعيفا، ويمشون إِلى الجنة جميعا فيطفأ نور المنافقين ويترددون فى الظلمة ويقولون انظرونا الخ.
{ قِيلَ } قال المؤمنون لأَنهم المذكورون المقول لهم انظرونا فهم المجيبون وهو قول ابن عباس رضى الله عنهما وقال مقاتل قال الملائكة وعلى القولين الجملة استئناف جواب كأَنه قيل فماذا أجيبوا به فقيل قيل { ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ } خلفكم، يقال رجع وراءه أو وراء اسم فعل بمعنى تأَخروا إِلى ورائكم، وعلى كلٍ هو تأَكيد يقال وراءك أوسع بنصبها أى ارجع وراءك تجد مكانا أوسع لك، ويروى برفعها. قال أبو أُمامة من التابعين ارجعوا إِلى المكان الذى قسم فيه النور { فَالْتَمِسُوا نُورًا } اطلبوا نورا وهذا استهزاء بهم كما استهزءوا بالمؤمنين فى الدنيا، إِذ قالوا آمنا ولم يؤمنوا. قال الله تعالى: يستهزؤ بهم أى حين يقال لهم ارجعوا وراءكم، وعن أبى أُمامة يقال لهم: ارجعوا وراءكم فيرجعون إِلى المكان الذى قسم فيه النور فلا يجدون شيئا فيرجعون إِلى المؤمنين، وقد ضرب بينهم بسور وذلك خدعة كما خدعوا المؤمنين يخادعون الله وهو خادعهم، وقيل وراءكم الدنيا والتمسوا نورا هو الإِيمان والعمل الصالح، أو تنحوا عنا والتمسوا نورا غير هذا، لا سبيل لكم إِلى هذا النور ولا نور لكم عندنا فيرجعون إِلى الموقف فلا يجدون شيئا وذلك تهكم.
{ فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ } بين الفريقين { بِسُورٍ } هو الأَعراف وقيل غيره، والباء زائدة وسور نائب الفاعل، كذا قيل والصحيح أنها غير زائدة والجار والمجرور نائب الفاعل أى فرق بينهم بسور { لَّهُ بَابٌ } الجملة نعت سور.
{ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ } الجملة نعت باب أو نعت ثان لسور والهاء للسور أو الباب والرحمة الجنة وما فيها للمؤمنين { وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ } من جهته والهاء للباب أو السور أو الباطن { الْعَذَابُ } النار وما فيها للمنافقين والمشركين ولا يصح ما قيل إِن هذا السور فى موضع الجدار الشرقى من بيت المقدس عند الموضع الذى يقال له الآن وادى جهنم، وباطنه الذى فيه الرحمة هو المسجد وكأَنه قيل فماذا قالوا بعد ضرب السور فأَجاب بقوله عز وجل { يُنَادُونَهُمْ } أى ينادون المسلمين. { ألَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } فى الدنيا نقول لا إِله إِلا الله محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - { قَالُوا } أى المسلمون { بَلَى } لستم لم تكونوا معنا بل كنتم { وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أنفُسَكُمْ } صرفتموها عما تقولون بأَلسنتكم أو أهلكتموها بمخالفة ما فى ألسنتكم { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالمؤمنين الدوائر وأخرتم الصدق والعمل بما تقولون لعدم صدقكم { وَارْتَبْتُمْ } شككتم فى أُمور الدين { وَغرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ } جمع أمنية وأصل هذا المفرد أمنوية بضم الهمزة والنون وإِسكان الميم والواو، قلبت الواو ياء وأُدغمت فى الياء والضمة كسرة بوزن أفعولة وهو المنى العظيم كأُعجوبة وأُضحوكة، وأُحدوثة وأُنكوحة، وذلك أنهم يتمنون أشياء باطلة كانتكاس الإِسلام وموت النبى - صلى الله عليه وسلم - ورجوع العز إِليهم.
وعن ابن عباس: فتنتم أنفسكم بالشهوات واللذات، وتربصتم بالتوبة وارتبتم، قيل شككتم فى الله وغرتكم الأَمانى وطول الآمال. وقال أبو سنان قلتم سيغفر لنا، قال جابر بن عبد الله
"رأيت رجلا أبيض الوجه حسن الشعر واللون عليه ثياب بيض، أتى فقال يا رسول الله السلام عليك فقال - صلى الله عليه وسلم - عليك السلام ورحمة الله. فقال يا رسول الله ما الدنيا؟ فقال: حلم نائم وأهلها مجازون ومعاقبون. قال: يا رسول الله وما الآخرة؟ قال: لا بد فريق فى الجنة وفريق فى السعير، فقال: يا رسول الله ما الجنة؟ قال: بدل الدنيا لتاركها، نعيمها أبدا. قال: ما جهنم؟ قال: بدل الدنيا لطالبها لا يفارقها أبدا، قال: فمن خير هذه الأُمة؟ قال: العامل بطاعة الله عز وجل. قال: فكيف يكون الرجل فيها؟ قال: مشمرا كطالب القافلة، قال: فكم القرار فيها؟ قال: قدر المتخلف عن الرفقة. قال: فكم بين الدنيا والآخرة؟ قال: غمض عين. قال: فذهب الرجل فلم نره. فقال - صلى الله عليه وسلم -: هذا جبريل يزهدكم فى الدنيا ويرغبكم فى الآخرة" .
{ حتَّى جَاءَ أمْرُ اللهِ } أى الموت { وَغَرَّكُم بِاللهِ الْغَرُورُ } الشيطان قال لكم إِن الله غفور كريم لا يعذبكم وهو صفة مبالغة والمراد الجنس ويجوز أن يكون المراد إِبليس لأَنه سن المعصية لكل عاص، وما زال يأمر بها فما فعل أتباعه فهو فعل له. قال الإِمام على من جمع ست خصال لم يدع للجنة مطلبا ولا من النار مهربا، عرف الله تعالى فأَطاعه وعرف الشيطان فعصاه وعرف الحق فاتبعه وعرف الباطل فاتقاه وعرف الدنيا فرفضها وعرف الآخرة فطلبها. وروى أنه رأى فى سفر له - صلى الله عليه وسلم شاة ميتة يتحرك الدود فيها فوقف حتى جاء القوم فقال: "أترون هذه هانت على أهلها واستغنوا عنها. قالوا: نعم. قال: والذى نفس محمد بيده للدنيا أهون على الله منها على أهلها" .