التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَسُبُّواْ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ فَيَسُبُّواْ ٱللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٠٨
-الأنعام

تيسير التفسير

{ وَلاَ تَسُبُّوا } أَيها المؤمنون { الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ } الأَصنام الذين يعبدونهم، وواو يدعون للمشركين ورابط الموصول مفعول به محذوف، أَى يدعونهم، وهذه الهاء عائدة إِلى الذين الواقع على الأَصنام، وذكرهم بلفظ العاقل وهو الذين لأن المشركين يعظمون الأَصنام أَو تغليباً للعقلاء منهم كالملائكة وعيسى وعزير، وكأنها عندهم عقلاء كان النبى والمؤمنون يسبونها بما فيها من القبائح، فقال المشركون: لتنتهين عن سب آلهتنا أَو لنهجون إِلهكم فنزلت الآية لئلا يسبوا الله { فَيَسُبُّوا اللهَ } لشدة غضبهم مع اعترافهم بالله سبحانه وتعالى، كما تحمل الموجد شدة الغضب على التكلم بموجب كفره، أَو يسبوا الله بما فيه بعض خفاء مثل أَن يسبوا من يأمر سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم بما يقوله لهم، والنصب فى جواب النهى، أَو هو مجزوم عطفا على المجزوم، أَى فلا يسبوا، من نهى الغائب على ظاهره، أَو على معنى النهى عن السب لسبهم الله، فيكون تأْكيداً لقوله ولا تسبوا كقولك لا تكن هنا ولا أَراك هنا، نهيته عن الكون هنا، وعن لازم الكون هنا، وفى هذا تكلف، أَى لا تسبوا الله ولو سب محمد وأَصحابه آلهتكم. وقدر بعض فيسبوا رسول الله، أَو المعنى أَن سبه صلى الله عليه وسلم سب لله عز وجل كقوله تعالى " { إِن الذين يبايعونك } " [الفتح: 10] الآية { عَدْواً } أَى سباً فهو مفعول مطلق، وكذا إِن ضمن معنى يسب مجاوزه الحد، أَو المعنى يسبون الله لأَجل العدو، أَو حال كونهم ذوى عدو، أَو معادين، وعلى أَنه حال تكون مؤكدة كما فى قوله تعالى { بِغَيْرِ عِلْمٍ } بلا علم بما يجب ذكره فى حق الله تعالى، أَو سفها منهم مع علمهم بحرمة سبه تعالى، فإِن السفه جهل ولو مع العلم. احتضر أَبو طالب فقال أَبو سفيان وأَبو جهل والنضر بن الحارث وأمية وأُبى ابنا خلف وعقبة بن أَبى معيط وعمرو بن العاص والأَسود بن أَبى البخترى: أَنت سيدنا انْه محمداً عن سب آلهتنا كما لا نسب إِلهه فإِنا نخاف قتله بعدك، فيقال: قتلوه بعد موت عمه، فأَرسل إِليه فجاءَه صلى الله عيه وسلم، فأَخبره بما قالوا، وقال له: إِن هؤلاء بنو عمك قد أَنصفوك، فقال: أَرأَيتم إِن تركت سبها فهل تعطوننى كلمة تملكون بها العرب وتؤدى لكم العجم الخراج، فأَبوا فقال أَبو طالب: يا ابن أَخى قل غير هذا. فقال: لا، ولو وضعوا الشمس فى يدى. فقالوا: إِلا تنته سببنا إِلهك معك. فنزلت. وليست منسوخة بآية القتال كما قال الزجاج وابن الأَنبارى، بل نهوا عن سبها حيث ينسب لسب الله سبحانه، فحين لا يسبونه لسبها سبت كما يسبها المسلمون فيما بينهم وبحضرة من لا يسبه قبل القتال أَو بعده، وسبها طاعة، لكن إِن أَدى إِلى معصية راجحة لا يمكن دفعها نهوا عنه. وذلك قاعدة كلية لهذه الآية، ولا يشكل عليها أَنا إِذا قتلناهم قتلونا ولا نترك القتل كما لا يترك صلى الله عليه وسلم التبليغ، لأَن القتال أَو التبليغ فرض فلا يتركان لما يؤديان إِليه، وسبها لم يجب فيترك كما تترك الإِجابة إِلى الطعام المسنونة لمعصية عنده، ولذلك ترك ابن سيرين حضور جنازة فيها نساء، وقد وجد من يؤدى فرضها، وخالفه الحسن ولو لم يوجد لحضرها، ومذهب الحسن أَنه لا تترك طاعة ولو نفلا لمقارنة بدعة، بل ينهى عنها، وإِلا صبر عليها، وكذا مباح مطلوب ولو لم يضطر إِليه عند بعض الإِمام المقتدى به فإِنه يتحرز ما وجد، ومن قطع يد قاطع قصاصاً فأَدى إِلى الموت لم يضمن خلافاً لأَبى حنيفة فإِنه يضمنه لأَن له العفو وله أَخذ دية اليد، فلم يجب القصاص بخلاف الإِمام إِذا قطع يد السارق لا يضمنه إِن مات، لأَن القطع فرض عليه، ووصف الآلهة بأَنها لا تضر ولا تنفع استدلالا يكفى فى القدح فلا حاجة إِلى شتمها ولله ما لا يكون لغيره، ولذلك سبها بأَنها حصب جهنم والواجب تبليغ هذا السب مرة لكل من جهله { كَذَلِكَ زَيَّنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } فعملوه، أَى كما زينا لكفار قريش وغيرهم عبادة غير الله وسائر معاصيهم زينا لكل أُمة من الكفار قبلهم عملهم القبيح من شرك وما دونه، وليست الإِشارة إِلى سبهم الله لأَنه ليس فى الآية أَنهم سبوه بل فيها لا تسبوه آلهتهم لئلا يسبوه، وإِنما فسرت الآية بالكفار وعملهم لا بما يعمهم ويعم المؤمنين، كما فسر بعض بالعموم؛ لأَن ما قيل هذا فى الكفار، وكذا ما بعده، وهو قوله وأَقسموا، ولأَن الوارد فى القرآن تزيين الضلال لا تزيين الهدى فهو أَولى من تفسيرها بالخير والشر والإِيمان والكفر ولو كان أَنسب باطلاق العموم، وتزيين الله الخير توفيقه، وهو معنى يعطيه الله المؤمن يحول بينه وبين الإِصرار، وتزيينه الشر الخذلان، تقول ذلك ونسلم الأَمر إِلى الله لا يسأَل عما يفعل، ولا نقول بالإِجبار، ويمتنع أَن يصدر من العبد فعل أَو قول أَو اعتقاد أَو خطور ببال أَو سكون إِلا بالله خالقاً له، وفسر بعضهم بأَنه خلاهم وشأْنهم فحسن عندهم الشر، أَما التخلية بمعنى الخذلان فلا تخرج عن المذهب، وأَما التخلية بمعنى وقوع الشئ بلا خلق من الله فلا تجوز وإِنما هى اعتزالية، ولذا أَولوا الآية على أُصول مذهبهم بأَنه أَمهل الشيطان حتى زين لهم، أَو بَأنه زينا فى زعمهم أَن الله زين لنا الشرك وأَمرنا به، وقالوا: تزيين القبيح والله متعال عنه، وأَنت خبير بأَن المراد بالتزيين غير ما توهوا وقد وقعوا فيما فروا عنه، إِذ قالوا: أَمهل الشيطان إِلخ فانه عين ما فروا عنه { ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ } رجوعهم للجزاء فى الآخرة، والعطف على الفعلية قبله أَو على محذوف، أَى فعملوه ثم إِلى ربهم مرجعهم { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } يجازيهم.