التفاسير

< >
عرض

وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمُ ٱلْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ عَذَابُ ٱلنَّارِ
٣
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ ٱللَّهَ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤
مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً عَلَىٰ أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ ٱللَّهِ وَلِيُخْزِيَ ٱلْفَاسِقِينَ
٥
وَمَآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٦
مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ ٱلأَغْنِيَآءِ مِنكُمْ وَمَآ آتَاكُمُ ٱلرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَٱنتَهُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٧
لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصَّادِقُونَ
٨
وَٱلَّذِينَ تَبَوَّءُوا ٱلدَّارَ وَٱلإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
٩
وَٱلَّذِينَ جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا ٱغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا ٱلَّذِينَ سَبَقُونَا بِٱلإِيمَانِ وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ
١٠
أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ
١١
لَئِنْ أُخْرِجُواْ لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ
١٢
-الحشر

تيسير التفسير

{ وَلَوْلاَ أن كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ } قضى الله وأن خفيفة لا مخففة لعدم قد أو السين أو سوف أو الجملة الاسمية أو الفعل الجامد بعدها والمصدر المؤول مبتدأ أى ولولا كتْبُ اللهِ بإِسكان التاء وضم الباء وجر الهاء { الْجَلاَءَ } الخروج عن أوطانهم من جلا اللازم يقال جلا أى خرج أو الإِخراج من جلا المتعدى جلاه أى أخرجه ويعدى اللازم أيضا بالهمزة، وقيل الجلاء والإِجلاء مع الأَهل والولد والإِخراج معهما ودونهما وقيل الجلاء والإِجلاء لجماعة والإِخراج لها أو لواحد { لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا } بالقتل ومشاهدته قبله كما فعل بأَهل بدر وكما فعل سنة خمس بقريظة إِذ اقتضته الحكمة { وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ } هذا وقوله لولا أن الخ. معطوفان على يخربون إِذا لم يجعل يخرجون تفسيرا للرعب أو للأَزمة إِذ ليسا معنى للرعب ولا للأَزمة كما أن يخربون تفسير له أو للأَزمة ويقال الجلاء أشد عليهم من القتل ولا يخفى أن القتل أشد بالطبع ولأَنهم يصلون به إِلى عذاب الآخرة فى قبورهم وما بعد قبورهم ولكن قبحهم الله لا يعتقدون أنهم معذبون فى القبور وبعدها، وأيام الحياة بعد الجلاء قلائل كالعدم مع تنغصها بمفارقة الوطن والتغرب وإِن اعتقدوا عذاب القبر وما بعده فقد أعرضوا عنه لقسوة قلوبهم { ذَلِكَ } النازل بهم وما سينزل بهم فى الآخرة { بِأَنَّهُمْ } بسبب أنهم { شَاقُّوا اللهَ وَرَسُولَهُ } خالفوا الله ورسوله بارتكاب ما نهوا عنه مع الإِصرار عليه { وَمَنْ يُشاقِّ } كان هؤلاء أو غيرهم { اللهَ } أى ورسوله فذلك من باب الاكتفاء لدليل قوله تعالى شاقوا الله ورسوله، أو لا حذف لأَن مشاقة الله عز وجل مشاقة لرسوله - صلى الله عليه وسلم ووجه الحذف أو عدم التقدير أصلا أن شدة العذاب فى قوله تعالى { فَإِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } مختصة بالله تعالى وإِسناد التعذيب إِلى الله عز وجل دون ذكر مخلوق معه ولو أفضل الخلق - صلى الله عليه وسلم - أهول من ذكره مع المخلوق والرابط محذوف أى فإِن الله شديد العقاب له أو الجواب محذوف أى يعاقبه الله نابت عنه علته، أى يعاقبه لأَن الله شديد العقاب، كذا قيل وفيه أن المقدر لا يعلل بشدة العقاب بل بمطلق العقاب المعتاد المطلق للعصاة أى يعاقبه لأَن شأنه ترك الإِهمال وليس هذا فى الآية إِلا إِن أُريد فى الآية الشدة باللزوم وترك الإِهمال وهو تكلف وإِن قدر يشدد عقابه، لأَن الله شديد العقاب ناسب { مَا قَطَعْتُم } أيها المؤمنون { مِن لِّينَةٍ } بيان لما، فهو نعته واللينة النخلة مطلقا ولو عجوة أو برنيا. وعن ابن عباس النخل كله لينة إِلا العجوة، وأهل المدينة يسمون ما عدا العجوة من النخل الأَلوان وقيل النخل كله لينة إِلا العجوة والبرنى، وعن ابن عباس: اللينة نوع من النخل. وعن ابن عباس وجماعة: النخلة التى ليست عجوة، وقال سفيان: النخلة التى تمرها شديد الصفرة، وزعموا أن منها نوعا يظهر نواه يغيب فيها ضرس، والنخلة منه أحب إِليهم من وصيف، وقيل أنواع النخل المختلط الذى ليس فيه عجوة ولا برنى، وقال جعفر الصادق هى العجوة، والأَصمعى الدقل، وقيل النخلة القصيرة وعن سفيان الكريمة من النخل والياء عن واو قلبت لانكسار ما قبلها.
{ أوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا } ضمير النصب عائد إِلى (ما) وأنث لأَن (ما) واقعة على لينة كما مر. ومعنى تركها قائمة على أُصولها إِبقاؤها بلا تغيير فلو قطع قلبها أو جذعها من غير أصله لم يصدق أنها قائمة كلها على أُصولها لذهاب بعضها { فَبِإِذْنِ اللهِ } فما ذكر من قطع وترك بإِرادة الله أو بأَمره بأَن أوحى إِليه - صلى الله عليه وسلم - إِباحة القطع فقطع بعضا دون بعض فيجوز إِحراق نخل الكفار وشجرهم وقطعها وهدم ديارهم وطمس مياههم وإِفساد زرعهم وإِن ظهرت مصلحة فى إِبقاء ذلك أبقى، وأفادت الآية والأَحاديث جواز إِحراق شجر المشركين وقطعها وهدم ديارهم وما أشبه ذلك { وَلِيُخْزِىَ الفَاسِقِينَ } عطف علة على سبب لتقارب العلة والسبب ولا يختص ذلك بهما بل يجوز عطف الجار والمجرور على الجار والمجرور مطلقا، ولو اختلف المعنى نحو جلست فى الدار وعلى سطحها ويجوز عطفه على محذوف متعلق بمحذوف مقدم أى إِذن الله عز وجل فى القطع ليعز المؤمنين وليخزى الفاسقين أو بمحذوف مؤخر، أى ليعز المؤمنين وليخزى الفاسقين إِذن فى القطع أو العطف على محذوف متعلق باستقرار بإِذن الله أو فثابت بإِذن الله ليعز المؤمنين وليخزى الفاسقين والمراد بالفاسقين الكافرون من أهل الكتاب، فمقتضى الظاهر وليخزيهم وأظهر ليصفهم بالفسق ذما لهم وتصريحا بموجب الإِخزاء وهو الفسق والمراد أخزاهم بقطع نخلهم بأَيدى أعدائهم وتفويت منفعتها عنهم، وإِخزاؤهم بإِبقاء ما لم يقطع لنفع أعدائهم به فهم متحسرون بالقطع والإِبقاء لمطلق النخل ولا سيما غارسها فإِنه أشد رحمة وشفقة كأَنها ولده حتى أن بعض الغارسين يقول سعفة كإِصبعى، وهم يرون بعض المؤمنين يتجنب الكريمة ويقطع غيرها فيغتاظون بأَنها يبقيها للمؤمنين، وبعض المؤمنين يقطع الكريمة ويجتنب غيرها فيغتاظون بقطعها مع أنها كريمة وقصد المؤمنين إِغاظتهم بذلك، كما روى أن أبا ليلى المازنى يقطع النخل العجوة حين أمر - صلى الله عليه وسلم - بقطع النخل فقيل له لم قطعت العجوة فقال لأَن فيه كبتا للعدو، وعبد الله بن سلام يقطع اللون فقيل له فقال لأَنى أعلم أن النخل يبقى للنبى - صلى الله عليه وسلم - فأَردت أن تبقى له العجوة وروى أنه - صلى الله عليه وسلم - يقطع نخلهم إِلا العجوة، وذلك فى أول نزول المؤمنين عليهم وقد أحرق - صلى الله عليه وسلم - بعض النخل وقالوا يا محمد كنت تنهى عن الفساد فما بال قطع النخل وإِحراقه وهل أوحى إِليك فى زعمك إِباحة الفساد، وخشى بعض المسلمين أن يكون ذلك فسادا كما زعموا فنزلت الآية قيل تصديقا للنهى عن قطعه وتحليلا من الإِثم لقاطعه، ولم يذكر الإِحراق اكتفاء بالقطع ولقلته وذكر الترك مع أنه ليس فسادا عندهم لتقرير عدم كون القطع فسادا لنظمه فى سلك ما ليس فسادا إِيذانا بتساويهما { وَمَا أفَاءَ اللهُ } صيره فائيا أى أعاده ورده الله { عَلَى رَسُولِهِ } لفظ على لتضمن أفاء معنى أنعم أو هى بمعنى إِلى وما موصولة أو شرطية وجهان عند بعض المحققين وذلك على أن ما أفاء عام فإِنه إِن أُريد مخصوص معهود تعين أنه موصول فلا تكون الفاء فى خبره لعدم العموم إِلا عند من أجاز زيادة الفاء فى الخبر مطلقا أو أجزنا زيادتها فى خبر الموصول ولو لم يكن العموم إِذ لا يخلو من شبه اسم الشرط أو اعتبرنا العموم فى إِجزاء ما عهد كأَنه قيل أى ما كان منها، وقد قيل المراد ما يفئ بعد فالعموم ظاهر وكذا إِن قيل نزلت قبل الجلاء، وروى أن المسلمين طلبوا تخميس أموال بنى النضير بعد جلائهم كغنائم بدر فنزلت الآية وقيل أفاء من فئ الظل ولا يخرج هذا عما مر لأَن الفئ الظل الراجع بعد زواله إِذ كان من جهة المشرق وزال ثم كان يعود إِليه بعد نصف النهار، وإِذا جعلت شرطية فمفعول لأَفاء، وإِذا جعلت موصولة فمبتدأ حذف رابط صلته أى ما أفاءه على حد ما رأيت. { مِنْهُمْ } من هؤلاء الكفار ومن للابتداء ويجوز أن تكون للتبعيض على حذف مضاف أى من أموالهم وهو ما يبقى على الجلاء، والمراد بالإِفاءة التصيير ويجوز أن يكون الرجوع كأَنها كانت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتقلت إِليهم ثم رجعت إِليه ووجهه أن الله عز وجل خلق المال للعبادة فكأَنه ملك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وللمؤمنين إِذ كفر هؤلاء { فَمَا أوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } ما أجريتم أو ما حركتم أو ما أتعبتم على تحصيله خيلا ولا ركابا وهى ما يركب من الإِبل قيل غلب الركاب عليها كما غلب الراكب على راكب البعير، فلا يقال فى الأَكثر الفصيح راكب لمن ركب الفرس أو الحمار أو نحوه، بل يقال فارس وراكب حمار وراكب بغل بذكر المركوب وحمار وبغال مع أن اللفظ عام وضعا كما قال الله عز وجل: والخيل والبغال والحمير لتركبوها. ولم يركبوا خيلا ولا إِبلا إِلى حصون بنى النضير بل مشوا على أرجلهم إِلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فعلى حمار كما مر أو على جمل لقربها من المدينة نحو ميلين، فما حصل منها إِلا مشقة فيه فكان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يعط الأَنصار بل أعطى المهاجرين لغربتهم وفقرهم فنزلت غربتهم وفقرهم منزلة الجهاد والمشقة، وروى أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق على أهله نفقة سنة ثم يجعل ما بقى فى السلاح والكرائم عدة فى سبيل الله تعالى وعن الضحاك أنه قسمه على المهاجرين ويجمع بأَن هذا فيما بقى بعد نفقة السنة والكرائم والسلاح ولم يعط من الأَنصار إِلا أبا دجانة سماك بن خرشة وسهل بن حنيف والحارث بن الصمة لفقرهم وسعيد بن معاذ فإِنه روى أنه أعطاه سيف ابن أبى الحقيق وكان لهذا السيف شهرة.
وفى البخارى ومسلم أن عمر قال للعباس وعلى أنشدكما الله هل تعلمان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال
"لا نورث ما تركناه صدقة" . قالا نعم وكذا قال لعثمان وعبد الرحمن بن عوف والزبير وسعد فقالوا نعم، وقرأ وما أفاء الله على رسوله الخ وقال عملت فيه ما عمل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وقلتما ادفعه إِلينا، فأَخذتما على أن تفعلا به ما فعلا فوالله الذى لا إِله إِلا هو الذى به تقوم السماوات والأَرض لا أقضى بغير ذلك فإِن عجزتما فاردداه إِلىَّ أكفكماه. { وَلَكِنَّ اللهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ } من أعدائهم تسليطاً خاصاً فمن ذلك تسليط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بنى النضير وغيرهم ففتحت لكم بلا كد منكم فلا حق لكم فيما أفاء عليه - صلى الله عليه وسلم - وقيل الآية فى فدك لأَن بنى النضير حصروا وقوتلوا دون أهل فدك، قلنا قتالهم قليل ضعيف لا يعتد به فهم المراد لا أهل فدك. { واللهُ عَلَى كُلِّ شَىْءٍ قَدِيرٌ } لا يعجزه التسليط أو غيره، فإِن شاء سلط على غير وجوه التسليط المعهود { مَا أَفاءَ } يفى بعد تلك الإِفاءة كأَنه قيل هذا حكم ما أفاء من النضير فما حكم ما يفئ من غيرها فقال ما أفاء الخ ولذلك كان بلا عطف لأَن الجواب للسؤال لا يقرن بواو وقيل هذه الآية بيان للآية قبلها فى بنى النضير، ولذلك كانت بلا واو أمره الله أن يضع ما أفاء من بنى النضير حيث يضع الخمس من الغنائم مقسوماً على خمسة { اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِن أهْلِ الْقُرَى } سائر قرى الكفار عموماً وقيل المراد قرى بنى النضير، وعليه فلم يضمر بأَن يقول منهم ليشمل الأُصول والعروض، كذا قيل. وقال ابن عطية القرى الصفراء وينبوع ووادى القرى وما هناك من قرى العرب وتسمى قرى عرينة وكلها كالنضير لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقسمها كغيرها وقيل المراد قرى خيبر وأن نصفها لله عز وجل ورسوله الكتيبة والوطيح وسلالم والوحدة وللمسلمين وكانت ثلاثة عشر سهماً ونطاة وكانت خمسة أسهم ولم يقسم - صلى الله عليه وسلم - من خيبر إِلا لمن شهد الحديبية ولم يأذن لمن يشهد الحديبية أن يخرج معه إِلى خيبر إِلا جابر بن عبد الله بن عمرو الأَنصارى، وفسر بعضهم ما أفاء الله بالجزية والخراج واحتج عمر رضى الله عنه بهذه الآية على إِبقاء سواد العراق بأَيدى أهله وضرب الخراج والجزية عليهم رداً على من طلب قسمته على الغزاة، ولكن ذلك ليعم المسلمين النفع بالقتال. ويروى أنه قيل لعمر ابدأ بنفسك فقال لا بل ابدأ بالعباس ثم الأَقرب فالأَقرب إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكل واحد من أهل بدر خمسة آلاف درهم ولأَهل الحديبية أربعة آلاف لكل واحد ولمن بعدهم ثلاثة آلاف لكل واحد ثم ألفين وخمسمائة ولأَهل القادسية وأهل الشام ألفين ألفين ولمن بعدهم واليرموك ألفا ألفاً ولمن بعدهم خمسمائة خمسمائة ثم ثلثمائة ثم مائتين، ولكل زوج للنبى - صلى الله عليه وسلم - عشرة آلاف إِلا عائشة فاثنى عشر ألفا، ولنساء أهل بدر خمسمائة ثم أربعمائة ثم ثلثمائة ثم مائتين والصبى مائة والمساكين جريبين فى الشهر ولم يترك فى بيت المال شيئاً فقيل له، فقال: المال فتنة لمن بعدى وفرض الصحابة له قوته وقوت أهله بإِذنه، ثم أمروا له بالزيادة فأَبى وغضب وكان الإِمام على يقسم ما فى بيت المال كل جمعة حتى لا يترك فيه شيئاً وأمر به فكنس ثم صلى فيه رجاء أن يشهد له يوم القيامة وقسم مالا من أصبهان وفيه رغيف أسباعاً وقسم الرغيف سبعة وجعل على كل سبع جزءاً وأقرع بينهم، رواه ابن عبد البر { فَلِلَّهِ } فهو لله { وَلِلرَّسُولِ } سهم الله والرسول واحد هو للرسول وإِنما ذكر الله تعالى تيمنا وتبركا وتعظيماً لشأْنه - صلى الله عليه وسلم - وقال أبو العالية لله سهم يصرف فى بناء الكعبة وما تحتاج إِليه كلباس إِن قربت وإِن بعدت فلمسجد كل بلدة ثبت فيها الخمس، ويرده أنه يلزم أن السهام ستة والمعروف خمسة وسهم الرسول له فى حياته إِجماعاً وهو خُمس الخُمس على ما قيل إِن هذا الخُمس يقسم على خمسة لمن ذكر الله عز وجل وكان ينفق منه على نفسه وعياله ويدخر منه نفقة سنة لأَزواجه وقيل لبعضهن ويصرف الباقى فى مصالح المسلمين كالسلاح والكراع والثغور والقضاة والمشتغلين بالعلم ولو مبتدئين والأَئمة والمؤذنين ومن اشتغل بمصالح المسلمين ومن عجز عن الكسب ولو كان هؤلاء أغنياء، وعنه - صلى الله عليه وسلم -: "مالي مما أفاء الله عليكم إِلاَّ الخُمس مردود عليكم" فنقول يصرف فى مصالح المسلمين واستظهر بعض أنه يصرف إِلى السهام الباقية قلت: عليهم صرفه إِلى مصالح المسلمين وإِلا فإِليها وإِلى السهام الباقية، وقيل سهمه بعده للخلفاء لعلة الخلافة، وكان - صلى الله عليه وسلم - يستحقه لخلافته عن الله تعالى، وإِمامته لا للرسالة إِذ لا أجرة عليها وقيل سقط سهمه بعده لأَن علته الرسالة لأَن الرسول مشتق وتعليق الحكم بمضمون المشتق يؤذن بعلية معنى ما منه الاشتقاق ولا رسالة بعده فسقط كما سقط ماله من الإِصفاء من المغنم.
{ وَلِذِي القُرْبَى } هذا هو السهم الثانى والمراد قرابته - صلى الله عليه وسلم - بنو هاشم وبنو المطلب قال - صلى الله عليه وسلم:-
"نحن وبنو المطلب شيء واحد وشبك بين أصابعه" . رواه البخارى لم يفترقوا فى جاهلية ولا إِسلام ولمزيد تعصبهم أفرد اللفظ ولم يقل لذوى القربى لأَنهم كإِنسان واحد فى شدة الاتصال لا يحب لنفسه إِلا الخير وكأَنهم إِنسان واحد أحب لنفسه الخير وعلى طريق شدة الاعتناء أعاد اللام مع الرسول وذى القربى حتى أن بعضاً أيد بذلك قول من أثبت سهماً لله وسهماً لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، والإِمام مفوض فى قسم سهم الله ورسوله وسهم ذى القربى يسوى بين الغنى والفقير والعالم والجاهل والصغير والكبير والذكر والأُنثى، أو يفضل من شاء بحسب نظره لله عز وجل. وقد أعطى العباس منه وله عشرون عبداً يتجرون له وأعطى فاطمة وصفية واختير تفضيل الذكر بسهم زائد على الأُنثى كالإِرث لأَنه استحق بقرابة الأَب وإِن أعرض ذو القربى عن سهمه لم يسقط كما لا يسقط الإِرث وقيل لا بد من التسوية فى ذلك كله ويأْخذ القاصى والدانى ويثبت كون الإِنسان هاشمياً أو مطلبيا بالبينة.
واختلف العلماء فى الفئ بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل هو للائمة وعن الشافعى أنه للمقاتلين وعنه أيضاً أنه لمصالح الإِسلام يبدأ بالمقاتلين ثم الأَهم فالأَهم، قال قوم خمس الفئ لأَهل خمس الغنيمة وأربعة أخماس للمقاتلين أو للمصالح والأَكثرون أنه لا يخمس بل مصرف جميعه واحد ولجميع المسلمين فيه حق، قرأ عمر ما أفاء الله على رسوله إِلى جاءوا من بعدهم وقال استوعبت الآية جميع المسلمين وما مسلم على وجه الأَرض إِلا وفيه له حق إِلا ما ملكت أيمانكم، وكان عمر يعطى جميع ما فى بيت المال ولا يخزنه وكان يقول لا أتركه فتنة لمن بعدى وكذا كان الإِمام على بل قيل لا يبقى فى بيت المال من الجمعة إِلى الجمعة { وَالْيَتَامَى } مطلقاً من أهل الإِسلام بشرط أن يكونوا فقراء ودخل ولد الزنى والمنفى ولا يدخل اللقيط لأنا لم نتحقق موت أبيه وهذا سهم ثالث، وذكروا مع شمول المساكين لهم دفعا لتوهم أنه لا سهم لهم لكونهم لا جهاد لهم وقيل بدخول اللقيط واليتيم الغنى ويثبت اليتم والفقر والإِسلام بالبينة { وَالْمَسَاكِينِ } هذا سهم رابع { وَابْنِ السَّبِيلِ } سهم خامس ويكفى فى ابن السبيل والمسكين قولهما بلا يمين ولو اتهما ومن ادعى عدداً من العيال أو ادعى تلف المال احتاج لبينة ويقدم فقير بنى هاشم ويتيمهم وابن السبيل منهم وذكر بعض أنه لا يعطى غنيهم، وذكر بعض أن هذه الأَخماس الأَربعة كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع خمس الخمس فله من الفئ أحد وعشرون سهماً من خمسة وعشرين وذكر بعض الشافعية أن الفئ ما أخذ من الكفار بلا قتال وإِيجاف خيل وركاب كعشر تجارة وجزية وما صولحوا عليه وما جلوا عنه خوفاً قبل تقابل الجيشين ومال مرتد قتل أو مات وذمى ومعاهد وأما ما جلو عنه خوفا بعد المقابلة فغنيمة ومال المستأْمن لورثته عندنا إِن كان له وارث، وقال قومنا لبيت المال منه ما بقى عن ورثته والغنيمة ما تحصل من كفار حربين بقتال أو تقابل الجيشين وإِن حارب ذميون المشركين فلهم ولا يخمس { كَيْلاَ يَكُونَ } ما أفاء الله على رسوله وكى حرف مصدر معناه الدلالة على الاستقبال والدلالة على المصدر وحرف التعليل والجر، لام مقدرة متعلقة بما يتعلق به لله أو بلله لنيابته { دُولَةً } شيئًا متداولا { بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ } يدار بينهم تارة عند هذا وتارة عند هذا أو يقسم بينهم لا ينال الفقراء معه شيئاً كغرفة بمعنى ما يغترف بضم الدال وأما فتحها فبمعنى المصدر وهو التداول، وقيل هما بمعنى واحد وهو ما يتداول كما مر وقيل بالضم فى الملك بكسر الميم وبالفتح فى الملك بضمها وهو قول الكسائى وحداق البصرة وقيل بضم الدال فى المال وبفتحها فى النصر، قيل والجاه ومنكم متعلق بنعت محذوف لأَن ال للجنس، كان مدخولها نكرة، أى بين الأَغنياء الثابتين منكم يختصون به كما مر، أو يتكاثرون به أو دولة جاهلية يختص بها الرؤساء الأَغنياء كمغانم الجاهلية. يقولون من عزيز ولا يسمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيراً لأَن الفقر شأن من يتعرض لمال ولا يجده بل قيل أيضاً لا يسمى زاهداً لأَن الزهد إِعراض عن الدنيا بعد توجه ما إِليها، وهو - صلى الله عليه وسلم - كالملك لا يتعرض لذلك لكن سيدنا عيسى عليه السلام وصف بهما لأَنه دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يصح ما روى عنه - صلى الله عليه وسلم - الفقر فخرى فإِن صح فمعناه ما تسمونه فقراً من عدم المال هو فخرى وليس المراد أنه يسمى فقيراً أو معناه الانقطاع إِلى الله كالملك.
{ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ } إِذ هو حقكم من الفئ كذا قيل وهو ظاهر لفظ الإِيتاء وهو فى المال والمنافع ولو كان فى أمر الشرع لقال وما آتاكم به، كما يقال جاء بالدين وآتاكم بالوحى إِلا أن قوله تعالى { وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا } يدل على أمر الدين إِذ لم يشتهر نهاه عن غنيمة أو نهاه عن فئ فنقول الأولى إِبقاء الايتاء على ظاهره من الإِعطاء من المال ويرد إِليه ما بعده على حذف مضاف أى وما نهاكم عن أخذه فانتهوا عنه ولا يخفى أن حمل الآية على عموم ما أمر به وما نهى عنه حتى أنه يدخل فيه حكم الفئ فيه زيادة فائدة إِلا أن الإِيتاء لا يتبادر فى ذلك ولا سيما أن ما قبله فى الفئ ولكن من الجائز استعمال الإِيتاء فى معنى الإِتيان إِلينا بأَمر الشرع وعليه فما لم يأْمرنا به ولا نهانا عنه فهو حلال إِذ لا حرام إِلا بالنهى كما لا فرض إِلا بالوحى، ولكن أيضاً من الجائز إِبقاء الإِيتاء على ظاهره من الفئ والنهى على عمومه فى الفئ وغيره، ومن العموم ما روى أن علياً قال: سلونى عما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله عز وجل وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال عبد الله بن محمد بن هارون: ما تقول فى محرم قتل الزنبور؟ فأَجاب بقوله تعالى: وما آتاكم الرسول الخ مع حديث حذيفة اقتدوا باللذين من بعدى أبى بكر وعمر مع قول عمر أمر بقتل الزنبور فلا شئ على المحرم القاتل له لأَنه أمر بقتله، ومثله حديث
"اقتلوا كل مؤذٍ في الحل والحرم" ، وما فى البخارى ومسلم عن ابن مسعود أنه لعن الواشمة والمستوشمة والمتنمصات والمتفلجات للحسن كما لعنهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن مسعود إِن ذلك فى القرآن فقالت أم يعقوب الأَسدية قرأت القرآن كله ولم أجده فقال هو فى قوله تعالى: { وما آتاكم الرسول فخذوه } الخ وقد آتانا الرسول لعنهن والواشمة التى تشم غيرها والمستوشمة الطالبة أن يفعل بها الوشم، وكذا فى النامصة والمتنمصة ونحوه الفاعلة التى تفعل بغيرها والمتفعلة التى تطلب أن يفعل بها ذلك غيرها، وعكس بعضهم ذلك والفلج التى تفسح بين أسنانها تطلب ذلك من نفسها فتفعله أو تطلب من غيرها أن يفعله بها، وقيل تتفسح فى مشيها.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" . رواه البخارى ومسلم عن عائشة وفي رواية "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" .
وفى أبى داود والترمذى عن أبى رافع عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا ألفين أحدكم متكئاً على أريكته يأتيه أمر مما أمرت به أو نهيت عنه فيقول لا أدري، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه" أى بدون أن يعلم ما قيده به الحديث ونحو ذلك { وَاتَّقُوا اللهَ } فى مخالفة ما آتاكم الرسول وما نهاكم عنه { إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ } لمخالفه وقوله { لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ } بدل من لذى القربى الخ بدل كل ودخل فى الإِبدال قوله تعالى: { والذين جاءوا من بعدهم }، إِذا عطفناه على الفقراء ولم يدخل الرسول فى الإِبدال منه لمحاشاته من الإِتصاف بالفقر كما مر آنفاً لكن ذلك الإِبدال يتفرع عليه أنه لا يعطى ذو القربى إِلا إِن كان فقيراً وقيل يعطى غنيهم كما قال الشافعى وعليه قيل يكون الإِبدال من اليتامى، وفيه أنه لو كان بدلا من اليتامى وما بعده لقيل لليتامى بلام الجر كما قال للفقراء بلام الجر فنحتاج إِلى اعتبار تقديرها مع اليتامى بالمعنى لعطفه على ما هى فيه.
وقد يقال يجوز الإِبدال من لذى القربى الخ ولو كان يعطى غنى ذوى القربى على أن الآية فى خصوص فئ النضير إِذ كان ذوو القربى فيها فقراء لا فى مطلق الفئ وفيه أنه خلاف الظاهر والظاهر عموم الفئ وأن العباس منهم أعطى وهو غنى كما مر، ويجوز إِبدال للفقراء من لذى القربى ولو لم نشترط الفقر على أن ذكره لواقعة حال لا للتقييد كما تقول أكرم زيد الفقير وتريد أكرمه مطلقا إِلا أنك ذكرت فقره ترحما عليه وبيانا لحاله عند الأَمر بإِكرامه ثم إِن فى الإِبدال إشكالا، إِذ يقتضى أن اليتامى مهاجرون أخرجوا من ديارهم وأموالهم وأنهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا وأنهم ينصرون الله ورسوله وأنهم كاملون فى الصدق وأن ابن السبيل متصف بذلك أيضاً وفى ذلك بعد، وقيل قوله للفقراء عائد إِلى قوله كى لا يكون دولة، وكأَنه قيل ولكن يقول للفقراء وقيل كانوا يعلمون أن الخمس يصرف لمن فى قوله عز وجل: { فلله وللرسول } الخ ولم يعلموا مصرف أربعة الأَخماس وكأَنهم قالوا: لمن هى؟ فقيل تكون للفقراء المهاجرين سهماً غير السهام السابقة فلا يكون للفقراء بدلا من لذى القربى وما بعده ولا مما بعده، وكان الرجل يعصب الحجر على بطنه للرجل ويتخذ الحفيرة فى الشتاء ما له دثار غيرها.
وفى مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول
"إِنَّ فقراء المهاجرين يسبقون الأَغنياء يوم القيامة إِلى الجنة بأَربعين خريفاً" وفى أبى داود عن أبى سعيد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أبشروا صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة يدخلون الجنة قبل أغنياء الناس بنصف يوم وذلك خمسمائة سنة" { مِنْ دِيَارِهِمْ وَأمْوَالِهِمْ } استعمال للمسبب فى معنى السبب لأَنهم عملوا معهم ما يضيفون به عن المقام فى مكة وهذا غالبهم إِذ فيهم من لم يخرج من مكة بل خرج وحده ومنهم من ليس منها، وقد قيل منهم مائة رجل { يَبْتَغُونَ } يطلبون { فَضْلاً } رزقاً { مِن اللهِ } لفقرهم واحتياجهم لخروجهم عن ديارهم وأموالهم فهم مستحقون للفئ فلا تمنعوهم حقهم منه فهذا راجع إِلى الفئ، وذكرهم بما يفخم شأْنهم ويدل على كمال توكلهم فى قوله تعالى { وَرِضْوَانًا } فى الآخرة والدنيا لرضاهم بقضاء الله عز وجل والجملة حال مقارنة { وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ } عطف على الجملة الحالية فالجملة حال بواسطة العطف مقارنة لأَن فى خروجهم نصر الله ورسوله لأَنه تقوية لرسوله وتضعيف للكفار وإِغاظة وإِن أُريد بالنصر النصر بالقتال كأَنك مقدرة { أُوْلَئِكَ } العالون مرتبة باتصافهم بمهاجرة الديار والأَوطان والأَحباء والأَموال والتوكل على الله فى طلب الرزق والرضوان وبقصد نصرة الله جل وعز ورسوله - صلى الله عليه وسلم - { هُمُ الصَّادِقُونَ } الكاملون فى الصدق فى ما يدعون من الإِيمان الكامل أو الصادقون صدقا كاملا مع الله عز وجل، وذلك أنهم اختاروا الله عز وجل ورسوله - صلى الله عليه وسلم - على أنفسهم وعلى جميع ما لهم فى الدنيا والحصر إِضافى منظور فيه إِلى من دون رتبهم من المؤمنين وإِمامة الصديق وعمر وعثمان وعلى صحيحة بإِجماع الصحابة الأَكثرين والمعتبرين من الصحابة وغيرهم لا نحتاج إِلى تكلفها من الآية.
{ والَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ } أى سكنوها وهى المدينة وهم الأَنصار والتبوؤ النزول والسكنى فى منزل كأَنه قيل والمعروفين المشهورين بمنزلهم حتى أنه لا يستحق اسم الدار إِلا منزلهم وهى التى أعد الله تعالى لهم ويمدحهم بها لنفع المؤمنين بها وقد قيل إِن تبوءوا بمعنى هيئوا للإِسلام وأهله منزلا وال للعهد حتى قيل الدار من أسماء المدينة ونزول المدينة حقيقة وأما نزول الإِيمان بمعنى جعله مستقراً وموطنا فمجاز استعارة مكنية تخييلية بإِثبات تبوئه، ففى ذلك جمع بين الحقيقة والمجاز والمانع يحمله على عموم المجاز وهو قصد الشئ ولزومه أو مجاز مرسل لعلاقة الإطلاق والتقييد أو اللزوم بأَن استعمل التبوء بمعنى مطلق القصد أو اللزوم أى لزموا الدار والإِيمان أو يقدر ما يناسب الإِيمان أى وأخلصوا الإِيمان على الأَوجه فى علفتها تبناً وماء بارداً وقدر بعض تبوءوا دار الهجرة ودار الإِيمان كقولك رأيت الغيث والليث وفيه بعد وقيل الإِيمان اسم للمدينة سميت باسم الحال فيها وهو خلاف الأَصل مع أنه يتكرر مع الدار { مِن قَبْلِهِمْ } قبل المهاجرين أى قبل هجرتهم فإِيمانهم سبق هجرة المهاجرين وإِيمان المهاجرين سبق إِيمان الأَنصار وهو متعلق بتبوءوا أسلموا فى ديارهم وآثروا الإِيمان وبنوا المساجد قبل قدوم النبى صلى الله عليه وسلم بسنتين { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } جملة حال من الذين أو مدح مستأنف بأَنهم رسخ الإِيمان فيهم فهم يحبون من هاجر إِليهم لإِسلامه وقيل كناية عن إِكرامهم للمهاجرين باموالهم ومساكنهم وكل ما أمكن حتى أن الرجل منهم ينزل عن زوجة من زوجتيه أو أزواجه لمهاجر يتزوجها ولا يصيبهم ملل أو تعبير بالسبب وهو الحب عن المسبب وهو الإِكرام والأَول أولى وعدى بإِلى لتضمن معنى الانتقال.
{ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } لا يلقونها ويصادفونها لعدم وجودها فى صدورهم أو لا يعلمونها فى صدورهم لعدم وجودها والحاجة ما يحتاج إِليه على حذف مضاف أى لا يجدون فى أنفسهم طلب حاجة أو معناه الاحتياج { مِّمَّا أُوتُوا } أى أوتى المهاجرون من الفئ دونهم قسم صلى الله عليه وسلم مال بنى النضير بين المهاجرين ولم يعط الأَنصار إِلا ثلاثة مر ذكرهم ومن للتبعيض أو للبيان أو للتعليل ويتعين التعليل إِذا فسرت الحاجة بالاحتياج وإِيضاح المعنى إنهم لا يطلبون شيئاً مما يعطى المهاجرون ويحتاج إِليه وليس فى قلوبهم احتياج إِليه فضلا من أن ينازعوهم فيه أو يحسدونهم ولا تتبع أنفسهم ما يعطى المهاجرون وواو أوتوا نائب الفاعل هو المفعول الثانى والأَول منصوب محذوف فاعل فى المعنى أى مما أوتيه المهاجرون أى جعل آتيا إِياهم { وَيُؤْثِرُونَ } يختارون المهاجرين وغيرهم فى كل نفع أو لا يقدر معمول أى من شأنهم الإِيثار { عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ } أى فيهم { خَصَاصَةُ } فقر فعن ابن عمر أهدى إِلى رجل لعله من الأَنصار المسلمين شاة فقال إِن أخى فلاناً وعياله أحوج إِليه منا فأَرسل إِليهم حتى تداوله أهل سبعة بيوت فرجع إِلى الأَول فنزلت الآية وهى فى مدح الأَنصار.
وعن أبى هريرة
"قال رجل يا رسول الله أصابنى الجهد فلم يجد - صلى الله عليه وسلم - شيئاً عند نسائه فقال ألا رجل يضيفه الليلة، فقال أبو طلحة أنا يا رسول الله فمضى به فقالت زوجه ما عندى إِلا قوت الصبية فقال نوميهم وأطفئى السراج ليظن الضيف أنَّا نأْكل ونطوى الليلة أى نجوع لضيف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولما أصبح الرجل ذهب إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال لقد عجب الله من فعل أبى طلحة وزوجه" أى عظمة ونزل فيهما ويؤثرون الخ. قال أنس قال - صلى الله عليه وسلم - كل يوم "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة حتى تمت ثلاثة أيام لرجل من الأَنصار فبات معه عبد الله بن عمرو بن العاص ثلاثاً ليرى عمله فقال له ما هو إِلاَّ ما رأيت إِلاَّ أني لا أغل على مسلم ولا أحسده لو كانت الدنيا لي فأُخذت مني لم أحزن عليها ولو أعطيتها لم أفرح بها فقال عبد الله بن عمرو هذه التي لا نطيق وبها فضلت وإِني أقوم الليل وأصوم النهار لو وهبت لي شاة لفرحت أو ذهبت لحزنت" . وفى البخارى ومسلم عن أبى هريرة "قالت الأَنصار للنبي - صلى الله عليه وسلم - اقسم بيننا وبين إِخواننا النخيل. قال: لا. قالوا: نشركهم في الثمر" .
وفى البخارى عن أنس أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطع البحرين للأَنصار، فقالوا إِلا أن تقطع لإِخواننا من المهاجرين مثلها قال "فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإنه سيصيبكم أثرة بعدي" أى اختصاص عنكم بالتقدم وفى القسمة بفتح الهمزة والثاء أو بضم ، فإِسكان وقال يوم النصير للأَنصار إِن شئتم قسمتم للمهاجرين من أموالكم ودياركم وتشاركوهم فى هذه الغنيمة وإِن شئتم فلكم أموالكم ودياركم ولا شئ لكم من الغنيمة فقالت الأَنصار بل نقسم لهم من أموالنا وديارنا ونؤثرهم بالغنيمة ولا نشاركهم فيها فنزلت الآية. ولما قسم المهاجرين مال بنى النضير قال للأَنصار: إِن شئتم قاسمتموهم أموالكم ويقاسموكم مال بنى النضير. فقالوا رضى الله عنهم نقاسمهم أموالنا ويختصون بمال النضير فنزل: والذين تبوءوا الدار..الخ.
{ وَمَن يُوقَ } يمنع { شُحَّ نَفْسِهِ } أضاف الشح للنفس لأَنه غريزة فيها وهو حرصها على المنع وأما البخل فهو المنع نفسه، فالبخل ثمرة الشح وقيل الشح بخل مع حرص وذلك فيما كان عادة. وعن الحسن البخل أن يمنع ما فى يده والشح أن يكره إِعطاء الناس ما بأَيديهم، وقيل لابن مسعود خفت الهلاك لقوله تعالى: ومن يوق.. الآية، لا يكاد يخرج منى شئ فقال: ذلك بخل، ولا ضير فيه، وإِنما الشح أن تأْكل مال أخيك ظلماً، ومثله عن ابن عمر: البخل منع مالك والشح أن تطمح إِلى مال غيرك، ولعل مرادهما شدة الحرص حتى يكره أن يجود أحد أو حتى يأْكل مال غيره ولا يسمح أن يكون للناس ما لهم، ويقال من لم يأخذ شيئاً مما نهاه الله عز وجل عن أخذه ولم يمنع شيئاً مما أمره الله تعالى بإعطائه فقد وقى شح نفسه. وفى أبى داود عن أبى هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:
"شر ما في الرجل شح هالع وجبن خالع" . والهلع أشد الجزع وذلك يجزع جزعا شديداً على ما فاته ويخلع فؤاده لشدة جزعه، وفى النسائى عن أبى هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الشح والإِيمان في قلب عبد أبداً" .
ويروى أن النبى - صلى الله عليه وسلم قال: "يدخل عليكم ولي من أولياء الله تعالى فدخل رجل ومن الغد قال ذلك فدخل الرجل وكذا في اليوم الثالث فدخل فقال له عمرو بن العاص: أُريد أن تضيفني فأَضافه فراقبه فلم يجد له كثير عمل. فقال: مالي إِلاَّ ما رأيت إِلاَّ أني لو ملكت الدنيا كلها فذهبت لم يتغير قلبي ولا أفرح بما جاءني. فقال له: هذا الذي لا نطيقه وإِني أقوم الليل وأصوم النهار وإِنْ ضاعت لي شاة حزنت وإِن ملكتها فرحت" { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } الفائزون بخير الدنيا والآخرة الناجون من كل مكروه ومن عاقبة الشح الواردة فى حديث أبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم-: "ما محق الإِسلام محق الشح شيء قط" ، وحديثه عنه - صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع غبار في سبيل الله ودخان جهنم في جوف عبد أبداً، ولا يجتمع الإِيمان والشح في قلب عبد أبداً" ً. وفى حديث أبى سعيد عنه - صلى الله عليه وسلم -: "خصلتان لا تجتمعان في جوف مسلم: البخل وسوء الخلق" . وفى حديث أنس عنه - صلى الله عليه وسلم:- "خلق الله جنة عدن وغرس أشجارها بيده، أي خلقها بلا واسطة شئ ثم قال لها: انطقي فقالت: قد أفلح المؤمنون. فقال الله عز وجل: وعزتي وجلالي لا لا يجاورني فيك بخيل ثم تلا - صلى الله عليه وسلم-: ومن يوق..." الآية.
وفى حديث جابر بن عبد الله عنه - صلى الله عليه وسلم-:
"اتقوا الظلم فإِن الظلم ظلمات يوم القيامة واتقوا الشح فإِن الشح قد أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم" وعن مجمع بن يحيى وجابر بن عبد الله وأنس مرفوعاً: برئ من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأدى فى النائبة. وعن على موقوفا: برئ من الشح من أدى زكاة ماله، { وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ } المؤمنون الذين جاءوا إِلى الإِيمان أو إِلى المدينة من بعد المهاجرين الأَولين والأَنصار، أى من بعد هجرة المهاجرين وإِيمان الأَنصار أو الذين جاءوا إِلى الإِيمان حتى تقوم الساعة بعد المهاجرين والأَنصار، فنقول هم إِن شاء الله مثل جابر بن زيد وأبى عبيدة والربيع بن حبيب ومن بعدهم ومن معهم من أئمة العدل الإِمامة الكبرى كعبد الرحمن ابن رستم ومن بعده من أئمة المغرب كما ذكروا هم وعلماء المغرب وعبادهم فى عدد من سير المغاربة ومن أئمة عمان الجلندى بن مسعود من شراة أبى يحيى سنة إِحدى وثلاثين ومائة والإِمام محمد بن عفان سنة سبع وسبعين ومائة والإِمام وارث بن كعب، سنة تسع وسبعين ومائة والإِمام غسان بن عبد الله سنة اثنتين وتسعين ومائة والإِمام عبد الملك بن حميد سنة مائتين وسبع، والإِمام المهنا بن جيفر سنة ست وعشرين ومائتين والإِمام الصلت بن مالك سنة سبع وثلاثين ومائتين والإِمام عزان بن تميم سنة سبع وسبعين ومائتين ومن بعدهم، ومن المتأَخرين الإِمام ناصر بن مرشد سنة أربع وثلاثين وألف، والإِمام سلطان بن سيف سنة ألف وستين أو هو سيف بن سلطان أو كلاهما واحد بعد واحد.
ومن مشاهير علماء عمان موسى بن أبى جابر والبشير بن المنذر وهاشم بن المهاجر وسليمان بن عثمان وهاشم بن غيلان ومحمد بن هاشم وموسى بن على ومحمد بن على وسعيد بن محرز والوضاح بن عقبة ومحمد بن محبوب وعزان بن الصقر وأبو الموسر الصلت بن خميس وبشير بن محمد وخالد بن قحطان وغسان بن محمد وسعد بن عبد الله وعبد الله بن محمد بن بركة وأبو الحسن بن على وابنه محمد وراشد ابن سعيد وأبو الحسن على بن سعيد وأبو سليمان مقداد وأبو زكرياء يحيى بن سعيد وأبو حفص عمر بن محمد اللقخى وغيرهم.
{ يَقُولُونَ } حال من واو جاءُوا أو مستأنف أو خبر للذين على أنه مبتدأ { رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا } فى دين الله وأُخوة الدين عندهم أعز من أُخوة النسب { الَّذِينَ سَبَقُونَا } فى الزمان وفى الرتبة وللقرب من المنبع صلى الله عليه وسلم وقد تقدم ذكر فضل من تقدم لكثرة الآخذين عنه فوجا يلى فوجا. { بِالإِيمَانِ } الباء على أصلها أو بمعنى فى، وهذا اعتراف بفضل المتقدمين ومدح لهم. { وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } حقدا { لِلَّذِينَ آمَنُوا } متقدمين أو مصاحبين أو متأَخرين { رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } حقيق أن تجيب دعاءنا. عن عائشة رضى الله عنها: أمر النبى صلى الله عليه وسلم - الناس أن يستغفروا لأَصحابه فسبوهم وقرأت هذه الآية: والذين جاءُوا الخ، وليس من الشتم القول بأَن الحق مع فلان الصحابى أو فلان الصحابى يستحق أن لا يقول كذا أولا يفعل كذا، وسمع ابن عمر رجلا يسب مهاجرا هوالإِمام عثمان فقرأ عليه: للفقراء المهاجرين الخ وقال: أأنت منهم قال: لا. فقرأ عليه والذين تبوءُوا... الخ وقال هم الأَنصار أأنت منهم قال: لا. وقرأ عليه: والذين جاءُوا الخ وقال: أأنت منهم. قال: أرجو أن أكون منهم. قال: لا والله. ليس من هؤلاء من سب هؤلاء، وذلك كالصفرية والنجدية والأَزارقة القائلين بتشريك على وكل من فعل كبيرة وبحل دم الفاعل لها وماله وكالشيعة المخطئين للصديق عمر وعثمان المصوبين للإِمام على وحده، وكالأَمويين المنافسين له فى الإِمامة.
وعن مالك من كان له فى أَحد من الصحابة رضى الله عنهم قول سئ أو بغض فلا حظ له فى الفئ. لهذه الآية وليس من ذلك أن يقال الصحابى ظلم فى كذا أو ما يحق له أن يفعل كذا والمسلمون المهاجرون والأَنصار والتابعون إِلى أخر الزمان ولا يجوز لأَحد أن يخرج عن ذلك وليس من الخروج عنهم أن يقال الحق مع فلان من الصحابة أو غيرهم لا مع فلان وإِن فعل كذا غير صواب وإِن فعل كذا كبيرة يستحق فاعلها العقاب وكان بعض الناس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يذمون بعض الصحابة على غير موجب فقال - صلى الله عليه وسلم -:
"دعوا أصحابي فإِن أحدكم لو أنفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه" كما فى البخارى ومسلم، عن أبى سعيد وفى مسلم عن عروة بن الزبير قالت عائشة: يا ابن أُختى أمروا أن يستغفروا لأَصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - فسبوهم وذلك حين الفتن بين بنى هاشم وبنى أُمية، قوم على وقوم عثمان. وجاءت الصفرية بعد ذلك بأَنه: من فعل كبيرة كان مشركا صحابيا أو غير صحابى.
وفى الترمذى عن عبد الله بن معقل، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم يقول:
"الله الله في أصحابي. لا تتخذوهم غرضاً بعدي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن آذاهم فقد آذاني ومن أذاني فقد آذى الله سبحانه ومن آذى الله تعالى يوشك أن يأَخذه" ، وأنت خبير بأَحوال الروافض فى الصحابة، يقولون فيهم السوء إِلا الإِمام عليا ومن معه. فضلت اليهود والنصارى وزادت الروافض قالت اليهود خير ملتنا أصحاب موسى والنصارى خير ملتنا حوارى عيسى والروافض شر ملتنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - قال جابر قيل لعائشة إِن ناسا يتناولون الصحابة حتى أبا بكر وعمر فقالت: وما تعجبون من هذا انقطع عنهم العمل وأحب الله أن لا ينقطع عنهم الأَجر وحب الصحابة كالمطبوع فى القلوب والله أعلم بما يصيبنى إِذا تذكرت قوله - صلى الله عليه وسلم - للملائكة أصيحابى أصيحابى إِذ أجروا بعضا من الصحابة وقولهم ما تدرى ما أحدثوا بعدك، وقوله صلى الله عليه وسلم - "فسحقاً سحقاً" والله ما ندرى من المراد فى الحديث.
{ أَلَمْ تَرَ } يا محمد أو يا من يصلح للتعجب فإِن الآية تعجيب بأَحوال المنافقين { إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا } هم رهط من بنى عوف منهم عبد الله بن أبى ابن سلول بإِثبات ألف ابن الثانى لأَن ابن الثانى تابع لعبد الله لا لأبى ووديعة بن مالك وسويد وداعس. وقال السدى أسلم ناس من قريظة والنضير وفيهم منافقون والصحيح الأَول، وعلى كل حال أرسل هؤلاء المنافقون المرادون فى الآية بما تضمنه قوله تعالى { يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الْكِتَابِ } إِلخ والمضارع للتجدد وإِحضار ما مضى كالمشاهد والمراد بالأُخوة الأخوة فى الدين والكفر الشرك، فهؤلاء المنافقون مشركون لإِضمارهم الشرك إِذ سماهم المشركين وأهل الكتاب مشركون ولو آمنوا بالتوراة والإِنجيل والأَنبياء لكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم - والقرآن، ويجوز أن تفسير الأُخوة بالصداقة والأَكثر فى الدين الإِخوان وفى النسب والصداقة الأُخوة. { لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ } من بلادكم أخرجكم محمد { لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ } من بلادنا نصرة لكم وتقليلا لأَصحاب محمد متبعين لكم حيث ذهبتم { وَلاَ نُطِيعُ فِيكُمْ } فى شأنكم مما يسوؤكم وقيل من قتال أو خذلان وما دون ذلك وفيه أن تقدير القتال مترقب بعد ولأَن وعدهم لهم على ذلك التقدير ليس مجرد طاعتهم لمن يدعوهم إِلى قتالهم بل نصرهم عليه كما قال ولئن قوتلتم لننصرنكم (أحَدًا) يعطلنا عن الخروج { أبَدًا } ولو طال الزمان { وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ } على عدوكم ودعوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمنافقين إِلى خذلان اليهود لا تتصور فضلا عن أن يدعوا عدم طاعتهم فيها، لأَنها لو كانت لكانت عند استعدادهم لنصرهم وإِظهار الكفر وإِنما شأنه - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك قتلهم لا دعوتهم إِلى ترك نصر اليهود وليس الخروج معهم بهذه المرتبة من إِظهار الكفر لإِمكان أن خروجهم معهم للصداقة لا للموافقة فى الدين { وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } فى وعد الخروج معهم وانتفاء طاعتهم لأَحدهم فيه وكاذبون فى وعد النصر كما بين كذبهم بقوله تعالى { لَئِنْ أُخْرِجُوا لاَ يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لاَ يَنْصُرُونَهُمْ } وفى ذلك تضمن تكذيب قولهم لا نطيع فيكم أحدا أبداً قالوه مع أنه لم يطلب منهم شئ فى شأنهم والسورة نزلت قبل وقعة النضير فكان ذلك إِخبارا بالغيب إِذ بعث عبد الله بن أُبى إِليهم سرا ألا يخرجوا وأن ينصرهم وأنهم إِن خرجوا خرج معهم هو ومن معه، فأَخبر الله تعالى عز وجل نبيه - صلى الله عليه وسلم - بذلك.
{ وَلَئِنْ نَّصَرُوهُمْ } شرعوا فى كسب النصر لهم على سبيل الفرض { لَيُوَلُنَّ الأَدْبَارَ } الواو فى نصروهم والمحذوفة فى يولن للمنافقين وفى قوله { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } لليهود لا تنصر اليهود بل تهلك ولا يرد عنهم المنافقون شيئا، وقيل واو لا ينصرون للمنافقين وقيل واو يولن المحذوفة لليهود وقيل واو نصروهم لليهود والهاء للمنافقين أى لئن نصر اليهود المنافقين ليولين اليهود الأَدبار، وفيه أن المتبادر من الآية عكس هذا وإِنما قال ولئن نصروهم بعد الإِخبار بأَنهم لا ينصرونهم على سبيل الفرض والتقدير كقوله تعالى: لئن أشركت ليحبطن عملك وكما يعلم ما يكون، يعلم ما لا يكون لو كان كيف يكون كما قال - صلى الله عليه وسلم - فى أطفال المشركين والمنافقين الله أعلم بما كانوا عاملين لو كانوا عاملين.