التفاسير

< >
عرض

سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَخْرَجَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ ٱلْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ ٱللَّهِ فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي ٱلْمُؤْمِنِينَ فَٱعْتَبِرُواْ يٰأُوْلِي ٱلأَبْصَارِ
٢
-الحشر

تيسير التفسير

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. سَبَّحَ للهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ } مثل أول سورة الحديد إِلا أن هنا تكريرا ما، زيادة فى التأَكيد والتنبيه على استقلال ما فى السماوات بالتسبيح واستقلال ما فى الأَرض بالتسبيح { هُوَ الَّذِي أخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكِتَابِ } من للتبعيض متعلق بمحذوف حال من الذين. { مِن دِيَارِهِمْ } من للابتداء متعلق بأَخرج والآية بيان لبعض آثار قدرته تعالى، والذين كفروا بنوا النضير قبيلة عظيمة من يهود خيبر ويقال لها ولقريظة الكاهنان لأَنهما من ولد الكاهن هارون، خرجوا من الشام إِلى قريب من الشام انتظارا لخروج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليؤمنوا به ويعينوه ولم يؤمن به - صلى الله عليه وسلم - من أدركه من ذريتهم إِلا قليل. وقيل إن موسى عليه السلام أرسلهم إِلى قتل العمالقة كلهم ولم يقاتلوا ورجعوا وقد مات وردهم بنو إِسرائيل عن الشام لأَنهم عصوا موسى عليه السلام فسكنوا الحجاز.
يروى أنه لما دخل النبى - صلى الله عليه وسلم - المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه ولا يقاتلوا معه، ولما ظهر - صلى الله عليه وسلم - على المشركين يوم بدر قالوا له: الذى نجده فى التوراة لا ترد له راية ولما هزم المسلمون فى أُحد ارتابوا ونقضوا الصلح وركب كعب ابن الأَشرف فى أربعين إِلى مكة وتواثقوا مع أربعين من قريش فيهم أبو سفيان تحت أستار الكعبة فأَوحى الله تعالى إِليه - صلى الله عليه وسلم - بذلك وأمره بقتل كعب فقتله محمد بن مسلمة غيلة، ومن قبل ذلك أتاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يستعينهم فى دية المسلمين اللذين قتلهما عمرو بن أُمية الضميري فى منصرفه من بئر معونة فهموا بطرح حجر عليه من الحصن فأَخبره الله تعالى فرجع إِلى المدينة فكتب إِليهم أن قد نقضتم العهد ولما قتل كعب أمر - صلى الله عليه وسلم - الناس بالمسير إِلى بنى النضير وهم فى قرية تسمى زهرة ووجدهم ينوحون على كعب فقالوا يا محمد واعية بغد واعية وباكية بعد باكية. فقال: نعم، قالوا: دعنا نبك وافعل أمرك وكتب إِليهم: اخرجوا من القرية فقالوا: الموت أقرب من ذلك وتنادوا بالحرب، وكتب إِليهم أُبى بن سلول ومن معه لا تخرجوا نقاتل معكم وإِن أُخرجتم خرجنا معكم ودربوا على الأَزقة وحصنوها، فقالوا له بقصد الغدر.
أخرج إِلينا فى ثلاثين ونخرج إِليكم فى ثلاثين فإن صدقوك آمنا، ففعل ثم قالوا: كيف نصل إِليه وهو فى ثلاثين كل واحد يفديه بنفسه فكتبوا إِليه كيف يفهم الكلام فى ثلاثين مع ثلاثين، ولكن ثلاثة منا وثلاثة منكم وأعدوا الخناجر، وكتبت يهودية بذلك إِلى أخيها من الأَنصار وهو مسلم فسارع إِليه - صلى الله عليه وسلم - فأَخبره سرا قبل أن يصل فرجع - صلى الله عليه وسلم - فصبحهم بالكتائب وحصرهم إِحدى وعشرين ليلة وأمر بقطع نخلهم فقذف فى قلوبهم الرعب وأيسوا من ابن أبى سلول فصالحهم على أن يخرجوا بما حملت إِبلهم إِلا السلاح.
وعن ابن عباس على أن يحمل أهل كل بيت على بعير ما شاءُوا وقيل لكل ثلاثة نفر بعير وسقاء ففعلوا إِلى أدرعات وأريحا من الشام إِلا آل أبى الحقيق وآل ابن أخطب فلحقوا بخيبر وطائفة بالحيرة وذلك فى مرجعه - صلى الله عليه وسلم - من أُحد وفتح قريظة فى مرجعه من الأَحزاب وبينهما سنتان، وليس الذين كفروا فى الآية بنى قريظة كما قال الحسن إِنهم بنى قريظة ومن الغريب ما قيل إِن هو مستعار لاسم الإِشارة إِذ لا دليل على ذلك ولا داعى فإِن كان الداعى تكلف اسم مشعر بالعزة والحكمة مثل قولك ذلك المتصف بالعزة والحكمة فإِنه يكفى فى ذلك رد الضمير إِلى الله الموصوف فى الآية بالعزة والحكمة.
{ لأَوَّلِ الْحَشْرِ } السلام للتوقيت كقولك كتبته لخمس مضين وفيها معنى فى ولم تخل عن التلويح إِلى أصلها وهو الاختصاص فإِن ما وقع فى وقت مخصوص بذلك الوقت، كذا قيل قلت بل مفيد الاختصاص مدخولها دونها، وقيل للتعليل ويرده أن الإِخراج هو أول الحشر فهو تعليل للشئ بنفسه والحشر حشرهم إِلى الشام قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"اخرجوا. فقالوا إِلى أين؟ قالوا إِلى أرض المحشر" ومعنى كونه أولا أنه لم يصبهم إِخراج إِليها قبل وليس هناك إِخراج ثان واعترض هذا بأَن بختنصر قد أخرجهم فما معنى الآية قلت: بختنصر أخرجهم عن الشام وهذا إِخراج إِليه وأيضا الأَولية فى الإِسلام وبختنصر قبل وأيضا المخرجون فى الآية لم يكونوا على عهد بختنصر بل غيرهم وليسوا من ذرياتهم وقد قيل إِن بختنصر أخرجهم من الشام إِلى جزيرة العرب وهم غير الذين أخرجهم بنو إِسرائيل المذكورين آنفاً لما خالفوا موسى بعد موته وقيل للحشر الأَول المذكور فى الآية حشر ثان هو إِخراج عمر إِياهم من أرض العرب إِلى الشام وقيل حشرهم يوم القيامة من قبورهم إِلى الشام لأَنه أرض المحشر، وقيل الحشر الثانى حشر لهم ولغيرهم بنار تخرج من أقصى عدن إِلى المغرب وهو الشام عند قرب الساعة، وقيل المراد بالحشر الأَول حشره - صلى الله عليه وسلم - المسلمين لقتال اليهود ولو لم يحشر المسلمين كلهم إِليه بل جملة منهم فقط حتى أنه مشى - صلى الله عليه وسلم - على حمار مخطوم بليف لعدم اكتراثه بهم، وقيل المراد حشر اليهود أنفسهم ليقاتلوا المسلمين وقد نسخ الحشر للمشركين الكتابيين والمجوس إِلى غير بلدهم بالإِسلام وإِلا فالجزية وإِلا فالقتل وأما غير هؤلاء فالإِسلام أو القتل.
{ مَا ظَنَنْتُمْ } أيها المسلمون { أنْ يَخْرُجُوا } لشدة بأسهم فيما قيل ووثاقة حصونهم وكثرة عددهم وعدتهم كما أشار الله عز وجل إِلى منعة حصونهم، وقوتها بقوله { وَظَنُّوا أنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ } خبر سببى { حُصُونُهُم } فاعل مانعتهم أو مانعتهم خبر لحصونهم والجملة خبر أن لمبتدأ خبره حصونهم، لأَن فيه إِخبارا بالمعرفة عن النكرة وهى مانعتهم لأَن إِضافته لفظية لأَنه للاستقبال وكأَنه منون ناصب للضمير بعده كأَنه قيل إِياهم مانعة ولم يقل وظنوا أن لا يخرجوا مع أنه أنسب بقوله ما ظننتم أن يخرجوا بل قال وظنوا أنهم الخ لتفاوت الظنين، ظن المؤمنون أن اليهود لا يخرجون وظن اليهود أن حصونهم مانعة فإِن واو ظنوا لليهود وظنهم قريب من يقينهم فجئ بالجملة الاسمية، وقدم مانعتهم على أنه خبر مقدم تأَكيدا بالحصر أى ما حصونهم إِلا مانعة. وفى قول بعض فى مثل هذا الحصر إِن المعنى لا مانع إِلا حصونهم { مِنَ اللهِ } من بأس الله عز وجل وذلك لقوة جهلهم حتى صاروا فى نوع من الإِشراك وهو ظنهم أنهم مانعتهم حصونهم من حزب الله تعالى وهم النبى والمؤمنون، ولا يجوز أن يكون واو ظنوا للمؤمنين لأَن المؤمنين لا يظنون أن شيئا ما من الأَشياء يمنع من الله عز وجل ولولا لفظ من الله لاحتمل أن يظنوا أن اليهود تمنعهم من الفتح إِلا إِذا أخبرهم الله عز وجل أنها تفتح وحصونهم ستة: الكتيبة بالتصغير والوطيح بفتح الواو وبالحاء المهملة والسلالم بضم السين وفتحها وكسر اللام بعد الأَلف بلا ياء بعد اللام وبالياء والنطاوة والوحدة وشفا { فَأَتَاهُمُ اللهُ } كناية عن إِخزائهم وأخراب ملكهم أو يقدر مضاف أى أتاهم أمر الله عز وجل { مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا } لم يخطر ببالهم وذلك أنه قتل رئيسهم كعب بن الأَشرف فإِنه زال أمنهم وطمأنينتهم بقتله وكسرت شوكتهم وقيل هاء أتاهم وواو لم يحتسبوا للمؤمنين وأن المراد أتاهم نصر الله من حيث لم يحتسبوا ويرده أن الضمائر قبله فى قوله تعالى وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم والضمائر بعده فى قوله: وقذف فى قلوبهم الخ لليهود، وفى رد الهاء والواو بينهما للمؤمنين تفكيك الضمائر بلا داع ولا دليل { وَقَذَفَ } القذف الرمى الشديد أو الرمى من بعيد والمراد هنا الإِثبات الشديد استعارة من الحسى للعقلى وهو إِثبات الرعب فى قلوبهم.
{ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ } الخوف الشديد من رعبت الحوض إِذا ملأته. كذا قيل ووجهه أن ملء الحوض حسى وملء القلب عقلى والحسى أقوى ولذا لم يجعل رعب الحوض مأخوذا من رعب القلب. { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ } يهدمونها ليسدوا بحجارتها وطوبها وخشبها أفواه الطرق عن المؤمنين ولئلا ينتفع المسلمون بسكناهم بعدهم وليرحلوا بما رغبوا فيه من عمود وباب ونحوه. قيل وليرموا المؤمنين بما نقضوا وليخرجوا من باطن إِلى ظاهر والمؤمنون يخربون من ظاهر وهذا أمر عجيب إِلا أن الرمى للقتال ولا قتال ولعلهم خافوا القتال أو ربما قاتلوا أو العامة أو بعضهم لا يعلمون بحقيقة الصلح، وكذا قول اليهود دعوا النخل لمن غلب عليه، يدل على وقوع القتال ولعله كان قتالا خفيفاً ثم أذعنوا للصلح. { وَأيْدِي المؤمِنِينَ } لأَنهم يخربونها من خارج ليدخلوا على اليهود وليزيلوا تحصنهم ويتسع المجال للقتال ولزيادة الانتقام منهم وأسند إِخراب أيدى المؤمنين إِليهم لأَنهم السبب بكفرهم ففى قوله تعالى يخربون جمع بين الحقيقة والمجاز، فإِخرابهم بأَنفسهم حقيقة وإِخرابهم بيوتهم بأَيدى المؤمنين مجاز أو يحمل على عموم المجاز بمعنى يضرون أنفسهم والجملة مستأنفة بيان للازم الرعب، فإِن الإِحزاب من لوازمه أو بولغ فى رعبهم حتى أنه نفس الإِخراب فيكون تفسيرا له، والأَول أولى أو مستأنفة جواب لسؤال كأَنه قيل ما حالهم بعد الرعب أو مع الرعب فأُجيب بأَنهم يخربون ويصح أن تكون حالا من هاء قلوبهم ولو مضافا إِليها لأَن المضاف جزء من مضمونها { فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ } اتعظوا بما صار فيهم من الأُمور الغريبة وأنواع الانتقام منهم لكفرهم وغدرهم واعتمادهم فى ذلك أيضا على غيرهم من الناس وعلى حصونهم.