التفاسير

< >
عرض

لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ ٱللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ
١٣
لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ
١٤
كَمَثَلِ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٥
كَمَثَلِ ٱلشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ ٱكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنكَ إِنِّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلْعَالَمِينَ
١٦
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي ٱلنَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَآءُ ٱلظَّالِمِينَ
١٧
-الحشر

تيسير التفسير

{ لأَنْتُمْ } أيها المؤمنون { أشَدُّ رَهْبَةً } إِرهابا فهو اسم مصدر فالرهبة فعل للمؤمنين لأَنه بمعنى الإِرهاب الذى هو مصدر من المبنى للفاعل ويجوز أن يكون مصدرا من المبنى للمفعول الثلاثى لأَن المؤمنين مرهوبون لا راهبون { فِي صُدُورِهِم } صدور اليهود أو المنافقين أو الفريقين { مِنَ اللهِ } أى إِرهابكم إِياهم أشد عندهم من إِرهاب الله لهم أو رهبتهم منكم أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله عز وجل، وكانوا يظهرون لهم رهبة شديدة من الله عز وجل، واعلم أن تقديم عزة الله على جلاله أولى لتقدمها فى الحديث القدسى، كما مر فى قوله تعالى: وعزتى وجلالى، ولم يقل وجلالى وعزتى، والأَولى أن المعنى تخيفونهم أكثر مما يخيفهم الله عز وجل عندهم، أو يخافونكم أشد مما يخافون الله عز وجل، وفى ذكر الصدر مع أن الخوف لا يكون إِلا منه مبالغة كقولك: هذا ما كتبته بيدى، وهذا مما رأيته بعينى وهذا مما سمعته بأُذنى.
{ ذَلِكَ } المذكور من كونكم أشد إِرهابا لهم من الله عندهم أو كونهم أشد لكم رهبة منه تعالى { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } عظمة الله عز وجل فلم يخشوه حق خشيته، { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ } أى اليهود أو هم والمنافقون فبهذا ضعف ودهاء صدورهم إِلى المنافقين وحدهم { جَمِيعًا } حال من الواو لا من الكاف، أى لا يقدرون على قتالكم مع أنهم مجتمعون { إِلاَّ فِي قُرًى } حال، أى إِلا فى حال أنهم فى قرى أو متعلق بيقاتل، أى لا يستعملون إِليكم إِلا فى قرى وخوفهم شديد بحيث يصدق عليهم قول المتنبى:

وضاقت الأَرض حتى صار هاربهم إِذا رأى غير شئ ظنه رجلا

وقول بعض:

ما زلت تحسب كل شئ بعدهم خيلا تكر عليهم ورجالا

{ مُحَصَّنَةٍ أوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ } فكيف يقاتلونكم غير مجتمعين أو فى غير قرى أو فى قرى غير محصنة لقذف الله عز وجل الرعب فى قلوبهم ومزيد رهبتهم والتحصين بالخنادق والدروب والشوك ونحو ذلك، والجدر الحيطان أو جذوع النخل القائمات فإِن النخل مما يستتر به.
{ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } إِذا تقاتلوا ولكن خوفهم الله عز وجل منكم، والجملة مستأنفة أو حال وبين متعلق بشديد قدم للحصر والفاصلة، أو حال من ضمير شديد { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا } مجتمعين بقلوبهم ذوى أُلفة واتحاد { وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى } متفرقة لا أُلفة بينهم لعداوة وحقد بينهم فليسوا يقاتلونكم بيد واحدة ففيهم ضعف وافتراق فلا تخافوهم، فكأَنكم تقاتلون عدداً أقل مما ترون من عددهم، وكأَنه فيهم من يعينكم لتعاديهم فيما بينهم، وهذا تجسير للمؤمنين عليهم والجملة حال من ضمير تحسب والربط بواو الحال أو من الهاء والربط بواو الحال والضمير، وشتى جمع شتيت وألفه للتأَنيث، وقيل المراد أن دين المنافقين وآراءَهم يخالف دين اليهود وآراءهم.
{ ذَلِكَ } الأَمر البعيد فى الجملة عن الخير، وهو تشتت القلوب الذى تزول به شوكتهم المركوزة فيهم بالخلقة { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { قَوْمٌ لاَ يَعْقِلُونَ } طريق نفع أنفسهم وهى الأُلفة والاتفاق ويضعف أن يقال: لا يعقلون أن تشتت القلوب يوهن قواهم.
{ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } خبر لمحذوف أى مثل اليهود من بنى النضير أو اليهود والمنافقين كمثل الكفار المقتولين ببدر قبلهم، أو كمثل بنى قينقاع من اليهود الذين حول المدينة غزاهم النبى - صلى الله عليه وسلم يوم السبت على رأس عشرين شهراً من الهجرة فى شوال قبل غزوة بنى النضير الواقعة فى ربيع سنة أربع وأجلاهم إِلى أذرعات، أو مثل قريظة كمثل بنى النضير وبينهما سنتان، أو مثل هؤلاء المنافقين كمثل منافقى الأُمم الماضية، وهو ضعيف. إِذ ليس فى الكلام تلويح إِلى منافقى الأُمم الماضية، وهو ضعيف. إِذ ليس فى الكلام تلويح إِلى منافقى الأُمم ولأشهر اسم المنافقين فيهم { قَرِيبًا } زماناً قريبا متعلق بما تعلق به من قبلهم أو بمن قبلهم، أى ثبتوا أو مضوا من قبلهم فى زمان قريب منهم فإِن قتلى بدر وقينقاع، متقدمون قبلهم بزمان قليل فلهم أُسوة بهم فى الإِهلاك.
ويجوز تعليقه بقوله عز وجل { ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أى ذاقوا سوء عاقبة كفرهم فى زمان قريب من زمانهم أو لا بد من تعليقه بذاقوا إِذا فسرنا الذين من قبلهم بمنافقى الأُمم الماضية، وهذه الجملة مستأنفة تفسير للمماثلة فى العذاب والصلة من قبلهم أو هى الصلة ومن قبلهم متعلق بقالوا { وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ } فى الآخرة لا يعلم قدره فى العظم إِلا الله تعالى والجملة معطوفة على ذاقوا عطف لسببية على فعلية أو حال مقارنة من واو ذاقوا لأَن ثبوت العذاب لهم مستمر أزلى.
{ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ } خبر لمحذوف أى مثل المنافقين كمثل الشيطان ومثلهم قبل هذا بنو النضير، وأُجيز أن يكون مثلهم المقدر هنا ومثلهم المقدر قبل هذا الفريقين أو كمثل خبر ثان للمبتدأ المقدر فى قوله عز وجل: كمثل الذين، أى مثل الفريقين كمثل الذين الخ. وكمثل الشيطان إِلا أن مثل الذين عائد إِلى بنى النضير ومثل الشيطان عائد إِلى المنافقين كأَنه قيل: مثل الذين كفروا من أهل الكتاب فى حلول العذاب كمثل الذين من قبلهم، ومثل المنافقين فى الإِغراء على القتال كمثل الشيطان { إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ } مرغبا له فى الكفر { اكْفُرْ } بالله عز وجل وما يجب الإِيمان به، والإِنسان الجنس وكذا الشيطان، وقيل الشيطان إِبليس والإِنسان أبو جهل، والجمهور على الأول.
ولم يقل له قولا باللسان مسموعا بالآذان بل زين ووسوس فالقول استعارة تمثيلية أو مفردة، وعلى التفسير بإِبليس وأبى جهل يكون القول حقيقة، وعليه فمعنى اكفر: دم على الكفر أو زد منه أو ذلك تمثيل { فَلَمَّا كَفَرَ } الإِنسان { قَالَ } الشيطان { إِنِّي بَرِئٌ مِّنْكَ } من كفرك لا يصيبنى ما يصيبك ولا وصلة بيننا، ولا ترج أن أدفع عنك عقاب كفرك. { إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } أى أخاف عقابه على الكفر فى الدنيا قبل الآخرة، وقيل فى الآخرة وهو الأَوفق بقول الجمهور: إِن الإِنسان والشيطان الجنس ولا حجة لهم فى قوله عز وجل: { إِني أخاف الله رب العالمين }، لأَن عذاب الدنيا يخاف كما يخاف عذاب الآخرة.
وقد روى أن إِبليس تصور بصورة إِنسان وقال لأَبى جهل يوم بدر: لا غالب لكم اليوم من الناس، وإِنى جار لكم ولما شاهد الملائكة، ورأى ما رأى قال: إِنى برئ منكم، إِنى أرى مالا ترون، إِنى أخاف الله... الآية.
لما وقع من برصيصا ما وقع على ما يأْتى قريبا إِن شاء الله تعالى، كان الرهبان فى كتمان وهوان حتى صار من جريج ما كان، رجعوا فى عز كما فى مسلم مجموعا، وفى البخارى مفرقا عن أبى هريرة عنه - صلى الله عليه وسلم -
"أنه نادت جريجاً أُمه في ثلاثة أيام فيقول يا رب أُمي وصلاتي فيقبل على الصلاة فدعت عليه أن لا يموت حتى ينظر في وجوه الزواني، وذكر بنو إِسرائيل عبادته فقالت امرأة جميلة جداً أنا أفتنه، فتعرضت له وأعرض عنها وأمكنت نفسها من راعٍ يأوي إِلى صومعته، وجروه وجعلوا يضربونه، فقال: لم ذلك؟ فقالوا: زنيت بفلانة الزانية وولدت منك. فقال: أين الصبي؟ فجاءُوا به، فقال: دعوني أُصلي. فلما صلى طعن في بطن الغلام وقال: من أبوك؟ قال: فلان الراعي فقبلوه وتمسحوا به وقالوا: نبني صومعتك بالذهب. قال: بل بالطين كما كانت، ومر رجل بصبي يرضع فقالت أُمه: اللهم اجعل ابني مثله، وكان حسن الهيئة وترك الرضاع ونظر إِليه فقال اللهم لا تجعلني مثله، فرجع إِلى الرضاع. قال أبو هريرة كأَني أنظر إِليه - صلى الله عليه وسلم - يحكى رضاعه بإِصبعه السبابة في فيه.
ومر بجارية تُضرب ويقال: زنيت وسرقت وتقول: حسبي الله ونعم الوكيل، فقالت أُمه: اللهم لا تجعل ابني مثلها فترك الرضاع ونظر إِليها فقال: اللهم اجعلني مثلها، والرجل جبار والأَمة بريئة"
. وفى الآية السابقة تشبيه حال المنافقين بحال الشيطان يوم بدر.
وفى القصص أن برصيصا كان يتعبد فى صومعته فجاءه رجال بأُختهم أصابها جنون، ليدعو لها بالشفاء فزنى بها وحملت وقال إِبليس اقتلها لئلا تفتضح، وأخذوه للقتل، فقال له إِبليس: أنا الذى زينت لك الزنى بها والقتل فاسجد لى سجدة أنجك فسجد له، فقال: إِنى برئ منك، إِنى أخاف الله رب العالمين.
وعلى هذا فخوف الله تعالى تقوى يدعيها إِبليس كذبا أو رياء، إِذ لا يدرى الناس أنه إِبليس. ويروى أن برصيصا عَبَدَ الله فى صومعته سبعين عاما لم يعص الله تعالى فيها وذلك فى الفترة، وأعيا إِبليس فجمع مردته، فقال الأَبيض منهم: أنا أضله وحلق وسط رأسه كالراهب فنادى برصيصا ولم يجبه، وكان لا ينفتل عن صلاته ولا يفطر إِلا بعد عشرة أيام، فبعدها اشرف عليه فرآه يصلى فندم على ترك إِجابته وقال له وما حاجتك كنت مشغولا. قال: أُريد أن أعبد معك وأتعلم منك العبادة وتدعو لى وأدعو لك. فقال: إِنى فى شغل عنك، إِن كنت مؤمنا جعل الله لك نصيبا فى دعائى، وأشرف عليه بعد أربعين ورآه يصلى على حاله الأُولى، قال: ما حاجتك قال: أكون معك. ففتح له لشدة اجتهاده وكان معه لا يفطر ولا ينفتل عن صلاته إِلا بعد أربعين يوما وقد يتم ثمانين، ولما تم الحول قال: بلغنى عنك أكثر مما رأيت، فأَنا ذاهب إِلى صاحب لى وكره برصيصا فرقته لشدة اجتهاده ووادعه وقال أعلمك كلمات تشفى بها المرضى والمجنون، خيرا لك من ذلك. وقال: لا لأَن الناس يشغلوننى فى ذلك، فما زال به حتى قبل تعليمه. فقال لإِبليس قد أهلكته فخنق رجلا وقال لأَهله أُعالجه فأَظهر أنه لم يقدر عليه، ودلهم على برصيصا فدعا بتلك الكلمات فخرج الأَبيض عنه وكان يفعل ذلك بالناس، وخنق بنت الملك فأَرشدهم إِلى برصيصا. فقالوا: لا يجيبنا إِلى ذلك. قال: ابنوا لها صومعة بجنب صومعته وقولوا هذه أمانة عندك، فرآها فأَعجبته وخنقها فدعا برصيصا وخرج الأَبيض وأقبل على صلاته ثم خنقها الأَبيض أيضا وعالجها برصيصا، وكانت تتعرض له، فقال له واقعها وتب فحملت منه. وقال له: اقتلها وتب وقل لهم ذهب بها شيطانها وادفنها بجانب الجبل لئلا تفتضح ففعل فجبذ الأَبيض طرف إِزارها فجاءُوا، وقال ذهب بها شيطانها وصدقوه، فقال الأَبيض فى النوم لأَخيها الأَكبر: زنى بها برصيصا وحملت منه وقتلها ودفنها فكذبه. وجاء للأَوسط كذلك فكذبه ثم الأَصغر فأَخبرهما وقالا رأينا ما رأيت، فقالوا لبرصيصا: أين أُختنا؟ فقال قد أخبرتكم فهل اتهمتمونى؟ قالوا: لا والله فرجعوا. وجاءهم الأَبيض وقال: إِنها تحت جبل كذا وإِن طرف إِزارها ظاهر، وعاينوا ذلك فهدموا صومعته وكتفوه وصلبه الملك، وقال له الأَبيض: أقر لهم لئلا يجتمع عليك القتل وانكاره وقد زنيت وقتلت وفضحت أمثالك، وأنا صاحبك الذى علمك الكلمات، قال: فما الحيلة؟ قال: اسجد لى أحلك وأغيبك، قال: لا أقدر. قال: اسجد لى بطرفك، ففعل، فقال: هذا الذى أُريد منك { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا } خبر مقدم { أَنَّهُمَا فِي النَّارِ } أبداً { وَذَلِكَ } الخلود فيها { جَزَاءُ الظَّالِمِينَ } جزاء من ذكر ولم يضمر ليذكرهم بالظلم الموجب للخلود أو الظالمين الجنس أو الاستغراق فيدخل المذكورون بالأَولى.