التفاسير

< >
عرض

وَهُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ ٱلْحَقُّ وَلَهُ ٱلْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَٰدَةِ وَهُوَ ٱلْحَكِيمُ ٱلْخَبِيرُ
٧٣
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّيۤ أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٧٤
-الأنعام

تيسير التفسير

{ وَهوَ الَّذِى خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ } قائماً بالحق والحكمة، أَو الباء بمعنى اللام، أَى لإِظهار الحق فإِن صنعه دليل وحدانيته، فهو كقوله تعالى " { ربنا ما خلقت هذا باطلا } " [آل عمران: 191] وقوله " { وما خلقنا السماوات والأَرض وما بينهما لاعبين } " [الدخان: 38] وقالت المعتزلة أَن معنى قوله بالحق أَنه واقع على وفق مصالح العباد المكلفين، مطابق لمنافعهم، ومذهبنا ومذهب الأَشاعرة أَن فعل الله لا يختص بمصلحتهم { وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُون } واذكر يوم يقول للخروج من القبور كن فيكون، أَو يقول لكل ما يكون فى اليوم الآخر كن فيكون، أَو يوم يقول للنفخ فى الصور كن فيكون، لا يوم يكون الصور؛ لأَن الصور موجود من أَول الدنيا، قيل: أَو يوم يقول لهذا اليوم كن فيكون هذا اليوم، أَى اذكر يوماً سيكون بإِذن الله تعالى، والكون تام وفيه اتحاد اليوم ووقت القول، وهو لا يتجه إِلا أَن يراد باليوم المذكور فى الآية وقتاً متصلا بيوم البعث قبله، أَو ثابتاً بالحق يوم ينفخ، أَو خلق السماوات والأَرض، وخلق يوم يقول عطف على السماوات أَو الأَرض أَو عطف على الهاء أَى واتقوا يوم يقول، والمراد بقول كن توجه الإِرادة الأَزلية إِلى وجود شىء { قَوْلُهُ الحَقُّ } مبتدأ وخبر، أَو مبتدأَ خبره يوم يقول، والحق نعته، أَو الحق فاعل يكون، أَو مبتدأَ خبره يوم ينفخ { وَلَهُ المُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّور } ثبت له الملك يوم ينفخ فى الصور نفخة الموت، وأَما قبله فلغيره أَملاك بحسب الظاهر، لكن الملك له تعالى بالحقيقة، ويوم القيامة لا مدعى للملك ويختص بالله عز وجل، كقوله عز وجل " { لمن الملك اليوم لله الواحد القهار } "[غافر: 16] أَو يوم بدل عن يوم، أَو يتعلق بتحشرون، أَو بالملك أَو بيقول، أَو بالحق الثانى، أَو بقوله { عَالِمُ الغَيْبِ } ذى الغيب أَو الغائب أَى ما غاب من الخلق أَو عن بعضهم مما مضى أَو يأْتى أَو وجد من الدنيا والآخرة، وملك النفخ واحد على المشهور، وفيه كلام بسيط، وفى البزار والحاكم عن أَبى سعيد الخدرى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أَن ملكين موكلين بالصور ينتظران متى يؤمران فينفخان" { وَالشَّهَادَةِ } ذى الحضور، أَو الحاضر أَى هو عالم الغيب والشهادة، أَو فاعل ليقول أَو لينفخ محذوفاً مبنياً للفاعل دل عليه المذكور المبنى لمفعول كقوله: ليْبكَ يزيد ضارع لخصومة. بالبناء للمفعول ورفع يزيد، كأَنه قيل من يبكيه؟ فقال: يبكيه ضارع، وقوله تعالى: " { يسبح له فيها بالغدو والأَصال رجال } " [النور: 36 - 37] فى قراءة البناء للمفعول، كأَنه قيل: من يسبح له؟ بالبناء للفاعل. فقال: يسبح له رجال، وقوله شركاؤهم فى قراءة بناء زين لمفعول ورفع قتل، كأَنه قيل: من زينه؟ فقال: زينه شركاؤهم، ومعنى كون الله نافخاً آمر بالنفخ، وهذا الوجه ضعيف لأَنه لم يرد التوقيف بأَنه تعالى نافخ حقيقه حاشاه، أَو مجازاً، خلافاً لمن أَجاز الاسم إِذا ورد الفعل كقوله ضحاها، ودحاها، ونفخنا فيه، ونفخنا فيها، أَو المراد نفخة الموت، أَو نفخة البعث، وقبلها نفخة الدهش، وفي الصور نائب فاعل ينفخ، والصور جمع صورة، أَو اسم جمع، يجمع الله جسد كل ميت ويرده فى صورته، ويأْمر الملك بالنفخ، ولا يعترض على هذا بقوله عز وجل، " { ثم نفخ فيه أخرى } "[الزمر: 68] بتذكير ضميره؛ لأَن ما مفرده بالتاء يجوز تذكيره لكن الأَولى أَنه مفرد، جسم مستطيل كقرن الحيوان يجمع الله سبحانه فيه الأَرواح لورود الحديث به أَنه جسم مستطيل فيه ثقب بعدد الأَرواح، قال أَعرابى: ما الصور؟ قال صلى الله عليه وسلم: "قرن ينفخ فيه" ، وقال صلى الله عليه وسلم لأَصحابه: "كيف أَنتم وقد التقم صاحب القرن القرن وحنى جبهته وأَصغى سمعه ينتظر أَن يؤمر فينفخ. فكأَن ذلك ثقل عليهم، فقالوا: كيف نفعل يا رسول الله؟ وكيف نقول؟ قال: قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل، وعلى الله توكلنا" . ثم رأَيت ما قلته سابقاً قول الحسن ومقاتل وأَبى عبيدة { وَهُوَ الحَكِيمُ } صاحب الحكمة فى خلقه المصيب فى أَفعاله { الْخَبِيرُ } العالم بباطن الأَشياء كظاهرها، فهذا جامع لما تقدم وهو كفذلكة الحساب لما قبلها، ولما أَنكر على قريش عبادة مالا يضر ولا ينفع احتج عليهم بأَن إِبراهيم عليه السلام الذى هو أبوكم وتدعون أَنكم على ملته لا يعبد إِلا الله ولا يعرف سواه، فقال:
{ وَإِذْ } مفعول لا ذكر محذوفاً معطوفاً على قل، أَى قل لهم أَندعو، اذكر إِذ { قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ } تارخ بالخاء المعجمة فى التوراة كما فى تاريخ البخارى الذى أَلفه فى المدينة إِلى ضوء القمر، وبالمهملة عند بعض، وقيل تيرح، آزر اسم، وتارخ بالمعجمة لقب، أَو بالعكس، والأَول أَولى لما روى أَنه كان يعبد صنماً اسمه آزر فسمى به، كقوله تعالى:
" { يوم ندعو كل أناس بإِمامهم } "[الإِسراء: 71]، وقدر بعض لأبيه عابد آزر، وقيل: آزر صنم مفعول لمحذوف، أَى أَتعبد آزر، وقرره بقوله بعد ذلك { أتتخذ أَصناماً } إِلخ، وأَبو إِبراهيم سمى ذلك الصنم آزر، ويقال: إِبراهيم بن تارح بن ناحور بن ساروغ ابن أَرغو بن فالغ بن عابر بن شالخ بن فينان بن أَدفخشد بن سام ابن نوح، وقيل: اسمه تارخ، ولما كان مع نمرود قيما على خزائن آلهته سماه آزر، والقيم على الخزانة يقال له فى لغتهم آزر، وهو كوثى بضم الكاف، قرية فى سواد الكوفة، وآزر عطف بيان أَو بدل، أَو نصب على الذم، ومنع الصرف للعلمية والعجمة، ووزنه أَفعل أَو فاعل بفتح العين، أَو هو من الأَزر أَو الوزر، فمنع للعلمية ووزنه الفعل، وهو أَفعل، أَو أَصله المخطئ أَو المعوج أَو الهرم، وجعل علما وليس نعتاً فمنع أَيضاً للعلمية ووزن الفعل وهو أَفعل { أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } توبيخ على عبادة الأَصنام وإِنكار للياقتها، وكان من كنعان وهم معتقدون لإلهية النجوم فى السماء، وإِلهية الأَصنام فى الأَرض يجعلون للنجوم صنما يعبدونه فيشفع لهم إِلى النجم فيقضى لهم، وجميع أَجداد النبى صلى الله عليه وسلم، منزهون عن عبادة الأَصنام، ومن عبدها منهم عبدها بعد أَن خرج صلى الله عليه وسلم منه، فلا حاجة إِلى دعوى أَن آزر جده ولو كان الجد أَبا، ولا إِلى دعوى أَن آزر عمه والعم يسمى أبا كما فى الحديث، وأَن أَباه مؤمن، وجاءَ أَن العم أَب فى قوله تعالى " { أَم كنتم شهداءَ إِذا حضر يعقوب الموت } "[البقرة: 133] إِلى أَن قال " { وإِسماعيل } " [البقرة: 133] وهو عمه لا أَبوه ولا جده ومع ذلك أَدخله فى الآباء، قال محمد بن كعب: الخال والد والعم والد، وتلا هذه الآية، قال صلى الله عليه وسلم فى العباس: "ردوا على أَبى" ، ذلك كله صحيح لا بأْس به لقيام الدليل، وأَما آزر فأَى دليل على تفسيره بالعم حتى يخرج عن ظاهر الآية، وأَما قوله: { ربنا اغفر لى ولوالدى وللمؤمنين } [إبراهيم: 41]، فقد قال الله عز وجل فيه " { وما كان استغفار إِبراهيم لأَبيه إِلا عن موعدة وعدها إِياه } "[التوبة: 114] الآية..وأَما قوله صلى الله عليه وسلم: "لم أَزل أُنقل من أَصلاب الطاهرين إِلى أَرحام الطاهرات" فالمراد فيه الطهارة من الزنى، وإِن زنى بعض فبعد خروجه صلى الله عليه وسلم منه، وجاءَ الحديث: "ولدت من نكاح فى جميع نسبى كنكاح الإِسلام" ، وأَما قوله " { وتقلبك فى الساجدين } " [الشعراء: 219] فالمراد فيه طوافه على أَصحابه ليلا وهم يصلون ليرى حالهم، أَو سجوده فى الصلاة بهم، أَو معهم، أَو نظره فيمن يصلى خلفه، والصنم ما يتخذ من خشب أَو حجارة أَو حديد أَو نحاس أَو ذهب أَو فضة، أَو غير ذلك على صورة الإِنسان { إِنِّى أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } الذى اجتمعت معهم فى اتخاذ الأَصنام آلهة { فِى ضَلاَلٍ } عن الحق الإِلهى وعما يقتضيه العقل { مُبِينٍ } ظاهر الضلالة. قيل: الجملة مجرد إِرشاد لا توبيخ وتعيير لئلا يكون قد أَساءَ الأَدب مع أَبيه، نعم هى تعليل للإِنكار والتوبيخ فى قوله: أَتتخذ، حتى أَنه قيل: لو كان أَباه لو يغلظ، فالتغليظ دليل أَنه ليس أَباه، وفيه أَن العم يعامل بما يقرب من التغليظ لا بالتغليظ، وفيه: أَنه لا بأْس بمثل هذا التوبيخ والتعيير فى اللفظ، وليس هذا تغليظ موصولا إِلى الجفاء والنفرة، وأَيضاً إِبراهيم حكيم، ولعله ظهر له أَن الكلام الشديد يؤثر فيه والغيب لله عز وجل، قال المعرى:

اضرب وليدى وأُدلـله على رشدى ولا تقل هو طفل غيـر محتلـــم
فرب شق برأس جر منفعـــة وقس على شق رأس السهم والقلم

فقد وبخ وعير بقوله: أَتتخذ أَصناماً آلهة، والرؤية بصرية، إِذ رأَى بعينه جوارحه تكسب ما هو معصية، أَو هى علمية.