التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ ٱلْحَقِّ يُخْرِجُونَ ٱلرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِٱلْمَوَدَّةِ وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ ٱلسَّبِيلِ
١
إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً وَيَبْسُطُوۤاْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِٱلسُّوۤءِ وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ
٢
لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٣
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِيۤ إِبْرَاهِيمَ وَٱلَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ٱلْعَدَاوَةُ وَٱلْبَغْضَآءُ أَبَداً حَتَّىٰ تُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ ٱللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ ٱلْمَصِيرُ
٤
رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ وَٱغْفِرْ لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٥
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو ٱللَّهَ وَٱلْيَوْمَ ٱلآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلْغَنِيُّ ٱلْحَمِيدُ
٦
عَسَى ٱللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ٱلَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً وَٱللَّهُ قَدِيرٌ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٧
-الممتحنة

تيسير التفسير

{ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أوْلِيَاءَ } عدو الله هم كفار مكة الذين قضى الله أن لا يؤمنوا وهم عدو للمؤمنين أيضاً ومن قضى الله بإِيمانه عدو للمؤمنين بحسب الظاهر، وإِذا آمنوا رجعوا لولايتهم. نزلت فى حاطب بن عمرو أبى بلتعة مولى عبد الله بن حميد بن زهير ابن أسد بن عبد العزى وفى البخارى ومسلم وغيرهما عن على بعثنى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنا والمقداد فقال انطلقوا حتى تأْتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها فأتونى به، فخرجنا حتى أتينا الروضة فإِذا نحن بالظعينة فقلنا أخرجى الكتاب. فقالت: ما معى من كتاب فقلنا لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبى - صلى الله عليه وسلم - فإِذا فيه من حاطب بن بلتعة إِلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبى - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توجه إِليكم بجيش كالليل يسير كالسيل والله لو سار إِليكم وحده لنصره الله عليكم فإِنه منجز له وعده. فقال النبى - صلى الله عليه وسلم - "ما هذا يا حاطب" . قال: لا تعجل علىَّ يا رسول الله، كنت امرءاً ملصقا فى قريش ولم أكن من أنفسها وكل من معك من المهاجرين إِذ فاتنى ذلك من النسب فيهم أن أصنع إِليهم يدا يحمون بها قرابتى يعنى بنيه وأخوته وأُمه وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن دينى. فقال عمر رضى الله عنه: دعنى يا رسول الله أضرب عنقه ويروى دعنى يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق. فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إِنه شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم" . ففاضت عينا عمر ونزلت الآية والمرأة تدعى أم سارة مولاة لقريش وقيل سارة مولاة لأبى عمرو بن صيفى بن هاشم ويجمع بأَنها سارة سميت بنتها باسمها.
وعن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث عمر وعلياً فلحقاها فلم يريا معها شيئاً فرجعا ثم قالا والله ما كذب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرجعا إِليها وسلا سيوفهما وقالا: والله لتعطينا الكتاب أو نقتلك. فأنكرت ثم قالت أعطيكما على أن لا تردانى إِلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا: نعم أى لأنه صلى الله عليه وسلم لم يأمرهما بالإِتيان بها بل بالكتاب بل أمرهما أن يأخذا منها الكتاب ويخليانها وإِن أبت فليقتلاها. فقالت: أعرضا عنى ففعلا فحلته من عقاصها فأعطتهما إِياه أى كأنما أعرضا عن أن ينكشف لهما رأسها فقد يريانها تحرك عقاصها ولا يريان شعرها أو أخبرت هى بذلك، أو أخبرهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فى عقاصها واستشكل رجوعهما كيف يرجعان وقد جاء الوحى أن الكتاب معها ويجاب بأنهم نسوا أنهم جاءوا من رسول الله، أو توهموا أنه - صلى الله عليه وسلم - أمرهم لشهادة من شهد عليها بذلك لا لوحى جاءه بأن الكتاب معها.
وروضة خاخ قريب من حمراء الأسد من المدينة على الصحيح وقيل موضع قريب من مكة والمشهور الصحيح أن المبعوثين إِليها علي والزبير والمقداد وقيل الثلاثة وعمر وعمار وطلحة وأبو مرثد على أفراسهم ويروى أن سارة التى ذكرت جاءت ورسول الله صلى الله عليه وسلم - يتجهز لفتح مكة فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أمسلمة جئت؟ قالت: لا. قال: أمهاجرة؟ قالت: لا. قال: فما جاء بك؟ قالت: كنتم الأهل والعشيرة والموالى وقد ذهب الموالى واحتجت حاجة شديدة فقدمت عليكم لتعطونى وتكسونى وتحملونى فقال: أين أنت من شبان مكة وكانت مغنية نائحة. قالت: ما طلب منى شئ بعد وقعة بدر فحث عليها بنو عبد المطلب فأعطوها وكسوها وحملوها والإِعطاء إِعطاء الدراهم وفى رواية أعطوها نفقة وكتب حاطب الكتاب لأهل مكة توصله وأعطاها عشرة دنانير وكساها. ويروى أنه - صلى الله عليه وسلم - آمن جميع الناس يوم فتح مكة إِلا أربعة هى أحدهم. وفيه أنه أمرهم بتخليتها بعد أن يأخذوا الكتاب منها فكيف يأمر بقتلها اللهم إِلا لحدث آخر أحدثته وأيضاً هى مأمورة لم يؤثر فعلها شيئاً.
وفى قول عمر دليل على قتل الجاسوس إِذ لم ينهه - صلى الله عليه وسلم - إِلا لكونه من أهل بدر وفى تسمية المشركين عدو الله وفى ذكر أن عدو الله عدوكم مدح للإِسلام لأن المعنى لا تتخذوا من اتصف بعداوتى وعداوتكم أولياء عدوك وعدو صديقك وصديق عدوك كلهم أعداؤك.

إِذا صافى صديقك من تعادى فقد عاداك وانقطع الكلام

ولما كان عدو بوزن المصدر اللازم من المفتوح كالقعود والمرور صح إِطلاقه على ما فوق الواحد { تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ } تفسير للاتخاذ أو للموالاة أو مستأنف عيباً عليهم بأنهم يلقون إِليهم بالمودة مع أنهم قد كفروا بما جاء من الحق كما قيد ذلك بجملة الحال من قوله تعالى { وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِّنَ الْحَقِّ } ويجوز أن يكون حالا من واو اتخذوا أو نعت لأولياء على جواز عدم إِبراز ضمير ما جرى على غير ما هو له إِذا فهم، إِذ لم يقل تلقى أنتم ويجوز أن يكون قوله تلقون إِلخ مفعولا ثانياً بعد مفعول ثان كالإِخبار بشيئين فيكون لها مدخل فى النهى كأنه قيل لا تتولوهم ولا تلقوا إِليهم بالمودة والحال أنهم قد كفروا وصاحب الحال واو تلقون أو تتخذون أو عدوى ومن العجيب جعلها مستأنفة، إِلا أن يقال المراد استئناف ذم لهم تنفيرا عنهم ومن وراء هذا أن الحق أن الواو لا تكون للاستئناف وإِلقاء المودة إِيصالها إِليهم بالإِخبار بما يوجب الحب، وذلك أنهم يلقون إِليهم أخباره - صلى الله عليه وسلم - ويدل للإِيصال لفظ إِلى وإِيصال ما هو معنى إِلى كذا حقيق لا مجاز وأما التعبير عن هذا الإِيصال بالإِلقاء فمجاز كما أن استعمال الإِلقاء بمعنى الإِظهار مجاز والباء صلة فى المفعول به قبلها فى قوله تعالى: { { ولا تلقوا بأيديكم إِلى التهلكة } [البقرة: 195] أو للسببية أى ترسلون إِليهم الأخبار بسبب المودة بينكم والجمع لكون حاطب له فى ذلك من يوافقونه لضعف إِيمانهم { يُخْرِجُونَ } الخ حال من واو كفروا فيما قيل أو حال ثانية مما قوله عز وجل تلقون حال منه أو مستأنفة لذمهم والتنفير عنهم والمضارع لاستحضار ما مضى كالحاضر المشاهد ومر أن إِخراج الرسول والمؤمنين تضييق عليهم حتى خرجوا فذلك قوله تعالى يخرجون { الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ } أيها المؤمنون { أن تُؤْمِنُوا } أى لأن تؤمنوا أى لإِيمانكم أو لئلا تؤمنوا أو كراهة أن تؤمنوا، وفى تؤمنوا قيل تغليب لمن آمن على من لم يؤمن وفيه أن من لم يؤمن لم يخرجوه والخطاب خاص بالمؤمنين { بِاللهِ رَبِّكُمْ } مقتضى الظاهر أن تؤمنوا بى كما قال سبيلى ومرضاتى ولكن ذكر لفظ الجلالة والرب إِعظاماً للأُلوهية والربوبية الموجبتين للإِيمان كيف تخالفان { إِن كُنتمْ خَرَجْتُمْ } من مكة مهاجرين وليس المراد إِن كنتم خرجتم إِلى الجهاد كما قال به بعض لأن قصة حاطب ليست خروجاً إِليه ولو قصد بالخروج منها الجهاد بعد، والآية نزلت فى قصته إِلا أن يراد بالجهاد المخروج إِليه مطلق تقوية دين الله عز وجل لا خصوص الغزو.
كما أن المراد بالجهاد فى قوله عز وجل { جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي } تقوية دين الله عز وجل مطلقا وجملة الشرط متعلقة بقوله عز وجل لا تتخذوا المغنى عن جوابه ولا يصح أن يكون حالا إِذ الحال لا تكون أمراً مشكوكاً فيه شطر كلام، وإِذا كانت جملة شرط وجواب جاز اعتباراً للجواب لأن الجواب يجزم به تحقيقاً أو حكما ولا نسلم أن قولك وإِن كان غنياً من جملة أكرم زيداً وإِن كان غنياً حال ولا يعقله عاقل ولو قيل به بل عطف على محذوف أى إِن لم يكن وإِن كان غنياً فقد يكون مجموع المحذوف والمذكور حالا إِذ ليس المعنى على إِنشاء الشك بل المعنى أكرمه فقيراً أو غنياً ولا سيما أنه من أجاز الحالية يشترط الواو ويزعم أنها واو الحال كالمثال وأجازه ابن جنى فى الخصائص: الحالية فى ذلك بلا واو لا تسلم أيضاً كما لا تسلم مع الواو وأيضاً من أجاز اشترط أن يكون ما ذكر ضد الماصدق كالمثال ولا عاقل يفهم الحالية من الآية ومن قولك لا تخذلنى إِن كنت صديقى، وأى بلاغة فى حالية ذلك يحمل عليها القرآن البليغ والنصب فى الآية على التعليل أى للجهاد والابتغاء فلا حاجة إِلى تقدير مضاف أو التأويل باسم الفاعل والنصب على الحالية.
{ تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالْمَوَدَّةِ } أعاده ليبنى عليه قوله عز وجل { وَأَنَا أعْلَمُ } منكم { بِمَا أخفيْتُمْ وَمَا أعْلَنتُمْ } والجملة حال زيادة فى الزجر وجملة تسرون مستأنفة جواب لسؤال كأنه قيل لم عوتبنا فقيل تسرون أى لأنكم تسرون أو بدل كل من تلقون إِن أُريد الإِلقاء سراً أو بدل بعض إِن أُريد مطلق الإِلقاء سراً أو جهراً أو بدل اشتمال لان الإِسرار مما يناسب الإِلقاء والإِسرار صفة من صفات الإِلقاء لا نفس الإِلقاء فبدل الاشتمال أولى، وبه قال الإِمام أبو حيان واعلم اسم تفضيل باق على التفضيل أو مضارع والباء للالصاق المجازى على الوجهين أو زائدة للتأكيد فى مفعول المضارع والتفضيل أولى والمضارع للاستمرار وما اسم أى بما أخفيتموه وما أعلنتموه قيل أو مصدرية أى بنفس إِخفائكم وفيه أنه إِن أبقى على معنى المصدرية ضعف المعنى لأن العلم بنفس المخفى والمعلن به أقوى وأفيد من العلم بنفس الإِخفاء والإِعلان، وإِن أول بمفعول فتكلف لأنه يغنى عنه إِبقاء ما على الاسمية وفى الآية استواء الإِسرار والجهر عند الله عز وجل ولذا قدم الإِخفاء وأنه لا فائدة فى إِسرارهم مع أن الله يعلم ما يسرون ويخبر به نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويعاقب عليه من لم يتب.
{ وَمَن يَفْعَلهُ } أى الاتخاذ أو الإِسرار قولان والأولى هما معاً بتأْويل ما ذكر { مِنكُمْ } خصوا بالذكر لأنهم فعلوه ومثلهم غيرهم إِن فعله { فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ } أخطأ الطريق السواء وضل قد يتعدى لاثنين كما هنا وقيل سواء ظرف وفيه أنه ليس فى الطريق السواء فضلا عن أن يقال ضل فيه بل هو خارجه، وإِضافة سواء إِضافة نعت لمنعوت والأصل السبيل السواء أى المستوى الحق. { إِن يَثْقفُوكُمْ } يظفروا بكم والأصل فى الثقف الأخذ بالحذق والحيلة وفعل شئ بهما واستعمل فى مطلق الأخذ والظفر لعلاقة الإِطلاق والتقييد والواو للأعداء { يَكُونُوا لكُمْ أعْدَاءً } ضارين لكم ديناً ودنيا ولا يقنعوا منكم بالإِسرار إِليهم الذى فعلتم أو أعداء ظاهرة صريحة أى تظهر عداوتهم وقد صرح أول السورة بالعداوة فالمراد هنا هو إِظهارها، ولذلك قيل المراد هنا لازم العداوة وهو ظهور عدم نفع التودد { وَيَبْسُطُوا إِليْكُمْ أيْدِيَهُمْ وَألْسِنَتُهُم بِالسُّوءِ } الضرب بالأَيدى والأسر والشتم بالأَلسنة والضرب بالعصا والسيف ضرب باليد.
{ وَوَدُّوا لَوْ تَكفُرُونَ } عطف على ضل الخ فهو للاستقبال كما هو جواب الشرط أو المراد بالود إِظهاره على أنه قد تقدم ودهم أن تكفروا كما لا يخفى أو المراد زيادة الود أو قوته لأَنه ولو تقدم فيهم ينهضون فيه ضرورة إِذا قهروكم أو تقدمت بالنوع وكانت بعد الغلبة منهم بالإِفراد منكم أو العطف على مجموع إِن الشرطية فلا يتسلط عليه معنى الشرط كما تسلط إِذا عطف على جوابه.
ولا إِشكال فى تسلطه لما علمت من تأويل الود بلازمه أو بإِظهاره مع أنه قد يكون العطف على الجواب لشدة الارتباط وليس مقصودا بالذات للشرط نحو إِن ظفرت بغريمى أخذت حقى منه وأخله وقد يتوسط ما بالذات كما إِذا جعلنا المقصود بالذات هنا هو يبسطوا، وأما العداوة وود كفركم فلشدة الارتباط وعبر فى الود بالماضى لأن ود الكفر أهم شئ للمشركين وأسبقه أن يكون من المؤمنين لعلمهم رغبة المؤمنين فى الإِيمان فيهتموا أن ينزعوا منهم أحب الأشياء إِليهم الذى بذلوا فيه أنفسهم وأموالهم ودنياهم.
{ لَن تَنفَعَكُمْ } بالتنجية من النار ولا بإِدخال الجنة { أرْحَامُكُمْ وَلا أوْلاَدُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ } أقاربكم ولا أبناؤكم وبناتكم الذين تخونون الله ورسوله من أجلهم بإِفشاء أسراره إِلى المشركين من أجلهم حماية عنهم وأصل الرحم مستقر الجنين من المرأة فى بطنها واستعمل فى الأقارب أو القرابة حتى صار كالحقيقة أو صار حقيقة فالمراد القرابة أو الأقارب، ويجوز أن يجعل مجازاً عن أحدهما أو يقدر مضاف أى ذوو أرحامهم ويناسب كونه بمعنى الأقارب أو ذوى القرابة قوله تعالى ولا أولادكم ويوم متعلق بتنفع ويجوز تعليقه بقوله تعالى { يَفْصِلُ } وقوله { بَيْنكُمْ } نائب الفاعل بنى على الفتح لإِضافته لمبنى راسخ فى البناء وهو الضمير كذا قيل أو نائبه ضمير الفصل أى يفصل الفصل أى يوقع الفصل وقيل تجوز نيابة الظرف مع بقائه معربا منصوبا، و المراد بالفصل بينهم الفصل بالهول كما قال تعالى:
{ { يوم يفر المرء من أخيه وأمه } [عبس: 34 - 35] الخ وكل يقول نفسى نفسى بلسان الحال، وقد يكون بلسان القال إِذا طلب نفعا من نحو قريب أو صديق أو زوج.
{ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } تجازون عليه وأكد الزجر عن رفض حق الله عز وجل لنحو القرابة بقوله تعالى { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } الخ لأن الحب فى الله والبغض فى الله من أوثق عرى الإِسلام والأسوة الإِيتاء أى الاقتداء ففى بمعنى الباء فى قوله تعالى { فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ } أو أسوة خصلة يقتدى بها وفى على ظاهرها يتعلق بمحذوف نعت لأسوة ويجوز أن يكون أسوة شخص يقتدى به مأخوذ من إِبراهيم والمؤمنين كقولك رأيت من زيد بحرا فيكون تجريداً وفى إِبراهيم يتعلق بمحذوف نعت أيضاً ولكم خبر كان وأسوة اسمه أو متعلق به وأسوة فاعلة، أو تعلق فى بكانت أو بمحذوف خبر ثان أو نعت ثان، والذين معه هم المؤمنون لأنهم ولو لم يكونوا فى حين مكافحته لنمروذ لكن وجدوا بعد ذلك فلا حاجة إِلى ما قيل إِن الذين معه هم الأنبياء قبله القريبين من عصره قبله وبعده والداعى لذلك أنه لم يوجد وقت المكافحة مؤمن إِلا هو وسارة.
كما روى أنه لما هاجر إِلى الشام قال لسارة ما على وجه الأرض من يعبد الله غيرى وغيرك. { إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءَاءُ مِنْكُمْ } الخ قالوا هذا بعد وجودهم ولا إِشكال والخطاب للمشركين وانظر كيف يتعلق إِذ بكان أو بخبرها مع أن المخاطبين لم يوجدوا فى زمان إِبراهيم ومن معه الجواب أنه ثبت للمخاطبين ذلك من زمان إِبراهيم كما تقول هذا العبد لولد فلان إِذا ولد ومن العجيب جعل بعضهم إِذ بدلا من أسوة مع أن الوقت ليس نفس الأسوة ولا بعضها ولا اشتملت عليه الأسوة وتعالى الله عن البداء والغلط وكأنه راعى اشتمال الوقت على قول إِنا برءاء منكم الذى هو أسوة فيكون بدل اشتمال بتكلف ومفرد برءاء برئ ككريم وكرماء وشريف وشرفاء { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُون اللهِ } من الأصنام والكواكب وغيرها، وبين البراءة بقوله تعالى { كفَرْنَا بِكُمْ } الخ والخطاب للقوم وما يعبدون تغليباً للمخاطب على الغائب وللعاقل على غيره، فلا حاجة إِلى تقدير كفرنا بكم وبما تعبدون تمسكاً بدلالة ما قبله عليه، و الكفر بذلك استعارة بأن شبه الكفر بذلك بالكفر بما لا يجوز الكفر به، لجامع مطلق النفى، وذلك مشاكلة وتهكم أو ذلك كناية عن عدم الاعتداد بشأْنهم وشأْن ما يعبدون.
{ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ } ضد الصداقة والصداقة المحبة { وَالْبَغْضَاءُ } شدة البغض ضد الحب، وقيل العداوة منافاة الالتئام قلباً والبغض نفار النفس عن الشئ، وتستعمل العداوة فى التخاذل دون البغضاء، فإِنها ما فى القلب من النفار فقط { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } القول باق على المصدرية، فما بعده مفعول به له أو بمعنى مقول فما بعده بيان أو بدل، وذلك استثناء من أسوة منقطع، أى لكم الاقتداء بإِبراهيم عليه السلام، والذين معه فى البراءة من الكفرة، لكن استغفاره للكافر ليس لكم الاقتداء به فيه، فتجب عليكم البراءة من الكافرين ويحرم عليكم الاستغفار وإِبداء الرأفة.
قال الله تعالى:
{ { ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم } [التوبة: 113]. أى من بعد ما تبين لهم أن المشركين لا يدخلون الجنة بل النار، وخص الله عز وجل إِبراهيم بالاستغفار لأبيه المشرك، ثم أخبره الله أنه يموت مشركاً ونهاه عن الاستغفار له، وعِلْمُه بموته مشركا لا أول له، ويجوز أن يكون الاستثناء متصلا من محذوف، أى لقد كان لكم أسوة حسنة فى كلام إِبراهيم لقومه وأُموره من فعل واعتقاد إِلا قوله لأبيه: لأستغفرن لك، أى إِلا الاستغفار للمشرك، فلا تقتدوا به فيه فإِنه أمر خص به ثم نسخ له إِن الله لا يغفر أن يشرك به، وإِذا فسرنا الأسوة بإنسان مجرد من إِبراهيم، فالاستثناء منقطع ولا بد وإذا فسر بأمر يقتدى فيه به صح الاتصال والانقطاع، وما كان استغفار إِبراهيم لأبيه إِلا عن موعدة وعدها إِياه سأستغفر لك ربى، وتوجيه الاستثناء إلى الوعد بالاستغفار مع أن الموعود هو الاستغفار وقد أنجزه بقوله: واغفر لأبى، إن الوعد هو الحامل له على الاستغفار، فأولى أن يستثنى نفس الاستغفار.
وقيل وعده بالاستغفار كناية عن الاستغفار، إذ كان وعده لا يتخلف ولا سيما أنه قد أكده، وليس وعده بالاستغفار ولا استغفاره معصية منه وليس معصية أيضاً من غيره حتى ينزل المانع وهو الوحى. وزعم قوم أن اسغفاره فى الدنيا وتبين أنه من أصحاب الجحيم فى الآخرة، وهو خلاف الظاهر، ووجه أنه استعمل التبين المستقبل بمنزلة الواقع الماضى لتحققه بعد وعدم تخلفه وليس بشئ.
{ وَمَا أمْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ مِن شَىْءٍ } الجملة حال من الضمير فى استغفرن ومن الاولى للابتداء تتعلق بأملك أو بمحذوف حال من شئ، والثانية صلة فى المفعول به ولو ملكت أكثر من الاستغفار لبذلته لك ومورد الاستثناء الاستغفار لنفسه، وأما لا أملك لك من الله من شئ فإظهار للعجز وتوحيد.
{ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ. رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } منصوب بقول محذوف معطوف على قالوا إِنا برءاء منكم الخ. أى وقالوا ربنا الخ، وهو من كلام إِبراهيم عليه السلام والذين معه، ويجوز أن يدخل فى قوله إِلا قول إِبراهيم فيكون مجموع قوله لأَستغفرن إِلى العزيز الحكيم مقولا للقول، أى إِلا مقول إِبراهيم الذى هو هذه الألفاظ، أو إِلا ذكر إِبراهيم هذه الألفاظ وهى ألفاظ حق وتوحيد لا تنسخ ولا تبطل فى حق أحد ما. والاستثناء منقطع فلا يضرنا بل لو جعلناه متصلا أيضاً لصح على أن الاستثناء منصب على المقيد وهو لأَستغفرن لك، لا على المقيد وهو ما أملك لك الخ.
ويجوز كونه مفعولا بفعل أمر محذوف لهذه الامة، أى قولوا ربنا أو يقدر بالواو عطفاً على لا تتخذوا، والخطاب للأمة أيضاً وأنبنا رجعنا مما يكون من معصية وإِهمال إِلى الطاعة وتوكلنا فى جلب المصالح ودفع المكاره، وتقديم الجارين والمجرورين الأَولين للاهتمام والحصر، والثالث كذلك وللفاصلة، ومعنى لا تجعلنا فتنة الخ. لا تجعلنا مفتونين للذين كفروا أى معذبين لهم بفتح الذال.
كما قال مجاهد لا تعذبنا بأَيديهم أو لا تجعلنا فاتنين لهم فى الدين بأَن تعذبنا بما شئت فيظنوا أنك عذبتنا لبطلان ديننا وحقية دينهم.
{ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ } أيها المؤمنون { فِيهِمْ } فى إِبراهيم والذين معه { أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } مثل ما مر { لِّمَن } بدل كل من لكم وإِن جعلنا الخطاب للناس عموماً فبدل بعض، والصحيح جواز إِبدال الظاهر من الضمير مطلقاً وخص الجمهور الجواز ببدل البعض والاشتمال والغلط قيل أو صفة لحسنة، والأَولى فى النعت أن يكون نعتاً لأُسوة ثانيا، ويجوز تعليقه بحسنة. والمعنى على الإِبدال ظاهر، وأما وصف أسوة أو حسنة به أو تعليقه بحسنة فكيف يكون كذلك مع قوله لكم الجواب، إِنه كقولك إِن لك فى الدار انتفاعاً تاماً لمن يريد فلكم أسوة تحسن أو تثبت للراجين فكن منهم.
{ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ } أى ثواب الله أو لقاء الله ونعيم الآخرة أو النصر على الأَعداء ويوم القيامة خصوصاً، والرجاء الطمع والأَمل أو الخوف، والأَول أولى وذلك إِشارة إِلى أنه من يرجو الله واليوم الآخر لا يترك الاقتداء بهم وإِن ترك الاقتداء بهم كإِنكار البعث والجزاء، وكأَنه متولٍ عن الإِيمان، كما أشار إِليه بقوله عز وجل { وَمَن يَتَوَلَّ } عن الطاعة ومنها ذلك الاقتداء، أو عن الإِيمان ويلتحق به من تولى عن الاقتداء { فَإِنَّ اللهَ هُوَ الْغَنِىُّ } عن الاقتداء وعن كل شئ { الْحَمِيدُ } المحمود فى صفاته وأقواله وأفعاله.
{ عَسَى اللهُ أن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ } خطاب للمؤمنين { وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم } من أقاربكم المشركين الذين صبرتم على فراقهم لوجه الله وزل من زل فى شأْنهم كحاطب { مَوَدَّةً } حباً لدخولهم فى دين الإِسلام بعد بغضهم لمخالفته من الآباء والأَبناء والأُمهات وسائر الأَقارب بل والأَصحاب والجيران وهذه منة من الله تعالى وعدها للمؤمنين تطييباً لأَنفسهم وتسلية أنجزها الله فى إِفراد قبل الفتح وفى العموم بعده، ومن ذلك إِسلام أبى سفيان بن حرب وغيره من مسلمة الفتح وفيه أسلم أكثر أهل مكة { وَاللهُ قَدِيرٌ } على الأَشياء كلها ومنها التوفيق للإِيمان الذى تحصل به المودة { وَاللهُ غَفُورٌ } لمن زل فى شأْنهم وتاب ولغيره ممن تاب من شرك وما دونه { رَّحِيمٌ } بالنعم بعد التنجية من العذاب.