التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ ٱلرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٢
ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ ٱللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ ٱلصَّلاَةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَاةَ وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَٱللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ
١٣
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى ٱلْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
١٤
-المجادلة

تيسير التفسير

{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ } أردتم مناجاته { فقَدِّمُوا } الخ أكثروا التناجى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا سيما الأَغنياء لحبهم الفخر بالمناجاة ولو فى غير مهم، ويغلبون الفقراء على المجلس حتى ثقل عليه ذلك وأصابه الملل وكان سخى النفس لا يرد أحداً عن حاجة، فأَمرهم الله عز وجل أمر ندب وقيل إِنه أمر إِيجاب وأنه نسخ بقوله عز وجل أشفقتم على الصحيح وقيل بالزكاة أن لا يناجوه إِلا أن يقدموا صدقة تكون بيد النبى صلى الله عليه وسلم تعظيماً له - صلى الله عليه وسلم - ونفعاً للفقراء وإِزالة الشح عن النفس وتمييز للمخلص المحب للآخرة والمنافق المحب للدنيا وإِزالة لإِكثار المناجاة { بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ } شبه النجوى بالإِنسان ورمز إِليه بلازم الانسان وهو اليدان فذلك استعارة بالكناية، وإِثباتهما تخييل ووجه الشبه التوصل إِلى المقصود فإِنه يحصل بالنجوى كما يحصل باليدين فى جلب النفع بهما وبين ترشيح والمراد به حضور الصدقة عند إِرادة النجوى وإِعطاؤها قبل النجوى، وأولى من ذلك أن يكون فى ذلك استعارة تمثيلية { صَدَقَةً } تكون فى يده - صلى الله عليه وسلم - للفقراء وهو - صلى الله عليه وسلم - لا يأْكل الصدقة ولا تعطى فى الغيب ولو ممن لا يكذب تأْكيداً وسداً للذريعة أن يقول الإِنسان أعطيت ولم يعط ونكرها ليجزى القليل واستشار - صلى الله عليه وسلم - الإِمام علياً أترى ديناراً؟ قال: لا يطيقونه. قال: نصف دينار؟ قال: لا يطيقونه قال: فكم قال شعيرة أى موزونها فضة وقيل ذهباً فقال: إِنك لزهيد.
وروى الحاكم وغيره عنه إِن فى كتاب الله آية ما عمل بها أحد قبلى ولا يعمل بها أحد بعدى آية النجوى عندى دينار فبعته بعشرة دراهم وكلما أردت المناجاة قدمت درهماً ثم نسخت فلم يعمل بها أحد بعدى والنسخ على عشرة أيام عدد دراهم الإِمام على المذكورة كما قال مقاتل وسؤاله وصدقته فى عشرة أيام.
وعن قتادة بقيت الآية ساعة من النهار، وعليه فالسؤال والصدقة فى ساعة كل مسأَلة بدرهم. قال:
"قلت يا رسول الله: ما الوفاء؟ قال: شهادة أن لا إِله إِلا الله. قلت: وما الفساد؟ قال: الشرك بالله. قلت: وما الحق؟ قال: الإِسلام والقرآن والولاية إِذا انتهت إِليك. قلت: وما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة. قلت: وما علي؟ قال: طاعة الله ورسوله. قلت: وكيف أدعو الله؟ قال بالصدق واليقين. قلت: وماذا أسأَل الله تعالى؟ قال: العافية. قلت: وما أصنع لنجاة نفسي؟ قال: كل حلالاً وقل صدقاً. قلت: وما السرور؟ قال: الجنة. قلت: وما الراحة؟ قال: لقاء الله تعالى" . ويروى أن الأَغنياء أكثروا مناجاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى مل فنزلت الصدقة فشحوا بها، والفقراء لا يجدون ما يتصدقون به، فاستراح - صلى الله عليه وسلم - المدة المذكورة، وفى ذلك تعظيم له - صلى الله عليه وسلم - ولكلامه حتى لا يوصل إِليهما إِلا بالصدقة، وما لا يوصل إِليه إِلا بالمال أفضل، وقيل وقع النسخ قبل العمل ويرد القولين خبر على، وقد يترجح القول بالساعة بأَنه لو طالت المدة لشاركت الصحابة علياً فى ذلك لشدة رغبتهم فى الدين والسؤال عنه ومجالسته - صلى الله عليه وسلم - { ذَلِكَ } ما ذكر من تقديم الصدقة { خَيْرٌ لَّكُمْ } للثواب على الصدقة وعلى التصديق للوحى { وَأَطْهَرُ } لأَنفسكم بتعويدها صرف المال فى وجوه الخير وتنفيرها عن الرغبة فى إِمساكه { فَإِن لَّمْ تَجِدُوا } ما تتصدقون به { فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } مبيح لكم أن تناجوه - صلى الله عليه وسلم - بلا ندب إِليها ولا إِيجاب، ولكن ذكر الغفران والرحمة وقوله وتاب الله عليكم أظهر فى وجوبها على الواجد { أأشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا } من أن تقدموا وأشفق لازم كفزع.
وقدر بعضهم لام التعليل على تضمين أشفق معنى خاف وتعديته إِلى محذوف أى أخفتم الفقر لأَجل تقديم الصدقات، وفيه تكلف لا حاجة إِليه، وأجاز أن يكون أن تقدموا مفعول لأَشفقتم لتضمنه معنى خفتم، وأنت خبير أن الأَصل عدم التضمين.
وعلى كل حال عاب الله عليهم العجز عن أن يقدم كل واحد منهم تقديم صدقات متعددة مثل تسع وعشر عند كل إرادة نجوى، وكيف تعجزون عن الواحدة وهذا أولى مما قيل إِن المراد كل واحد بصدقة واحدة { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا } ما أمرتم به من الصدقة { وَتَابَ اللهُ عَلَيْكُمْ } أسقط عنكم الصدقة ضمن إِذ معنى إِذا وأجابها بقوله { فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ } كما قيل إِنها بمعنى الاستقبال فى قوله تعالى: إِذ الأَغلال فى أعناقهم، وزعم بعض أنها حرف هنا بمعنى أن الشرطية وإِن أبقيناها على المضى لم نجد لها متعلقا، إِذ لا تعلق وهى للماضى بأَقيموا وهو مستقبل إِلا إن اعتبر ما مضى وما يأْتى وقتا واحداً متسعاً، ويجوز أن تكون مفعولا به لمحذوف أى تذكروا ولا تنسوا وقت عدم فعلكم وتوبة الله عليكم وتداركوه وأجبروه بإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة والإِطاعة فإِن قوله أقيموا الخ على كل حال للتدارك وجبر ما فات، ودخل فى الطاعة جميع الطاعات ومنها التفسح { واللهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } ظاهراً وباطناً يجازيكم.
{ أَلم تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ } استفهام تعجيب من حال المنافقين الذين يتخذون اليهود أولياء وينقلون إِليهم أسرار المؤمنين ويناصحونهم، والقوم اليهود وغضب الخ نعت قوماً وعدى تر بإِلى لمعنى تنتظر { مَا هُم } ما هؤلاء الذين تولوا القوم { مِنْكُمْ } فى نفس الأَمر يا معشر المؤمنين ولو أظهروا لكم أنهم منكم { وَلاَ مِنْهُمْ } من القوم المغضوب عليهم وهم اليهود، إِذ ليسوا على دينهم أيضاً فهم منافقون بين اليهود والمؤمنين. قال - صلى الله عليه وسلم -
"مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين غنمين" أى المترددة لا تدرى بم تلحق وجوز ابن عطية أن يكون هم للقوم وهاء منهم للذين فيكون فعل المنافقين أخس، لأَنهم تولوا قوماً مغضوبا عليهم ليسوا من أنفسهم فيلزمهم ذمامهم، ولا من المحقين فتكون الموالاة صوابا.
وهذا لا يتبادر إِلا أنه يناسبه رد الضمير إِلى أقرب وجملة ما هم الخ نعت آخر لقوماً على قول ابن عطية، كما هو ظاهر وعلى ما مر لجواز الربط بما اتصل بالمعطوف { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ } عطف على تولوا فالتعجيب منسحب عليه ويجوز عطفه على ما هم منكم وعلى الكذب حال من الواو أو متعلق بيحلف أى ثابتين على الكذب أو يحلفون فى شأن الكذب والكذب هو فى حلفهم ويجوز أن يكون الكذب بمعنى المكذوب، به على أن المعنى على شئ غير واقع أنه واقع أو بالعكس.
{ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } حال من واو يحلفون وفيه تشنيع عليهم بما هو من غاية القبح وهو حلفهم على خلاف الواقع وهذا الحلف حلفهم أن الإِسلام حق وإِنما كان كاذباً لأَنه مخالف لاعتقادهم، وقيل حلفهم ما شتموا النبى - صلى الله عليه وسلم - قعد مع أصحابه فى ظل حجرة من حجره قال
"يأْتيكم إِنسان ينظر إِليكم بعينى شيطان فلا تكلموه، فجاء رجل أزرق فقال - صلى الله عليه وسلم -: علام تشتمني أنت وأصحابك فقال: ذرنى آتك بهم فأَتى بهم فحلفوا" فنزلت الآية، وعن ابن عباس فنزل يوم يبعثهم الله جميعاً الآيتين.
وفى رواية
"يدخل عليكم رجل قلبه قلب جبار وينظر بعينى شيطان فدخل عبد الله بن نبتل أزرق أسمر قصيراً خفيف اللحية فقال - صلى الله عليه وسلم -: علام تشتمني" إِلى آخر ما مر وهو ابن الحارث بن قيس الأَنصاري الأَوسي، وقيل هو صحابى ولعل القائل به لم يعلم بنفاقه أو علم بتوبته من نفاقه أو أراد أنه صحابى فى الظاهر.