التفاسير

< >
عرض

قَدْ سَمِعَ ٱللَّهُ قَوْلَ ٱلَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِيۤ إِلَى ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
١
ٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ ٱللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ ٱلْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ ٱللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
٢
وَٱلَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٣
فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ ٱللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٤
إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحَآدُّونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٥
يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوۤاْ أَحْصَاهُ ٱللَّهُ وَنَسُوهُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ
٦
أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أَدْنَىٰ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ إِنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٧
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نُهُواْ عَنِ ٱلنَّجْوَىٰ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ ٱللَّهُ وَيَقُولُونَ فِيۤ أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا ٱللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
٨
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ ٱلرَّسُولِ وَتَنَاجَوْاْ بِٱلْبِرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٩
إِنَّمَا ٱلنَّجْوَىٰ مِنَ ٱلشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٠
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي ٱلْمَجَالِسِ فَٱفْسَحُواْ يَفْسَحِ ٱللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ ٱنشُزُواْ فَانشُزُواْ يَرْفَعِ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١
-المجادلة

تيسير التفسير

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. قَدْ } لتوقع المخاطب لأَن النبى - صلى الله عليه وسلم - وخولة وزوجها أوس الأَنصاريين يتوقعون الجواب أو القبول من الله والمعنى أن قد استعملت في كلام ينتظره أحد كقول المقيم للصلاة قد قامت الصلاة فإِن الناس الحاضرين ينتظرونها كذلك النبى والزوجان ينتظرون نزول الوحى بالجواب أو القبول والسمع المتوقع هو جواب الله عز وجل أو قبوله شكواها على التجوز الإِرسالى لأَن السمع سبب للجواب أو القبول وملزوم أو السمع كناية عن الجواب أو القبول ويجوز أن تكون قد للتحقيق { سَمِعَ اللهُ } أجاب أو قبل وإِلا فسمعه تعالى علمه بالأَصوات التى تأْتى بعد الأَزل { قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ } هى ثعلبة بنت مالك على الصحيح وعليه الاكثر أو خولة بنت خويلد أو خولة بنت حكيم أو خولة بنت الصامت أو خويلة بنت الصامت بالتصغير وقيل خويلة بنت مالك بن ثعلبة بالتصغير وقيل جميلة وقيل وقيل وكانت حسنة الجسم، والمجادلة المراجعة فى الكلام كما قرئ تحاورك وقرئ تسائلك وأصله معالجة الصرع على الجدالة وهى الأَرض وكما قال والله يسمع تحاوركما { فِي زَوْجِهَا } أوس بن الصامت أخى عبادة بن الصامت على الصحيح أو مسلمة بن صخر والمراد فى شأن زوجها { وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ } عطف على تجادلك ومن العجب جعل الواو للحال داخلة على مضارع مثبت مجرد من قد على القلة أو داخلة على مبدأ محذوف أى وهى تشتكى بلا دليل على ذلك وبلا داع، والاشتكاء إظهار ما فيها من غم لله عز وجل أى النطق به أو التضرع فى قلبها إِليه تعالى والله لا يخفى عليه شئ ومن العجائب جعل الشكوى من الشكو بمعنى فتح الشكوة واظهار ما فيها وهى سقاء صغير بل كلمة وضعت لمعان وذلك أن خولة دخل عليها أوس فراجعته فى كلام وكان كبير السن قد ساء خلقه فغضب، وقيل كان به لمم أى خفة عقل وقيل رغبة فى النساء فقال أنت عليَّ كظهر أُمى وقيل رآها تصلى ولما سلمت راودها فأبت فقال ذلك وهو كلام محرم للمرأة فى الجاهلية، وهذا أول ظهار فى الإِسلام وندم ودعاها فقالت والله لا تصل إِلىَّ إلا بحكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأَتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالت يا رسول الله إن أوساً تزوجنى شابة مرغوباً فىَّ ولما كبرت وكثر ولدى وفرغ ما فى بطنى وأكل مالى وأفنى شبابى وكبر سنى وتفرق أهل وطالت صحبتى له وهو أحب الناس إِلىَّ وأبو ولدى، جعلنى كأمه فهل تجد لنا مخرجا؟ فقال والله ما أمرت فى شأنك بشئ إِلى الآن وهذا ظاهر فى أنه - صلى الله عليه وسلم علم بظهاره قبل مجيئها، ويروى والله ما أراك إلا حرمت عليه وقالت ما ذكر طلاقا وراجعت كلاما مراراً وقالت اللهم أشكو إِليك وحدتى وفراقه وفاقتى إن ضممت إِليه صبية صغاراً ضاعوا وإن ضممتهم إِلىَّ جاعوا وجعلت ترفع رأسها إِلى السماء وتقول اللهم إنى أشكو إِليك اللهم أنزل على نبيك، وكلما قالت ذلك قال لها ما أراك إِلا حرمت عليه، فنزلت الآيات فى حينها فقال - صلى الله عليه وسلم - "يا خولة أبشري فقالت خيراً" فقرأهن عليها وإِذا دخلت على عمر أكرمها وقال سمع الله قولها ولقيته يمشى مع رجال وقالت قف يا عمر فوقف وغلظت عليه ودنا منها ووضع يده على كتفها واستمع لها حتى قضت حاجتها، فقيل له وقفت لعجوز عن قريش وقد أغلظت عليك؟ فقال ويحك أتعرف من هذه؟ قال هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضى حاجتها وما لى لا أستمع لها وقد سمع الله تعالى لها وإِنما وضع يده على كتفها من فوق ثوبها بدون غمزها ولأَنها عجوز لا تشتهى ولانه وضعها بلا اشتهاء كما غمز الصديق عائشة فى فخذها من فوقها { والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا } الآن بسمعه الأَزلى لا بعلم متجدد وإلا لزم جهل الله تعالى عنه والسمع العلم بالأَصوات الواقعة الآن فليس كما قال قومنا سمعه للأَصوات صفة يدرك بها الأَصوات غير صفة العلم ولا يخفى أن فى وصفه بالإِدراك وصفاً بتقدم الجهل بما أدرك حاشاه والمحاورة المراجعة وليس المضارع للتجدد كما قيل بل لبيان أن علمه الأَزلى متعلق بهذه الواقعة الحالية والخطاب له - صلى الله عليه وسلم - وللتى تجادله تغليب له على الغيبة وتشريف لها إِذ ضمها إِليه - صلى الله عليه وسلم - فى الخطاب والواو للحال من ضمير تجادل أو ضمير تشتكى أو من لفظ الجلالة بعد إِلى أو من الكاف أو للعطف على تجادلك فتحتاج إِلى رابط يعود إِلى الموصول إِذ عطفت على الصلة وهو حصتها من كاف الخطاب { إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ } عليم بكل صوت تسمعه الأذن عليم بكل شئ تدركه العين من ذات وهيئة كرفع رأسها إِلى السماء وهيآت تضرعها لما نزلت الآيات قالت عائشة رضى الله عنها الحمد لله الذى وسع سمعه الأَصوات، لقد جاءت المجادلة إِلى النبى - صلى الله عليه وسلم - تكلمه وأنا فى ناحية البيت ما أسمع ما تقول فأنزل الله: قد سمع الله الآيات، وكرر لفظ الجلالة لتأْكيد الحكم وتأكيد الزجر عما يخالف مضمون الأُلوهية وشرع فى بيان حكم الظهار بقوله { الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ } يتفعل من الظهر أصله يتظهر أبدلت التاء ظاء وأدغمت الظاء فى الظاء والتظهر تشبيه الرجل زوجه أو بعضها على نفسه أو زوج عبده أو بعضها على عبده بمن تحرم عليه أو على عبده لنسب أو رضاع أو صهر أو حرمة ما كنساء النبى أو نساء الرجال وكالرجل والدبر والمطلقة التى لا تحل له بعد طلاقها ومزنيته وزوج ربيبه فى قول فلو ظاهر بمطلقته ثلاثا لم يكن ظهاراً إلا أنها تحل له بعد نكاح زوج غيره وإن نوى ما لم تتزوج كان ظهاراً وإن ظاهر بنساء الرجال ونوى ما دمن نساء لهم كان ظهاراً وإِن لم ينو لم يكن ظهاراً لحلهن له بعد الفرقة وإِن ظاهر بمعتدة ونوى ما دامت فى العدة كان ظهاراً وإِلا فلا ظهار واصل التظاهر علاج ركوب الظهر وزوج الرجل كمركوبه وأصل قوله أنت عليَّ كظهر أُمى، ظهرك عليَّ كظهر أُمى وذلك كما يقال فى الطلاق نزل عن امرأته وكأَنه كان راكباً عليها ونزل كما تركب الدابة وينزل عنها، وقيل الأَصل يتبطنون وعبر عنه بيتظهرون والأَصل إِتيان المرأة من بطنها ولكن عبر بيتظهرون لجوار الظهر للبطن وكأَنه عمود للبطن وحكمته التلويح بأَن ذلك فى الحرمة كحرمة الدبر وكحرمة إِتيان القبل من الدبر، قبل أن يحلله الله عز وجل ولا ظهار بكتابية لحل الكتابية بنص القرآن وقيل الظهار من الظهر بمعنى العلو أى علوى عليك كعلوى على أُمى فيكون لفظ الظهار شاملاً للظهر وغيره وإِن شبهها بكتابية محاربة كان ظهاراً، لأَن ابن عباس قال لا يحل نكاح الكتابية التى لا تعطى الجزية وكذا يكون ظهاراً إن شبه عضواً من زوجه بمحرم { مِنكُم } أيها المؤمنون فلا يتصور الظهار من المشرك لأَنه لا يتصور أن يملك رقبة مؤمنة فيعتقها وكذا لا يصح منه الصوم لأَنه عبادة بدنية غير معقولة المعنى ولا يقال بعد غير مستطيع لأنه يستطيع الإِسلام فيتصور أن منه على الترتيب نعم يتصور أن يقول لمملوكه أسلم على قصدى حريتك تكفيراً أو يقول لمسلم أعتق عنى وقال الشافعية بصحة الظهار من المشرك وبأن قوله تعالى منكم غير قيد وإِنما هو لأَنه لم يكن فى غيرهم مستعملا كذا قيل وفيه أنه كان فى الجاهلية والصواب أن يقال خاطب المؤمنين لأَنهم المنتفعون بالقرآن المتبعون له أو الخطاب للناس عموما كما هو ظاهر قوله والذين يظاهرون من نسائهم، والخصم يقول هذه الآية فى المؤمنين أيضاً والموصول للعهد والذى يكون راجحاً صحة الظهار من المشرك فتفوته الرجعة إِن لم يعتق عنه مسلم رقبة مؤمنة كما يصح طلاق المشرك وإِعتاقه وإنكاحه وذكر بعض أنه يصح ظهار الذمى { مِن نِّسَائِهِم } أى أزواجهم فتدخل الذمية وتخرج السرية فلا ظهار منها والمراد ما يشمل المدخول بها وغير المدخول بها ويشمل المطلقة رجعيا خلافاً لبعض فى المسأَلتين والمراد أيضاً ما يشمل البعض من المرأة ولو ظفراً أو شعرة وإِن قال كروح أمى كان ظهاراً لأَن الروح فى أُمه كجزء منها بل جزء لا يحس وإِن أراد العزة عليه والإِكرام لم يكن ظهاراً وإِن قال كأُمى حكم عليه بالظهار وقيل إِن ادعى الإِكرام لم يكن ظهاراً ولا يخفى أن الأَولى اعتبار الحال حين التكلم وقال الحنفية بشرط أن يكون البعض مما يعبر عن الكل كالوجه والرأس أو يحرم النظر إِليه كالفرج والثدى وعن أبى حنيفة الظهار بالظهر والبطن والفرج والفخذ لا بغير هذه الأَعضاء ومن الأَولى للتبعيض وهذه للابتداء أو للمجاوزة وعنفهم الله عز وجل بقوله { مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ } إِنكاراً عليهم وليس ذلك كذباً منهم إِذ لم يقصد بذلك كذباً عمداً ولا خطأَ بل التشبيه فى الحرمة وكان الظهار طلاقا فى الجاهلية قيل وفى أول الإِسلام ويناسبه قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لخولة قبل نزول الآية ما أراك إِلا محرمة عليه وقيل كان طلاقا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه وقيل لم يكن طلاقاً من كل وجه بل لتبقى معلقة لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره وقيل يعدونه طلاقاً مؤكداً باليمين على الاجتناب { إِنْ أُمَّهَاتُهُم إِلاَّ اللاَّئِى وَلَدْنَهُمْ } لا يشبههن فى الحرمة إِلا من ألحق الله بهن كالمرضعات وازواج الرسول صلى الله عليه وسلم إِذ دخلن فى حكم الأَمهات، وقد علمت أن الظهار لا يختص بالأُم إِلا أن العرب تظاهر بها وخصه الشافعى فى القديم بها { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا } ما ينكره الطبع والعقل والشرع وهذا العموم مأْخوذ من المشاهدة لا من التنكير كما قيل منكراً { مِنَ الْقَوْلِ } من للتبعيض والبعض الآخر سائر المناكر بل يدخل فى القول ما هو حق لأَنه ليس المراد أنهم يقولون بل المراد أن القول عام أخذوا منه الظهار كما أخذوا منه الشرك ومناط التأَكيد القول من حيث تعلقه بما هو منكر { وَزُورًا } ما مال عن الحق وكان باطلا ولو كان لا يسمى كذبا إِلا تجوزاً ولا يحسن لأَحد أن يقول المظاهر مخبر فضلا عن أن يكذب بل منشئ لحرمة والإنشاء لا يكون كذبا إلا عن عرض مثل أن يتضمن إخباراً مثل أن يقول إِنشاء للبيع: بعت لك هذه العبد وهو لغيره فإِنه يتضمن إخباراً بأَن هذا العبد ملك له بل إن كان المظاهر مخبراً فليس كلامه كذبا لأَنه لم يتعمد كذباً ولا أخطأ إِليه بل أنشأ تشبيها، وقيل سماه منكراً من القول وزوراً لأَن الأُم محرمة أبداً، ومن أول الأَمر بالشرع والزوجة لا تحرم عليه بهذا القول تحريماً مؤبداً، بل هو تحريم من جانب الزوج. وظاهر الآية أن الظهار من الكبائر ويقويه قوله عز وجل { وَإِنَّ اللهَ لَعَفُوٌ غفُورٌ } للتائب إِذ العفو والغفران عن الذنب لكنهما كثيراً ما يطلقان فى المكروه وما لا ينبغى وفى الصغيرة ووجه كونه كبيرة أن فيه إِقداماً على إِحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إِذنه وهذا أشد خطراً من كثير من الكبائر لأَن فيه تحريم ما أحله الله جل وعلا وهو من باب الإِشراك فى المعنى وأما قول الرجل لزوجه أنها حرام عليه فمكروه، وقد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال جل وعلا الله غفور رحيم وهو دون الظهار لأَن الزوجية ومطلق الحرمة لا يجتمعان بخلاف الزوجية مع التحريم المشابه لتحريم الأُم ونحوها، ولهذا وجبت المغلظة فى الظهار وكفارة اليمين فى تحريم الزوجة وأطلق بعض كراهة الظهار كراهة شديدة ولم يسمها كبيرة فى شأن الموحدة لأَنه ما أراد إِلا عبارة عن طلاق مخصوص ولم يرد بدعة ولا تشريعاً وتأول الآية بذلك.
{ وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا } من التحريم أى إِليه بالإِبطال أو بالتحليل أو يقدر مضاف أى يعودون لإِبطال ما قالوا أى ذكروا من التحريم وثم للترتيب الذكرى مطلقاً لا بقيد التراخى وفيها تلويح إِلى تباعد ما بين جعلها كالأم والرجوع إِلى مسها، واللام بمعنى إِلى كما هو المتبادر ويقال يتعدى العود باللام أيضاً فلا حاجة إِلى تأْويلها بإِلى، كما يتعدى بفى أيضاً يقال عاد إِلى كذا وعاد لكذا وعاد فى كذا. قال الله عز وجل:
{ { وأُوحي إِلى نوح } [هود: 36]. وقال { { بأن ربك أوحى لها } [الزلزلة: 5]. { { ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه } [الأنعام: 28] وعليه فهى كلام المصلحة ولام الاستحقاق، وقيل العود لما قالوا العزم على الوطء كما يقال عاد على الشئ بمعنى تداركه بالإِصلاح وعاد الغيث على ما أفسد أى تداركه بالإِصلاح، والمعنى يتداركون ذلك القول بنقضه ونقضه الوطء أو العزم عليه، وقيل العود إِلى إمساكها بعد الظهار منها وقيل إِلى الوطء وقيل إِلى الإِمساك والوطء وما موصول اسمى. أى لما قالوا قالوا من التحريم قيل أو موصول حرفى وفيه أنه إِن لم يبق المصدر على حاله صح وضعف المعنى كأَنه قيل يعودون إِلى كلامهم وإِن أول بمفعول كان كالعبث فى القرآن لأضنه يغنى عنه جعلها اسما موصولا أو نكرة مقصودة وقيل العود لما قالوا وقيل العود بمعنى الرجوع واللام بمعنى عن، أى يرجعون عما قالوا من التحريم ويريدون الوطء وهو فى معنى الوجه الأَول وهو حسن إِلا أن اللام بمعنى عن خلاف الظاهر.
وقالت الظاهرية العود لما قالوا أن يقول هى على كظهر أُمى بعد ما قاله فالعود التكرير وعليه أبو العالية وبكير بن عبد الله بن الأَشج والفراء قيل وأبو حنيفة ويرده أن لا تكرير فى قصة خولة وأنه لم يسأَل عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو مسلم الأَصفهانى العود ذكر جواب القسم فلا ظهار عنده إِلا بالقسم مثل أن يقول والله أنت عليَّ كظهر أُمى فأنت عليَّ الخ، تأَكيد للتحريم بعد التأْكيد بالقسم ويرده أن هذا إِلغاء للظهار إِلى أن الكفارة لحنثه بالكذب وأنه لا حلف فى قصة خولة ولا سأَل عنه - صلى الله عليه وسلم - خولة وقيل العود الحنث فى شرطه فلا ظهار عليه إِلا أن شرط مثل أن يقول أنت عليَّ كظهر أُمى إن دخلت الدار فدخلها فدخوله تكرير للظهار وليس كذلك وإِذا علق كذلك وقع الظهار من حيث حنث.
وعن الشافعى العود لما قالوا ترك الطلاق بعد الظهار فإِذا سكت عن الطلاق فقد ندم على ما ابتدأ به فلزمته الكفارة وعن ابن عباس العود الندم إِلى الأُلفة وعن أبى حنيفة العود استباحة الوطء وإِرادة التمتع بالمس والنظر، وعن مالك العود عزمه على وطئها وهو قريب من قول أبى حنيفة وعن الحسن وقتادة ومجاهد وطاووس العود العزم على الوطء وقالوا لا كفارة عليه ما لم يطأَها، ومراد الشافعى بالطلاق مطلق الفرقة وكان الظهار طلاق الجاهلية وكان أشد فرقة ولا رجعة عندهم وقد فسر مجاهد والثورى العود بالرجوع إِلى طلاق الجاهلية وهو الظهار وفسره أبو العالية بإِعادة الظهار فى حينه فإِن لم يعده فلا كفارة وهو كلام لا يسمع.
{ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } مؤمنة وذلك حمل للمطلق على المقيد وأجاز أبو حنيفة الرقبة المشركة لأَن الإِيمان ورد فى غير الظهار وهو الظاهر والأَول لأَصحابنا وهو الأَحوط، أى فعليه تحرير رقبة أو فالواجب عليه تحرير رقبة قيل أو فيلزمهم تحرير رقبة وفيه أنه لو قيل فى جواب الشرط فيلزمهم لقدر قد أو المبتدأ أى فقد يلزمهم أو فهم يلزمهم { مِن قَبْلِ أن يَتَمَاسَّا } بذكره وغيوب الحشفة أو ولو لم تغب أو ولو فى سائر بدنها أقوال فإِن مس قبل التحرير حرمت وقال مالك والأَوزاعى والزهرى والنخعى تحرم ولو بالتقبيل أو نحوه من دواعى الجماع لأَن الأَصل تحريم الدواعى إِلى ما حرم ولم تحرم الدواعى فى الصوم والحيض لكثرتها وهو المطابق للتشبيه، ألا ترى أنه لا يحل الاستمتاع بالأُم مطلقا ولا تحرم بنظر الفرج قبل التحرير والمذهب حرمتها أبداً بالمس قبل التحرير ولا كفارة عليه بالمس ولا بالظهار ويعترض مما ذكر قومنا
"أن سلمة بن صخر الأَنصارى ظاهر من زوجه ومسها قبل التكفير فقال صلى الله عليه وسلم ما حملك على ذلك فقال رأيت خلخالها، ويروى بياض ساقها فى ضوء القمر فضحك - صلى الله عليه وسلم - فقال اعتزلها حتى تكفر" ، ولعل الحديث لم يثبت عند أصحابنا ورد بهذا على مجاهد وعمرو بن العاص وسعيد ابن جبير وقبيصة والزهرى وقتادة إِذ قال تلزمه كفارة أخرى بالمس قبل التكفير وعلى من قال تلزمه ثلاث كفارات كما هو قول عن الحسن والنخعى ولزم المرأة أن تمنعه من المس حتى تكفر ويحرم عندنا وعند أبى حنيفة الجماع وكل تمتع ولو بنظر وهو قول للشافعى وعنه أيضاً أنه يحرم الجماع فقط { ذَلِكُمْ } خطاب للمؤمنين الموجودين عند النزول وقيل للمؤمنين مطلقاً من الأَمة والإِشارة إِلى الحكم بالكفارة { تُوعَظُونَ بِهِ } تزجرون به عن العود إِلى أزواجكم بالوطء قبل التكفير فإِنه حرام وزنى والكفارة جبر للخلل عند بعض كسجود السهو وعقوبة محضة قولان ثالثهما أنها محو للذنب أو تخفيف له، وقد قيل أيضاً أنها دائرة بين العبادة والعقوبة { وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } مطلقا ومنه الظهار والعود والتكفير { خَبِيرٌ } عالم بباطنها وظاهرها فهو مجازيكم فاحذروا { فَمَن لَّمْ يَجِدْ } رقبة أو وجدها ولم يجد ثمناً يشتريها به وذلك كله فى الآية والثمن هو معتبر بعد قدر كفايته له ولعياله لأَن قدرها مستحق الصرف فهو كالعدم وقدر الكفاية من القوت للمحترف قوت يوم وللذى يعمل قوت شهر ومن له عبد يحتاج لخدمته واجد فلا يجزيه الصوم بخلاف مسكنه فإِنه كلباسه ولباس عياله وعن مالك والأَوزاعى من له رقبة وهو محتاج إِلى الخدمة أو له ثمنها لكنه محتاج إِليه فى نفقته ونفقة عياله لزمه الاعتاق وقيل يصوم والثمن معتبر أيضاً بعد دينه ولو مؤجلا ومن له دين على غيره لا طاقة له على قبضه غير واحد ويعتبر وقت الظهار أو وقت التكفير قولان ومن له دين على غيره مؤجل يفوت أجل الظهار به غير واحد ومن له دين وعليه دين مثله أو اكثر فغير واجد إِلا إن كان ما عليه مؤجلا ومن ملك رقبة فهو واجد ولو كان عليه دين لأَنه لو أعتقها لم يمنع الدين من صحة عتقها ومن لم يجد شراءها إلا بغبن فهو غير واجد كما فى شراء الماء لنحو الوضوء { فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أن يَتَمَاسَّا } فالواجب عليه صيام أو فعليه صيام ويكفيه شهران كل منهما تسعة وعشرون يوماً وهما ثمانية وخمسون يوماً، وإِن بدأ بالأَيام فلا بد من ستين يوماً وإِن بدأ من أول الشهر ناوياً الصوم بالأَيام كمن صام من وسط الشهر كفاه الشهران ولو نقصا وقيل من بدأ بالأَيام من وسط الشهر أعنى غير اليوم الأَول حسب الشهر بعده بالهلال وأتم الأَول من الثالث ثلاثين وإِن أفطر ولو بعذر كمرض وسفر ونسيان أو عدم النية من الليل إِن كان ينوى لكل يوم استأْنف ولو أفطر فى اليوم الأَخير لعدم التتابع؛ وعن عمر بن دينار راوى جابر بن زيد وسعيد بن المسيب والحسن وعطاء والشعبى ومالك والشافعى فى قول له يبنى والذى يظهر أنه يستأْنف إن أفطر لسفر لا لمرض ونحوه من الضرائر، وإِن جامع التى ظاهر منها ولو ليلا أو ناسياً حرمت عليه لأَنه جامعها قبل تمام التكفير وقال الشافعية لا تحرم ولو عمداً وعصى ولم يفسدوه صومه إِن جامع ليلا، وقيل لا تحرم للنسيان وقال أبو حنيفة ومحمد يستأْنف الصوم للنسيان وقال أبو يوسف لا يستأْنف لأَنه لا يفسد به الصوم عنده للنسيان ويرده أن المأْمور به فى الآية صيام شهرين متتابعين لا مسيس فيهما وإِن جامع زوجاً أُخرى غير التى ظاهر منها ولو ناسياً نهاراً استأنف ولا يستأْنف إِن كان ليلا ولو عمداً وإن ظاهر من امرأتين فصام عن إحداهما وعتق عن الأُخرى لم يصح للأُخرى وبطل عن الأُولى لصومه مع القدرة على العتق وإِن قدم العتق صح هو والصوم وكذا ما بين الصوم والإِطعام إِن قدم الإطعام وإِذا فسد التكفير بالعتق أو الصوم أو الإِطعام استأْنف ما قدر عليه من ترتيب الآية وإِن ظاهر من اثنتين فصاعدا بلفظ واحد فلكل واحدة كفارة وزعم بعض قومنا أنه تجزى واحدة، وإِن صام مسافر عن الظهار فى شهر رمضان لم يجزه وقيل يجزيه وهو أصح، وإِن عالج مريض الصوم عنه فى رمضان مع المشقة لم يجزه وزعم بعض أنه يجزيه وإِن نسى المظاهر الرقبة أو لم يعلم بها وكذا ثمنها فصام لم يجزه وقيل يجزيه كالخلاف فى نسيان الماء فى رحله وفى وجود ماء لا يدرى به وبير قريبة منه لا يدرى بها قال الله تعالى فى العتق والصوم من قبل أن يتماسا ولم يقله فى الإِطعام فقيل المراد فيه أيضاً من قبل أن يتماسا حملاً للمطلق على المقيد وذلك مذهبنا وعندى أن الحمل على المقيد يكون إِذا كان الإِطلاق والتقييد فى مسأَلة واحدة نحو أطعم أهلك براً حتى يشبعوا أطعمهم براً صبحا، وقيل يجوز المس قبل الإِطعام إِذ لم يقيد والأَول قولنا وهو أحوط ونسب الثانى لمالك { فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ } صيام شهرين متتابعين بل استطاع الصوم بلا تتابع أو لم يستطع العدد كاملا أو لم يستطع الصوم البتة وذلك لكبر أو مرض لا يرجى برؤه أو خاف حدث مرض أو تأَخير برء أو زيادة مرض وذكر بعض قومنا أنه يعتبر دوام المرض فى ظنه شهرين بالعادة الغالبة فى مثله أو بطبيب عدل ولما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أوساً إِذ ظاهر من خولة بالإِعتاق ولم يقدر قال صم شهرين متتابعين فقال: والله يا رسول الله إِن لم آكل فى اليوم والليلة ثلاث مرات كَلَّ بصرى وخشيت أن تعشوعينى، وعد قومنا من أسباب عدم الاستطاعة شدة الرغبة فى الجماع ورووا فى ذلك أن سلمة بن صخر وصف نفسه بذلك وأنه دخل رمضان فظاهر من امرأته حتى يخرج رمضان لئلا يصيبها قرب ا لفجر حتى لا يدرك الغسل أو فى النهار ووثبت عليها ليلا إِذ كانت تخدمنى ورأيت منها شيئاً فأَخبرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقال: أنت بذاك؟ فقلت: أنا بذاك وقال: أنت بذاك؟ فقلت: أنا بذاك، أى مصاب بذاك أو تلم بذاك فامض حكم الله تعالى علىَّ قال: اعتق رقبة فضربت صفحة عنقى بيدى وقلت: والذى بعثك بالحق ما أملك غيرها أى غير رقبتى. فقال: صم شهرين متتابعين فقلت ما أصابنى ذلك إِلا فى الصيام فقال أطعم ستين مسكيناً. وفيه عدم الحرمة فى المظاهر منها قبل التكفير قال والذى بعثك بالحق ما أملك طعاماً. قال انطلق إِلى صاحب صدقة بنى زريق يدفعها إِليك ففعل، وروى أنه قال له كل أنت وعيالك منها وتصدق وذلك لك خاصة وقال لقومه وقد سأَلهم أن يمشوا معه إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبوا، وجدت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - السعة لا عندكم. وروى أنه أعانه - صلى الله عليه وسلم - بعَرَق بفتح العين والراء وهو زنبيل يسع ثلاثين صاعا فقالت زوجه وأنا أعينه بثلاثين، ويروى أنها قالت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله لا يجد رقبة. قال: فليصم شهرين متتابعين. قالت: شيخ كبير لا يطيق الصوم قال: فليطعم ستين مسكينا. قالت: ماله شئ قال: أعينه بعرق من ثمر قالت: وأنا أعينه بعرق آخر قال: قد أحسنت. قال اذهبى فأَطعمى بها ستين مسكينا وارجعى إِلى ابن عمك. رواه أبو داود فإِما أن يتكرر منه ذلك وإما أن تكون قصة واحدة، سأَلت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسأَله زوجها أيضا وبعدها قال اذهب إِلى بنى زريق أعطاه عرقا وأعطته آخر فلم يسأَلهم، وفى أكله هو وزوجه وعيالة من كفارة نفسه خصوصية له رحمة الله تعالى { فَإِطْعَامُ } فالواجب عليه إِطعام أو فعليه إِطعام { سِتِّينَ مِسْكِينًا } مدان من بر أو دقيقة أو من تمر جيد وقيل صاع من ثمر وقيل ثلاثة ولو جيدا أو صاع من شعير وقيل ثلاثة أو من دقيقه لكل مسكين وأجاز الشافعية حدا لكل مسكين عن بر لحديث ورد به، فحديث المدين ندب ويجوز إِطعام بعض غداء وعشاء والصائم فطور أو سحور أو كيل لبعض اتفق نوع الطعام أو اختلف فى تلك المسائل وأُجيز من غالب طعام البلد فى غالب السنة، وعن مالك مد وثلث وعنه مد وثلثا مد وقيل ما يشبع به ولو نصف مد وإن غدى الستين مرتين أو عشاهم مرتين أو غداهم وسحرهم أو سحرهم مرتين، ولو غدى ستين وعشى آخرين لم يجز إِلا إِن أعاد لأَحد الفريقين فى غير وقتهم ولم تجز الشافعية الإِطعام وأوجبوا الكيل لأَنه أدفع للحاجة ولوجوب الكيل فى الزكاة وزكاة الفطر، ويرده أن النص فى الآية الإِطعام وهو صادق على الإِيكال والكيل والوارد فى الزكاة الإِيتاء وفى زكاة الفطر التأدية وهما للتمليك، وورد أطعمه وسقا وإِن أطعم مسكينا واحدا ستين يوما لم يجز لأَن النص ستين مسكينا، وهو قولنا وقول مالك والشافعى وصحيح أحمد والجمهور وأجازه أبو حنيفة وقوم لأَن المقصود سد الخلة والخلة تتجدد فى كل يوم ويرده أنه لا يجوز أن يحمل على المجاز إِلا بقرينة فوجب الحمل على ستين إِنسان وهو الحقيقة وهو ظاهر الآية، وأما الحمل على الستين حقيقة أو حكما فمجاز بلا دليل وكذا يرد على من قال المراد طعام الستين ولو لواحد وأيضا إِدخال السرور على ستين أولى مما دونه لاجتماع قلوب كثيرة على الفرح به والحب والدعاء، واختلف فى إِعطاء القيمة وفى إِعطاء مسكين من نوعين فصاعدا ومن مكيل وقيمة ومن طعام وقيمة ومن ذلك أن يعطى مدا زبيبا يسوى مدين برا وإن مضت أربعة أشهر ولم يكفر خرجت بالإِيلاء، وقال قومنا لا تحرم بالمس قبل التكفير إِلا أنه لا يترك عليه ولا تخرج بالإِيلاء عند تمام أربعة الأَشهر عندهم وإِذا لم يجد التكفير بأَحد الثلاثة أخر حتى يجد وهو خطأ واستظهروا بقاء حرمة المسيس إِلى أن يكفر ولو كفر ببعض طعام ولم يتم وينتظر باقيه وإِن كرر الظهار فلكل ظهار كفارة إلا إن أراد التأكيد أو كان التكرار فى مجلس واحد وقال مالك عليه واحدة ولو كرر فى مجالس { ذَلِكَ } المذكور من البيان والتعليم مبتدأ خبره قوله تعالى { لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ } أى ثابت أو مثبت أو يقدر كون خاص أى واقع أو مشروع لتؤمنوا بالله ورسوله أو ذلك مفعول لمحذوف أى أنزلنا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله إِيمانا مستتبعا لاتباع الشريعة وترك أُمور الجاهلية. { وَتِلْكَ } الأَحكام { حُدُودُ اللهِ } لا يسوغ لأَحد مجاوزتها بتركها ولا بنقضها لما يخالفها { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } على ترك القيام بها.
قيل الكفر هنا يشمل الشرك وكفر النعمة المسمى عند قومنا بكفر الجارحة فشملت الآية الموحد المخالف لأَحكام الظهار والملوك الجائرين من أهل التوحيد وأصحاب الكبائر، قلت المعنى المذكور كله صحيح إِلا أنه لا يصح تفسير الآية به لأَنها ظاهرة فى المشركين ألا ترى إِلى قوله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } ألا ترى قوله من قبلهم فان من قبلهم المشركون ولو جاءت المحادة فى الفاسق معبرا عنها فى الحديث بالمبارزة لله تعالى والمحاربة وإِنما يجوز للسلاطين ومن ينحو نحوهم وضع قوانين لا تخالف الشرع بل ترجع إِليه استنباطا وقد قال الله عز وجل:
{ { اليوم أكملت لكم دينكم } [المائدة: 3]، فكل شئ يحتاج إِليه الدين يؤخذ من القرآن نصا وفهما أو ضمنا وبالقياس والكامل لا يكمل، والآية نزلت فى قريش المخالفين لأَحكام الظهار المتبعين لمن قبلهم فى حدود الكفر، الواضعين لبعض ما لم يتقدم قبلهم ومعنى يحادون الخ يخالفون الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - كأَنهم فى حد ورسوله فى حد آخر أى جهة كعدوتى الوادى وعدوتى البحر، وهذا أولى من أن يجعل من المفاعلة بالحديد كالسيف والنصال والسنان كما يقابل العدو بذلك لعدم شهرة هذا ولتقدم الحد قبله لا الحديد إِذ قال وتلك حدود الله ومعنى كبتوا أُخزوا أو غيظوا أو ردوا مخذولين أو أُهلكوا أو ردوا بعنف وإِذلال أو أُلقوا على الوجوه أو لعنوا أو كبدوا أى أُصيبوا بداء الكبد أو أُصيب كبدهم، أُبدلت الدال تاء وذلك الكبت بأَوجهه يوم بدر أو يوم الخندق وعليه الأَكثر، أو مستقبل ليوم القيامة تنزيلا منزلة ما وضع للتحقق، وذلك تبشير للمؤمنين بالنصر وإِذلال العدو { وَقَدْ أنزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } فيمن حاد الله ورسوله قبلهم من الأُمم والآيات آيات الإِخبار عن هلاكهم أو نفس إِهلاكهم المخبر به أو آيات تدل على صدقه - صلى الله عليه وسلم - والعطف على كبتوا وقيل الجملة حال من واو كبتوا، على أن الكبت متأَخر عن الإِنزال محكية أو متأَخر فهى مقدرة { وَلِلْكَافِرِينَ } مطلقا فتدخل هؤلاء الكفرة بهؤلاء الآيات بالأَولى أو المراد هؤلاء الكافرون بهذه الآيات { عَذَابٌ مُّهِينٌ } مذهب لعزهم وكبرهم.
{ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللهُ } متعلق بما تعلق به للكافرين، أو بقوله للكافرين لنيابته عنه ولا يوجد قائل أنه يتعلق بالكافرين وإِنما قيل يتعلق بكافرين يتعلق بالجار والمجرور معا، وهو شئ لا بأس به وقيل مفعول لأذكر تعظيما لذلك اليوم وقيل متعلق بكون تام جواب لمن قال متى يكون { جَمِيعًا } حال من الهاء للتأكيد لا بمعنى لا شئ منهم غير مبعوث وقيل حال مؤسسة مقدرة أى مجتمعين فى صعيد واحد { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا } من المعاصى كناية عن العقاب عليها قيل أو يصورها لهم بصورة فظيعة بحضرة الناس زيادة فى إِذلالهم وتحسرهم، قيل كأَنه قيل كيف هذه التنبئة أو كيف سببها وهى أعراض منقضية أو لماذا ينبئهم فأَجاب بقوله { أحْصَاهُ للهُ وَنَسُوهُ } حال من الهاء فى أحصاه أو من لفظ الجلالة بتقدير قد أو حال مع مبتدأ محذوف أى وهم نسوه أو بلا تقدير على قول ويتحقق عندهم أن العذاب لأَعمالهم أو الواو عاطفة { واللهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ شَهِيدٌ } شاهد عليه شهادة عظيمة أو مشاهد له.
{ أَلَمْ تَرَ أنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ } شامل لأَجزائهما وما فيهما من غيرهما { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدْنَى مِن ذَلِكَ وَلاَ أكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أيْنَمَا كَانُوا } زيادة تقرير لعموم علمه ولا خبر للكون فى الموضعين وما نافية ونجوى فاعل يكون ومن صلة للتأكيد ونجوى اسم للمصدر الذى هو التناجى بمعنى المسارة كأَنهم يطلعون نجوة من الأَرض وهى الموضع المرتفع من الأَرض يتكلمون عليه بسر لئلا يسهل للناس الحضور معهم أو المعنى الرفعة إِلى غاية الخفاء وأعلاه أو الترفع عن ظهوره أيسرونه أو التناجى التعاون على ما فيه النجاة مما يكره أو من ظهر السر ويقدر مضاف أى من ذوى نجوى ثلاثة كذا قيل ولا يصح هذا على إِضافة نجوى لثلاثة لأَن ثلاثة هم ذوى ولا يصح مع جعل نجوى وصفا بمعنى متناجين لأَن نجوى هم ذوى أيضا بل إِذا جعل نجوى وصفا فلا حذف وإِذا جعل مصدرا قدر ذوى نجوى وجعل ثلاثة نعتا لذوى المقدر، وإِنما قلت ذلك لأَن التناجى ليس ثلاثة الله رابعهم وإِنما هو رابع للثلاثة المتناجين ولا دليل على كون النجوى بمعنى المتناجين فى قوله تعالى:
{ { وإِذ هم نجوى } [الإسراء: 47] لجواز أن يكون المراد وإِذ هم تناج بالإخبار بالتناجى مبالغة كزيد صوم وعلم ويجوز أن لا يقدر، ولو بقى نجوى على معنى المصدر كما تقول لا يكون سفر زيد إِلا معه أبوه وخمسة معطوف بالواو على ثلاثة وقد انسحب عليهم معنى التناجى لعطفه على ما أُضيف إِلى الثلاثة وهو نجوى وإن جعل نجوى وصفا فالعطف عليه. وقوله هو سادسهم معطوف بتلك الواو على هو رابعهم من العطف على معمولى عامل واحد وهو يكون العامل الرفع فى محل نجوى والنصب فى جملة الحال، وقدر بعض ولا نجوى خمسة وأدنى معطوف على ثلاثة وكذا أكثر وإِلا هو معهم معطوف على هو رابعهم، ويجوز أن تكون اللاءان عاملتين عمل إِن ومعية الله علمه بما يقولون وبما فى قلوبهم وبخلق ذلك منهم وأين متعلق بكانوا أى ولو فى بطن الأَرض السابعة أو تحتها وخص الخمسة والثلاثة لأَن قوما منافقين خلوا للتناجى على العددين ليغيظوا المؤمنين فالآية تعريض بهم وعن ابن عباس نزلت فى ربيعة بن عمرو وأخيه حبيب بن عمرو وصفوان بن أُمية قال أحدهم أترى أن الله يعلم ما تقول؟ وقال الآخر: يعلم بعضا: وقال الثالث: إِن كان يعلم بعضا علم الكل أى لأَن علمه بلا سبب ولا واسطة وهو ذاتى فلا وجه لاختصاصه بالبعض أو خص العددين لجريان العادة بهما وما يقرب منهما فوق وتحت، ولأَن الله عز وجل وتر فبدأ بالوتر الأَول من العدد وهو ثلاثة وهم لا يعدون الواحد عدداً وثنى بوتر ليرجع إِلى الوتر لزيادته على الإِشفاع وينبغى أن لا تجاوز التسعة وجعلها عمر رضى الله عنه ستة لأَنهم هم رؤساء الناس كما قال لهم أنتم رؤساء الناس وأيضا الثلاثة معتبرة كما هى أقل الجمع وكما قال موسى عليه السلام إِن سأَلتك عن شئ الخ ولأَن التناجى بالقلب واللسان والأُذن وكالتوضئ ثلاثا وغير ذلك والخمسة عدد الحواس، ويدخل غيرها من الإِشفاع والأَوتار بقوله عز وجل: ولا أدنى الخ. ولا نجوى الواحد وجاء الحديث "إن الله وتر يحب الوتر" وقيل أقل ما يكفى فى المشاورة ثلاثة فاثنان كالمتنازعين والثالث كالحاكم بينهما وكذا جمع للمشاورة لا بد من واحد يحكم بينهم مقبول القول { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ } ليفتضحوا فى أنفسهم وعند الناس وغيرهم وإِظهار لما يوجب عذابهم { إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } لأَن علمه ذاتى فلا يختلف بالأَشياء، بدأ الله عز وجل هذه الآيات بالعلم وختمها بالعلم وكانت اليهود والمنافقون يتناجون ويتغامزون بمرأى المؤمنين يوهمونهم موت أقاربهم والمؤمنين فى القتال، ولا يزالون كذلك حتى تقدم الأَقارب والمؤمنون وكثر ذلك منهم فشكا المؤمنون إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك فناهم ولم ينتهوا ونزل قوله تعالى { ألَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُو عَنِ النَّجْوَى } الخطاب له - صلى الله عليه وسلم - أولى من أن يكون لكل صالح له، لأَنه هو الذى نهاهم. كان اليهود والمنافقون يتناجون بغير سوء بمرأى المؤمنين فيظن المؤمنون أن ذلك تناج فيهم أو فى السرايا بأَنهم قتلوا أو هزموا وذلك إِثم وعدوان ويناجون أيضا بما هو كذب، وثقل ذلك على المؤمنين لأَنهم أكثروا من ذلك ونهاهم الله عز وجل ولم ينتهوا والاستفهام تعجيب { ثُمَّ يَعُودُونَ } المُضارع للتجدد والاستحضار للصورة { لِمَا } اللام للتعدية والاستحقاق أو بمعنى إِلى أو فى { نُهُوا عَنْهُ } وهو جنس ما فعلوا أولا هكذا نفسه أو غيره بل لو كان عينه لكان غيره لأَن ذكره الآن غير ذكره فى الوقت الآخر { وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ } المعاداة لله ورسوله { وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ } معصية الرسول داخلة فى الإِثم والعدوان وذكره استعظاما لمعصيتهم لمن هو رسول الله أو اعتبر معصية الرسول هى المراد بالإِثم والعدوان فيكون تفسيرا لهما بمعصيته - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنه نهاهم عن النجوى وعصوه بالعود إِليها أو يوصى بعض بعضا بمعصية الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكأَن معصية مجرورة فى السطر كتاء رحمة الله لما كانت الإِضافة لما بعد واتصال به ناسب امتداد التاء إِليه والتلويح فى الخط إِلى معنى أو إِلى نوع وارد كثير، كما يحذف الحرف نطقا وهو مراد فيتبعه الحذف خطا أيضا فى بعض الكلمات مثل ويصح الله الباطل { وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللهُ } يحييه الله عز وجل بسلام عليك أيها النبى ورحمة الله وبركاته ونحوه من ألفاظ الخير والذى يحييه اليهود لعنهم الله السَّامُ عليك، ولكون المجيبين به اليهود قال مجاهد نزلت فى اليهود وقال ابن السائب نزلت فى المنافقين، ولعل من قال به من الصحابة علم أنهم يقولون ذلك ولم يعلم أن اليهود قالوه فلعلهم قالوا جميعا فنزلت فيهم جميعا، وإِن قاله فريق دون آخر فالآخر يرضى به ويفرح فهو قائل به أو المراد المجموع لا الجميع، ولعل تحية المنافقين عم صباحا وعدت سبا لقصدهم التهاون بالسلام عليكم كما رواه البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة رضى الله عنها إِن ناسا من اليهود دخلوا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا السام أى الموت عليك يا أبا القاسم فقال - صلى الله عليه وسلم - وعليكم يعنى كلنا يموت، وقالت عائشة رضى الله عنها عليكم السام ولعنكم الله وغضب عليكم، وروى أنها قالت عليكم السام والذام واللعنة على كل حال قال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يا عائشة إِنَّ الله لا يحب الفاحش ولا المتفحش. فقالت: ألم تسمع ما قالوا؟ فقال: - صلى الله عليه وسلم - أو ما سمعت أقول وعليكم" ، وفى البخارى قال "يا عائشة عليك الرفق وإِياك والعنف والفحش. قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: أو لم تسمعي ما قلت رددت عليهم فيستجاب لي فيهم ولا يستجاب لهم في" وفى الحديث "إِذا سلم عليكم أهل الكتاب فإِنما يقولون السام عليكم فقولوا وعليكم بالواو بمعنى إِن الموت علينا وعليكم" والسام الموت واختار ابن عيينة أنه بلا واو لا يكون الكلام ردا لسوئهم عليهم بدون التلفظ بالشركة معهم، وله - صلى الله عليه وسلم - زيادة عفو إِذ لم يذكر ما قالوا بل قال وعليكم ولو كان مرادا له فهو أبدا فى ارتفاع شأَن وكرم ومعادوه أبدا فى سفال فأَنزل الله عز وجل فى ذلك الآية وعن ابن عمر يقولون سام عليك يريدون الشتم فيقولون ما ذكر الله عز وجل عنهم بقوله { وَيَقُولُونَ فِي أنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ بِمَا نَقُولُ } لو كان نبيا لعذبنا الله عز وجل بذلك والسام بأَلف ويروى بالهمز ومعناهما الموت أو المهموز بمعنى تسامون دينكم ويجوز فى غير المهموز بمعنى تسامون دينكم قلبت ألفا إِلا أن الأَصل عدم القلب ويبعد أن يكون تحية اليهود عم صباحا ومثله أنعم صباحا وهو خير وعد ذما لأَنهم قصدوا به مخالفة تحية الإِسلام ويكره الآن لأَنه تحية الجاهلية ويجوز أن لا يرد لقائله تأَديبا له { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } جزاء { يَصْلَوْنَهَا } يدخلونها أو يقاسون حرها أو يصطلون بها وفى هذا الأَخير تهكم إِذ شبهوا بمن يعامل النار لإِزالة البرد. { فَبِئْسَ الْمَصِيرُ } جهنم { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ } إِذا أردتم المناجاة فى مجامعكم أو غيرها { فَلاَ تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ومَعْصِيةِ الرَّسُولِ } كما تفعل اليهود والمنافقون نهاهم عنه وهم لا يفعلونه ولا فعلوه تحذيرا لهم وإِنذاراً لغيرهم أو قد فعله بعضهم فنهاهم أو الذين آمنوا المنافقون وهو الصحيح عند بعض وصفهم بالإِيمان على دعواهم واعتبارا للفظهم إِذ آمنوا بأَلسنتهم { وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ } ما يتضمن للمؤمنين خيراً وسائر العبادات { وَالتَّقْوَى } ما ليس معصية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فى أمر من الدين ولا ذماً له أى اجعلوا بدل التناجى بالشر التناجى بالخير إِذا كان الصواب التناجى وإِلا فأَظهروا الدين ولا تتناجوا ويجوز أن يراد بالتناجى هنا مطلق التكلم استعمالا للمقيد فى المطلق أو إِذا أردتم التناجى بالسوء فاجعلوا بدلها التكلم بالخير { وَاتَّقُوا } فيما تأتون وما تدرون { اللهَ الَّذِى إِلَيْهِ } وحده لا إِلى غيره ولا إِليه غيره { تُحْشَرُونَ } تجمعون للثواب والعقاب.
{ إِنَّمَا النَّجْوَى } بالإِثم والعدوان ومعصية الرسول { مِنَ الشَّيْطَان } بتزيينه والله خالقها وناه عنها { لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا } تعليل متعلق بقوله من الشيطان أو متعلقه أو خبر ثان للنجوى قيل أحزان المؤمنين بها أنهم يتوهمون أنها فى نكبة أصابتهم { وَلَيْسَ } الشيطان أو التناجى الذى يزينها ويأمر بها فى السوء وقيل ليس الحزن بضارهم ورد بأَن الآية لإِزالة الحزن وأُجيب بأَنه إِذا علموا أن هذا الحزن لا يضرهم إِلا بإِذن الله اندفع { بِضَارِّهِمْ شَيئًا } ضرا ما فهو مفعول مطلق ولا يجوز أن يفسر بشئ ما من الأَشياء وهو مفعول لأَنه يتعدى لواحد وقد أخذه وأُضيف إِليه { إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ } كموت قضاه الله وكغلبة العدو والضار فى الاستثناء هو ما قضاه الله لا تناجيهم فالاستثناء منقطع فإِن المضرة اللاحقة لهم بالتناجى غير اللاحقة لهم بما قضاه الله تعالى وإِن كان المعنى أن تناجيهم لا يغيظهم إِلا إن أراد الله تعالى أن يغيظهم كان متصلا { وَعَلَى اللهِ } لا على غيره ولا مع غيره متعلق بما بعده والفاء صلة { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } من توكل على الله تعالى لا يخب عمله ولا يبطل سعيه فلا يبالون بنجواهم وذلك إِزالة لحزن المؤمنين، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"إِذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان عن واحد" . رواه البخارى ومسلم وفى رواية زيادة حتى يختلطوا بالناس فإِن ذلك يسوؤه، ولفظ أبى داود عن ابن مسعود فإِن ذلك يحزنه أى فإِذا اختلطوا بالناس بأَن كانوا أربعة فصاعداً جاز تناجى اثنين عن اثنين فصاعدا. تناجى ابن عمر مع واحد فقال لرجل تناج أنت مع هذا فهم أربعة فإِن كانوا أربعة فلا يتناج ثلاثة عن واحد وهكذا لا يبقى واحد ومن ذلك أن يتكلم اثنان بلغة لا يعلمها الثالث أو يرمز فى كلامه أو يكتب إِليه.
{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا } توسعوا لأَخيكم فى الدين بضم ما انبسط من ثيابكم أو جسدكم لا بانتقال من موضعكم { فِي الْمَجَالِسِ } موضع الجلوس متعلق بقيل أو بتفسحوا وهو أولى لقربه وليشمل القول من خارج المجلس والمراد مجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وال للعهد وقيل مجالس القوم فهى للجنس كل أحد له مجالس، كما قرئ: وإِذا قيل لكم تفسحوا فى المجالس بالجمع { فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللهُ لَكُمْ } يجازيكم على فسحكم وسمى الجزاء فسحا مشاكلة لأَنه كان للفسح وهو مجاز لعلاقة اللزوم والتسبب أو الشبه بأَن شبه التوسع فى الخير بالتوسيع الحسى على طريق الاستعارة التبعية أو المراد يوسع الله لكم فى رحمته من كل ما تريدون من الدنيا والآخرة فحذف المفعول للعموم أو فى منازلكم فى الجنة أو فى قبوركم أو فى صدوركم أو فى رزقكم أقوال والأَول أولى وأنت خبير بأَن الفسح التوسعة الشاملة للحسية والعقلية كما فيه استعمال الكلمة المجازية فى معان متعددة كان - صلى الله عليه وسلم - فى الصفة، وقيل فيها يوم الجمعة وضاق الموضع وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأَنصار، فجاء ناس من أهل بدر منهم ثابت بن قيس بن شماء وقد قيل نزلت فيه إِذ كان ثقيل السمع وأراد القرب فأَبى بعضهم الفسح له فعيره ثابت فقاموا حيال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ويروى أيها النبى، فرد عليهم السلام وسلموا على القوم فردوا عليهم وداموا قائمين على أرجلهم ينتظرون أن يفسح لهم فقال - صلى الله عليه وسلم - لبعض من حوله قم يا فلان قم يا فلان بعدد من وقفوا فشق ذلك عليهم وعرفت الكراهة فى وجوههم وقال المنافقون ما عدل إِذ قدم من تأَخر حضوره فنزلت الآية وكانوا يتناجون فى القرب منه - صلى الله عليه وسلم - وقيل الآية فى تضامهم فى صف القتال رغبة فى الجهاد والشهادة وكانوا يتضامون فى صف القتال حرصاً على القتال لوجه الله عز وجل وعلى الشهادة والشجاع يحتاج إِليه خصوصاً، وقد قيل الآية فى مجالس القربات والقتال ومنها مجلس العلم والقرآن والذكر والوعظ والدعاء والجمهور على ما تقدم، فنقول بكل ذلك وفى كل مجلس للمباح أيضاً كما عم اللفظ ولو كان سبب النزول خاصاً.
{ وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا } ارتفعوا عن مجلسكم للقادمين من مواضعكم بالانتقال عنها { فَانشُزُوا } بنهوض لا ببطء وأصل النشز المرتفع من الأَرض، وليس كل مجلس فيه ارتفاع موضع عن موضع فالمراد ارتفاع عن موضعه، وهو ذهابه عنه أو سمى النهوض ارتفاعاً أو سمى الارتفاع نشزا لأَنه صعب على النفس كطلوع جبل، وهذا تأكيد لما قبله أو الأَول فى ضم الإِنسان نفسه وثيابه والثانى فى تحوله عن مجلسه.
وعن الحسن وقتادة والضحاك إِذا دعيتم إِلى قتال أو صلاة أو طاعة فأَجيبوا. وقيل إِذا قال لكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوموا عن المجلس فقوموا لحاجة دينية أو دنيوية أو حاجة لأَهله وأراد الانفراد لذلك أو مع بعض خاصته فقوموا وكذا غير النبى - صلى الله عليه وسلم - وإِذا ترتبت مفسدة على إِقامتهم فلا يفعل إِلا لمفسدة أعظم ولا يقيم أحد أحداً عن مجلسه فيقيم فيه إِلا السيد والزوج والأَب والأُم والأَجداد.
قال ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"لا يقيم الرجل الرجلَ عن مجلسه ولكن تفسحوا وتوسعوا" ويستثنى ما ذكرت ومن هوجر، وكل من لا يستحق الحضور فى المجلس وفى البخارى ومسلم عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقيمن أحدكم رجلاً عن مجلسه ثم يجلس فيه ولكن توسعوا وتفسحوا يفسح الله لكم" .
وفى مسلم عن جابر بن عبد الله موقوفاً عند بعض وفى رواية مرفوعاً إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إِلى مقعده فيقعد فيه" ، ولكن يقول أفسحوا. يوم الجمعة تمثيل بوقت الازدحام والمراد العموم لكل وقت ازدحام لطاعة أو مباح أو هو بفتح الجيم وإِسكان الميم فيعم، وقيل إِذا قال انهضوا إِلى الصلاة أو الجهاد أو خير ما، فانهضوا وكان رجال يتثاقلون عن صلاة الجماعة إِذا نادى المؤذن لها فنزل وإِذا قيل انشزوا فانشزوا.
{ يَرْفَعِ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ } الجزم فى جواب انشزوا والمعمول محذوف أى رفعه واحدة أى درجة واحدة بالنصر والجنة وحسن الذكر { وَالَّذِينَ أُوتُوالعلم } سواء حضروا المجلس وفسح لهم أو لم يحضروا وإِنما لم أعطف الذين على الذين ودرجات المذكورة على الدرجة المحذوفة، لأَن النشز ممن نشز ليس فعلاً من الذين أوتوا العلم اللهم إِلا باعتبار أنهم السبب فى نشز الناشز فكأَنه النشز فعلهم فيثابوا فيراعوا فى الجزم فى جواب الأَمر فيصبح ذلك العطف، ويجوز أن يكون الذين آمنوا والذين أوتوا العلم متحدين بالذات مختلفين بالصفة وهى الإِيمان وإِيتاء العلم فتنزل التخالف بالصفة منزلة التغاير بالذات فساغ العطف وساغ العطف أيضاً من وجه آخر هو أن العلماء فى الآية أريدوا بالتفسح لهم فهم مع سائر المؤمنين يضمهم مجلس ويتفسح لهم، وعلى كل حال فى تمييزهم تسهيل للتفسح لهم على النفوس إِذ كان من شأْنها كراهة التفضيل عليها ويحتمل أن درجات المذكور لهم جميعاً - بلا حذف فلعامة المؤمنين، لإِكراههم النفوس على ما صعب عليها من التفسح وللعلماء المتفسح لهم لعلمهم، وقد جاء من تواضع الله رفعه الله، وكما أن للعلماء رفعة يوم القيامة وفى الجنة على سائر المؤمنين تكون لهم رفعة فى المجلس فى الدنيا.
وقد قيل يحصل للعالم ما لا يحصل لغيره فإِنه يقتدى به فى أقواله وأفعاله كلها وشهر أنه يقتدى بقوله لا بفعله وعن أبى الدرداء مرفوعاً:
"فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على الكواكب" وجاء عنه - صلى الله عليه وسلم - "من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإِسلام فبينه وبين النبيين درجة" .
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بين العالم والعابد مائة درجة بين كل درجتين حضر الجواد المضمر سبعين سنة" ، وقال - صلى الله عليه وسلم - يجمع الله العلماء يوم القيامة فيقول إِنى لم أجعل حكمتى فى قلوبكم إِلا وأنا أريد لكم الخير، اذهبوا إِلى الجنة فقد غفرت لكم على ما كان منكم أى لموتكم تَائبين، ولو خلطوا عملا صالحاً وآخر سيئاً.
ويروى فى الأَثر: إِذا ورد المؤمن من باب الجنة قيل له ادخل وإِذا ورد المؤمن العالم قيل له قف اشفع للناس، وعن عبد الله بن عمرو ابن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -مَرَّ بمجلسين فى مسجده، أحد المجلسين يدعون الله ويرغبون إِليه والآخر يتعلمون الفقه ويعلمونه، فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"كلا المجلسين على خير وأحدهما أفضل من صاحبه" ، أما هؤلاء فيدعون الله ويرغبون إِليه، وفى رواية زيادة: فإِن شاء أعطاهم وإِن شاء ردهم، وأما هؤلاء فيتعلمون الفقه ويعلمون الجاهل فهؤلاء أفضل، وإِنما بعثت معلماً ثم جلس فيهم وكأَنه لا يرد المعلم والمتعلم فذلك مبالغة فى فضلهما، إِذ لم يقل فيهما إِن شاء أعطاهم وإِن شاء ردهم.
وعن معاوية سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول
"من يرد الله به خيراً يفقهه فى الدين" . رواه البخارى ومسلم، ومثله فى الترمذى عن ابن عباس، وروى عن قيس ابن كثير قدم رجل من المدينة على أبى الدرداء وهو بدمشق فقال: ما أقدمك يا أخى؟ قال: حديث بلغنى أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أما جئت لحاجة غيره؟ قال: لا. قال: أما قدمت فى تجارة؟ قال: لا. قال: ما جئت إِلا فى طلب هذا الحديث؟ قال: نعم. قال: فإِنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من سلك طريقاً يبتغي فيه علماً سلك الله به طريقاً إِلى الجنة وإِن الملائكة تضع أجنحتها رضاً لطالب العلم، وإِن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأَرض حتى الحيتان في الماء، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإِن العلماء ورثة الأَنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً، وإِنما أورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر" . رواه الترمذى وأبو داود، وكأَنه حديث شهر عن أبى الدرداء فعلم أبو الدرداء أنه مراد الرجل أو ذكر له الرجل بعضه فعلم مراده { وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } هذا تهديد لمن لم يمتثل الأَمر.