التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَىٰ مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّىٰ أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ ٱلْمُرْسَلِينَ
٣٤
وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي ٱلسَّمَآءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى ٱلْهُدَىٰ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْجَٰهِلِينَ
٣٥
-الأنعام

تيسير التفسير

{ وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ } وعموم البلوى مما يهونها بعض تهوين { فَصَبَروا } قبلك { عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } هذا يدل على أن قوله يكذبونك ليس نفياً للكذب مطلقاً، بل نفياً له بالنظر ليعضهم، أَو باعتبار أَن قائله كذب لا أَنت، أَو باعتبار أَن الله قال لهم إِن ذلك تكذيب لى، وكأَنه قيل، ولقد كذبت رسل كثيرون عظام من قبل تكذيبك، أَو رسل كذلك ثابتون قبلك، كما قال الله، { وإِن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك }، فصبروا على تكذيبهم وإِيذائهم حتى نصرناهم، فاصبر على تكذيب قومك وإِيذائهم إِياك كما صبروا ننصرك كما نصرناهم، وذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم ووعد بالنصر وتفريع بالنصر على الصبر، فإِن حتى تفريع على صبروا لا على أوذوا، ويجوز كونه تفريعاً عليهما وعلى كذبت، وأوذوا عطف على كذبوا وما مصدر، وتنكير رسل للتعظيم والتكثير، والمراد الإِيذاء الضرب والخنق والرمى بالحجارة، أو تأثير مضرة الكذب فيهم فإِنه ليس عين التكذيب، ومقتضى الظاهر نصره، وقال نصرنا بإِشعار التكلم بالعظمة { وَلاَ مُبَدِّلَ } لا أَنا ولا غيرى، على أَن المتكلم يدخل فى عموم كلامه، وعلى عدم الدخول ينتفى عن الله تعالى أَن يكون مبدلا لكلامه لا وعده ولا وعيده، لأَن ذلك من شأن من يجهل العاقبة، { لِكَلِمَاتِ اللهِ } الأَشياء التى قضاها الله وتكلم بها لخلقه، وكذلك ما لم يخبرهم به لا يتبدل، فالنصر الموعود به لا بد من وقوعه، إِما بالإِهلاك بما شاءَ وإما بالقتل، أَو بالحجج بأَن يكونوا أَولا على محسوسة بل معقولة ثم تأْتيهم محسوسة، وهذا كقوله تعالى " { ولقد سبقت كلمتنا } "[الصافات: 171] إلخ، إِلا أَنه جمع هنا على الأَصل من التعدد، وأَفرد هنالك باعتبار الاتحاد فى معنى واحد وهو القضاء، أَو أَراد بالكلمات التلويح إِلى قوله تعالى " { ولقد سبقت كلمتنا } " [الصافات: 171] إِلخ، وقوله " { كتب الله لأَغلبن } " [المجادلة: 21] إِلخ، ونحو ذلك { وَلَقدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ } أَى خبر، وإِنما يذكر فيما له شأن كما هنا، وقيل للخبر مطلقاً { الْمُرْسَلِينَ } أَى جاءَك هو، أَى هذا الخبر المذكور، أَو جاءَك النبأ ثابتاً من نبإ المرسلين، أَو جاءَك شئ ثابت من نبإ المرسلين، فناب عن الفاعل نعته، أَو الفاعل من بمعنى بعض مضافة إِلى نبإ أَى خبر المرسلين وما كابدوا أَقوامهم، كقوله تعالى: " { أَم حسبتم أَن تدخلوا الجنة } "[البقرة: 214] إِلخ، وروى أَنه أَتى بعض رؤساء قريش فى نفر منهم، ويقال الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف، فقالوا: يا محمد إيتنا بآية من عند الله كما تفعل الأَنبياء، فإِنا نصدقك فأَبى الله أَن يأْتيهم بها فأَعرضوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشق ذلك عليه صلى الله عليه وسلم، فنزل قوله تعالى،
{ وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِن اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِىَ نَفَقاً فِى الأَرْضِ أَو سُلَّماً فى السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ } يطلبونها تضطرهم إِلى الإِيمان فافعل ما استطعت من ذلك، وهذا أَمر تعجيز، وفى الآية تضمن لمدح النبى صلى الله عليه وسلم بمبالغته فى حب الخير لهم، والحرص على إِسلامهم مع أَنهم جفوه وآذوه،
{ { لعلك باخع نفسك } [الشعراء: 3]، إِلخ. وبأَنه يغضب إِذا غضب لله عز وجل لا لنفسه، وكبر شق وإِنما كان بإِن الموضوعة لغير المتحقق مع أَن شق ذلك عليه متحقق نظراً إِلى إِخفائه فى قلبه، أَو إِلى ما يستقبل من الشق عليه المحتمل بحسب الظاهر، ولو تحقق عند الله الأمر، وقيل إِن نفس الصعود والدخول فى النفق هو الآية، ويرده أَن قولهم فتأتيهم بآية ينافيه، وأَن الآية غيرهما، ولا يصح ذلك إِلا على معنى فتكون قد أَتيتهم بآية وهو تأويل يحتاج لدليل، واسم كان ضمير الشأن، أَو تنازع هو وكبر فى إِعراض، والمراد إِعراضهم عن الإِيمان بك، وبما جئت به، وجملة إِن شرطها وجوابها المقدر جواب إِن الأولى، وتبتغى طلب، والنفق منفذ فيه إِلى جوف الأَرض، وعن ابن عباس يهرب به، وأَصله نافقاء اليربوع، إِذ يحفر إِلى أَسفل ثم يصعد من جانب إِلى الأَعلى ليتخلص منه إِذ طلب، والسلم المصعد، وفى الأَرض نعت نفقاً، سمى للسلامه به إِلى ما يصعد إِليه، وفى السماء نعت لسلما، أَو يتعلقان بنفقا وسلما لتضمنهما معنى الحدث لأَن المراد إِن تنفذ إِلى جوف الأَرض فتأتيهم من جوفها بآية، وتصعد إِلى السماء فتدخلها فتأْتيهم منها بآية. أَو يتعلقان بتبتغى، ويضعف جعلهما حالا من ضمير تبتغى. والشرط الثانى وجوابه جواب الأَول، ويضعف ما قيل إِن ذلك قطع لطمعه عن إِيمانهم، وأَن لا يتأَذى بكفرهم، ولو ناسبه قوله تعالى { وَلَوْ شَاءَ اللهُْ } جمعهم على الهدى، ولو شاءَ الله هدايتهم لأَنها حاصل معنى جواب لو { لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى } بالتوفيق لكن لم يشأ فلا تذهب نفسك عليهم حسرات فإِنه لا يحدث شئ إِلا بإِرادة الله عز وجل ومشيئته، فهو سبحانه مريد لكفرهم خالق له ولداعيته، وقدرة العبد صالحة للضدين غير كافية فى تعيين أَحداهما، ولو قدر على التعيين لتسلسل وبطل قول المعتزلة أَن الله عز وجل لا يريد من العبد إِلا الإِيمان والطاعة والمباح، فزعموا أَن معنى الآية لو شاءَ الله أَن يلجئهم إِلى الإِيمان لجمعهم عليه بأَن يعلمهم أَنه قد قضى أَنهم لو حاولوا أَن لا يؤمنوا لمنعهم من أَن لا يؤمنوا فيؤمنوا فيكون إِيمان اضطرار وهو مناف للتكليف بالإِيمان اختياراً الذى يترتب عليه الجزاء، إِذ لا جزاء في الإجبار، فلزم المعتزلة أَن يكون الله مقهوراً إِذ وقع فى ملكه ما لم يرده حاشاه، وزعموا أَنه يجب على الله اللطف، وهو عبارة عما يبعد عن المعصية، وأَخطأُوا وقيل يجمعهم على التقى معكم، { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجَاهِلِينَ } بالحرص على ما لا يكون بعد علمك أَن الله قضى فى قوم مخصوصين أَن لا يؤمنوا، وذلك أَن حرصه قبل ذلك ليس جهالة وهو بعد العلم غير حارص، فالمعنى دم على أَن لا تكون من الجاهلين بالحرص على إِيمانهم. والجهالة الذنب ولو علم صاحبه أَنه ذنب لجريانه على غير مقتضى العلم فكأَنه لم يعلم، وقيل المراد بالجاهلين المقترحون الآية. بمعنى لا تساعدهم على اقتراحهم، وقيل: المعنى لا تجزع فى موطن الصبر فيقارب حالك حال الجاهلين، وزاد تأْكيداً لنفى إِيمانهم بقوله.