التفاسير

< >
عرض

هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ ءَايَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَٰنُهَا لَمْ تَكُنْ ءَامَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِيۤ إِيمَٰنِهَا خَيْراً قُلِ ٱنتَظِرُوۤاْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ
١٥٨
-الأنعام

تيسير التفسير

{ هَلْ يَنْظُرُونَ } أَى ما ينتظر أَهل مكة، فهذا من النظر الثلاثى بمعنى الانتظار الخملى، وأَهل مكة لم يعتقدوا انتظار الملائكة للعذاب وإِن اعتقدوا أَن الموت بالملائكة فليسوا فى مراقبة ذلك، ولم يعتقدوا أَيضاً إِتيان آيات الله بأوامره، ولا إِيمان لهم بيوم القيامة وما فيه، لكن لما كان يلحقهم ذلك لا محالة شبهوا بمن ينتظره واعتقده كأَنه قبل فما يستحقون إِلا نزول ذلك حين أَنزلت الكتاب فلم يؤمنوا، وقيل الواو للنبى صلى الله عليه وسلم وأَصحابه والحصر إِضافى منظور فيه إِلى الإِيمان، أَى إِنما يقع بهم أَحد هؤلاء الأَشياء لا الإِيمان، فإِنه لا يتأَتى منهم. وهل للإِنكار وهو نفى وكأَنه قيل لا ينتظرون، وأَنكر الرضى مجيئها للإِنكار وأَقرانها للتقرير والأَول المشهور وعليه الجمهور { إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُم } هذا الضمير لكفار مكة { المَلاَئِكَةُ أَوْ يَأْتِىَ رَبُّكَ أَو يَأْتِىَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } والعاقل لا ينتظر العذاب انتظار الميل بل انتظار توقع مكروه، لكن شبهوا لإِصرارهم على موجبه بمن ينتظره والجامع الترتيب، والمراد بإِتيان الملائكة إِتيانهم لقبض أَرواحهم أَو لتعذيبهم، ومعنى إِتيان الرب إِتيان أَمره بالعذاب أَو أَمر هو عذابه، أَو إِتيان الرب إِتيان آياته كلها: آيات القيامة والعذاب والهلاك الكلى، والمراد بإِتيان بعض الآيات علاماته الدالة على الساعة، قال حذيفة والبراء بن عازب رضى الله عنهما: كنا نتذاكر الساعة إِذ أَشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "ما تذاكرون قلنا نتذاكر الساعة. قال إِنها لا تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات: الدخان ودابة الأَرض وخسفا بالمشرق وخسفاً بالمغرب وخسفاً بجزيرة العرب والدجال وطلوع الشمس من مغربها ويأْجوج ومأْجوج ونزول عيسى ونار تخرج من عدن وجزيرة العرب ما أَحاط به بحر فارس وبحر السودان ونهر دجلة ونهر الفرات" . قيل بعض آيات ربك الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها، وإِتيان الأَمر والآيات مجاز استعارى لأَنه حقيقة فى الأَجسام { يَوْمَ يَأْتِى بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } طلوع الشمس من مغربها كما فى الصحيحين عن أَبى هريرة عنه صلى الله عليه وسلم: "لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها" ، وهو طلوع واحد، وزعم بعض أَنها تطلع من المغرب ثلاثة أَيام، ويقال تطلع إِلى خط نصف النهار وترجع، ونحن آمنا بطلوعها ولا يعرفون ما هو ولا أَعرف أَنا ما هو فإِن المغارب والمطالع لا يحصيها إِلا الله، وتغيب فى موضع وتطلع فى موضع فإِذا غربت عنا فى بلدنا، فهى طالعة فى غير بلدنا، فلو طلعت علينا فى مغربنا لم تكن طالعة فى المشرق الأَقصى وقس على ذلك. ويقال تدور بقطب الشمال، ويقال تصل إِليه ثم ترجع ولا نفهم ذلك فإِنها حينئذ ليست يراها كل أَحد حال طلوعها أَيضاً، ولعلها تغرب فى البحر المحيط بحيث تبعد جداً حتى لا يراها من عند المحيط المغربى ولا يرى ضوءَها أَهل المشرق ولا أَهل المغرب ولا أَهل الجنوب ولا أَهل الشمال، ويطلعها الله فوق السماءَ السابعة تحت العرش فقد غابت عن الناس كلهم، بعضهم غابت عنه أَكثر من ليل ويتفاوتون فتطلع على أَهل الدنيا كلهم بمرة لارتفاع محلها فقد صارت الدنيا كلها ليلا ثم صارت كلها نهاراً ثم تكون كعادتها. وفى البيهقى أَن أَول الايات ظهور الدجال ثم نزول عيسى ثم خروج يأجوج ومأجوج ثم خروج الدابة ثم طلوع الشمس من مغربها، وهو أَول الآيات العظام المؤذنة بتغيير أَحوال العالم العلوى، وذلك أَن الكفار يسلمون فى زمن عيسى عليه السلام ولا ينفع الكفار إِيمانهم أَيام عيسى، ويصير الدين واحداً فإِذا قبض عيسى ومن معه من المسلمين رجع أَكثرهم إِلى الكفر، فعند ذلك تطلع الشمس من مغربها فإِذا رآها الناس آمن من على الأَرض وذلك حين لا ينفع الإِيمان النفس التى لم تؤمن من قبل ولا النفس التى آمنت قبل وأَصرت على المعاصى ولا ينفعها عملها الصالح بعد كما قال الله عز وجل { لاَ يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُهَا } توحيدها { لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ } الجملة نعت لنفساً مفصول بالفاعل، وجاز ذلك لأَن عاملها واحد وهو ينفع، أَو حال من المضاف إِليه لأَن المضاف مصدر يصلح للعمل لا مستأَنفة كما قيل لأَنه جئ بها قيداً { أَوْ كَسَبَتْ فِى إِيمانِها خَيْراً } طاعة وتوبة عطف على آمنت فهو منفى، وأَو للتنويع فكأَنه قيل أَو لم تكن كسبت فى إِيمانها خيراً لأن آمنت منفى بلم تكن والمعطوف على المنفى منفى، وقوله في إِيمانها صريح فى أَنها آمنت، والمعنى فى توحيدها، فالناس الذين لا ينفعهم إِيمانهم يوم طلوع الشمس من مغربها نوعان: الأَول مشرك وحد لطلوع الشمس والآخر موحد من قبل طلوعها لكنه منهمك فى المعاصى غير تائب، وذلك كالإِيمان عند الغرغرة والمشاهدة، فلم يكن ينفعهم إِيمانهم لما رأَوا بأْسنا لأَنهم إِنما كلفوا بالإِيمان بالغيب، وأَما إِيمان المشاهدة فلا ينفعهم، قال الضحاك: من أَدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إِيمانه قبل الله منه العمل بعد نزول الآية كما قبل منه قبل، وأَما من آمن من شرك أَو تاب من معصية عند ظهور هذه الآية فلا يقبل منه لأَنها حال اضطرار كما لو أَرسل الله عذاباً على أمة فآمنوا وصدقوا فإِنه لا ينفعهم ذلك لمعاينتهم الأَهوال التى تضطرهم إِلى الإِيمان والتوبة، ويقبل إِيمان من لم يبلغ أَو ولد بعد فآمن أَو أَفاق من جنون، وفى الاية دليل لنا وللمعتزلة على أَن التوحيد المقرون بالمعصية المصر عليها لا ينفع، كما فى قوله تعالى " { ولم يلبسوا إِيمانهم بظلم } "[الأنعام: 82] فالظلم أَعم من الشرك لهذه الاية وهو مذهب المحدثين من قومنا أَيضاً، والأَشعرية عطفوا كسبت على لم تكن فيكون المعنى لا ينفع الإِيمان الحادث فى يوم الطلوع نفساً لم تؤمن قبل أَو آمنت بعد ظهور الآيات وكسبت فى إِيمانها الحادث خيراً، وهو باطل لأَن مقابل لم تؤمن قبل آمنت قبل، قال الطبرانى بسنده إِلى أَبى ذر رضى الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً: "أَتدرون أَين تذهب هذه الشمس إِذا غربت: قالوا: الله ورسوله أَعلم. قال: تذهب إِلى مستقرها تحت العرش فتخر ساجدة فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعى فارجعى من حيث جئت فتصبح طالعة من مطلعها، وهكذا كل يوم فإِذا أَراد الله أَن يطلعها من مغربها حبسها فتقول: يا رب إِن مسيرى بعيد. فيقول لها: اطلعى من حيث غربت، فقال الناس: يا رسول الله هل لذلك من آية؟ قال: آية تلك الليلة أَن تطول قدر ثلاث ليال فيستيقظ الذين يخشون ربهم فيصلون ثم يقضون صلاتهم والليل مكانه لم ينقص ثم يأْتون مضاجعهم فينامون حتى إِذا استيقظوا والليل مكانه، خافوا أَن يكون ذلك بين يدى أَمر عظيم، فإِذا أَصبحوا طال عليهم طلوع الشمس، فبينما هم ينتظرونها إِذ طلعت عليهم من قبل المغرب" . { قُلِ انْتَظِرُوا } بعض هذه الايات الموعود بها للعقاب، وذلك وعيد وتهديد فقط وإِلا فهم لا يؤمنون بها فضلا عن أَن ينتظروها فانتظروا الويل فإِننا ننتظر الفوز المراد فى قوله تعالى { إِنَّا مُنْتَظِرُونَ } عقابكم فى الدنيا والآخرة، ولا يلزم المنتظر اتصاله بما ينتظره فهم منتظرون الآية ولا يتصلون بها، بل يتصل بها المشركون فى آخر الزمان، فالمشركون كلهم الأَولون والآخرون كفريق واحد، فانتظار أَواخرهم انتظار لأَوائلهم، كما ذم بنى إِسرائيل على عهده صلى الله عليه وسلم بما فعل أَوائلهم لرضاهم عنهم وتصويبهم. أَو يراد الانتظار فى قبورهم إِذ ترد إِليهم أَرواحهم وأَيضاً أَرواحهم حية تنتظر ولو بلا رجوع إِلى أَجسادهم فلا يصح ما قيل من أَن المراد الكف عن القتال وأَنه منسوخ بآية القتال والمراد أَن المشركين يمهلون قدر مدة الدنيا، فإِذا ماتوا أَو ظهرت الآيات لم ينفعهم الإِيمان وعوقبوا، قال صفوان بن غسان: المراد بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "باب من قبل المغرب يسير الراكب فى عرضه أربعين أَو سبعين سنة خلقه الله تعالى يوم خلق السماوات والأَرض مفتوحاً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه" ، أَخرجه الترمذى. وفى رواية سبعين وفى أخرى مائة، ويروى للراكب المسرع، وفى رواية يلتم حتى ما به من صدع، فلا تقبل توبة، يروى: الدابة وطلوع الشمس أَيهما سبق فالآخر على أَثره، فإِن طلعت قبل خرجت الدابة ضحة يومها، وإِن خرجت الدابة قبل طلعت الشمس من الغد، وروى أَبو الشيخ وابن مردويه عن أَنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صبيحة تطلع الشمس من مغربها يصير فى هذه الأُمة قردة وخنازير وتطوى الدواوين وتجف الأَقلام، ولا يزاد فى حسنة ولا ينقص من سيئة، وذكر ابن مردويه عن ابن عباس رضى الله عنهما: تحبس الشمس ثلاث ليال والقمر ليلتين لا يؤذن لهما فى الطلوع، ينتبه لذلك أَهل الأَوراد وحملة القرآن فيجتمعون فى المساجد بالتضرع والبكاءَ بقية الليلة، ويرسل الله عز وجل جبريل عليه السلام إِلى الشمس والقمر فيقول: إِن الرب تعالى يأْمركما أَن ترجعا إِلى مغربكما فتطلعا منه، لا ضوءَ لكما عندنا ولا نور، فيبكيان خوف القيامة، فينادى مناد والغافلون فى غفلتهم: أَلا إِن باب التوبة قد أغلق والشمس والقمر طلعا من مغربهما فيراهما الناس كالغرارتين العظيمتين وكالبعيرين المقرونين يتنازعان استبقا. ويتصايح أَهل الدنيا، وتذهل الأمهات عن أَولادها وتضع كل ذات حمل حملها، وإِذا بلغا مقدار وقت العصر - وروى وسط السماء - ردا إِلى المغرب. وروى: للباب مصراعان من ذهب مكللان بالدر والجوهر ويكسيان بعد ذلك ضوءَهما ويطلعان من مطالعهما قبل، ويشتد حرص الناس على حفر العيون وغرس الأَشجار والبنيان، وتمكث الدنيا مائة وعشرين سنة السنة كالشهر والشهر كالجمعة والجمعة كاليوم واليوم كالساعة، وتعبد العرب الأَصنام كآبائهم مائة وعشرين سنة بعد نزول عيسى عليه السلام وخروج الدجال، ويمتع المؤمنون أَربعين سنة لا يتمنون شيئاً إِلا أَعطوه، فيشرع فيهم الموت وتصير الكفار كالبهائم ينكح الرجل المرأَة فى وسط الطريق، يقوم واحد عنها وينزل عليها الآخر، وأَفضلهم من يقول: لو تنحيتم عن الطريق لكان أَحسن، حتى لا يولد ولد إِلا بزنى، ويعقم الله النساءَ ثلاثين سنة ويكون كلهم أَولاد زنى فتقوم الساعة على أَشرار الخلق، وإِذا طلعت الشمس خر إِبليس ساجداً متضرعاً يقول: يا رب مرنى أَسجد لمن شئت، فتقول له الشياطين: يا سيدنا ما هذا التضرع؟ فيقول: هذا الوقت الذى سأَلت ربى أَن ينظرنى إِليه، والله أَعلم ولا حول ولا قوة إِلا بالله العلى العظيم، وتلك الآيات أَمارات لقرب الساعة، أَو أَمارات لوجودها واستقبالها وتقبل توبة من لم يشاهد الطلوع لحدوثه بعد، أَو بلوغه أَو إِفاقته بعده، واختلفوا فيمن شاهده ونسيه وصححوا على فرض إِمكان النسيان أَنها لا تقبل وأَنه لا يمكن النسيان وذلك حمل لظاهر الاية والأَحاديث على عمومها.