التفاسير

< >
عرض

وَإِذْ قَالَ عِيسَى ٱبْنُ مَرْيَمَ يٰبَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ ٱللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ ٱلتَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي ٱسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـٰذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ
٦
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَىٰ إِلَى ٱلإِسْلاَمِ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٧
يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ ٱللَّهِ بِأَفْوَٰهِهِمْ وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْكَٰفِرُونَ
٨
هُوَ ٱلَّذِيۤ أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ
٩
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
١٠
تُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
١١
يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
١٢
وَأُخْرَىٰ تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّن ٱللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ
١٣
-الصف

تيسير التفسير

{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابنُ مَرْيَمَ } عطف على إِذ الأولى بلا خفاء إِذا قدرنا فى الأُولى اذكر ولا حاجة إِلى تقدير اذكر مع قرب إِذ الأُولى وظهور المعنى فلو قدر أحد عاملا لعمرو فى قولك أكرم زيداً فإِنه أهل لأَن يكرم عمرا لكان كالعبث نعم إِن نصب إِذ الأُولى بزاغوا أو نحوه محذوفا قدر لهذا اذكر { يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ } لم يقل يا قومى كموسى عليهما السلام لأَن نسبه فى بنى إِسرائيل من أمه فقط لا من أب ولا أب له بل هو خلق من الله عز وجل والنسب يعتبر بالأَب فى العادة وفى الأَصالة وللإِشارة إِلى أنه عامل بالتوراة وأنه مثلهم فى أنه من بنى إِسرائيل لأَن أمه منهم هضماً لنفسه بأَنه لا أتباع له ولا قوم، وفى ذلك استعطاف بالخضوع واستعطاف إِليهم بأَنه مثلهم فى العظمة بأَنه من أولاد إِسرائيل، وكانوا يتعاظمون بكونهم من بنى إِسرائيل.
{ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ } بالإِنجيل واتباع التوراة والزبور والصحف كما قال الله عز وجل { مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ } لما حضرنى من التوراة وخصها بالذكر لعظمها ومصدقا حال من المستتر فى رسول لأَنه فعول بمعنى مفعول كحلوب بمعنى محلوبة إِلا أنه فى الوصف من الثلاثى لمعنى الرباعى كاسم المصدر من الثلاثى لمعنى المزيد عليه كاغتسل غسلا والرباعى أرسل وذكر تصديقه بالتوراة ليجلبهم إِلى الإِيمان به { وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي } تبشيراً تضمنته التوراة وقد بسطت أدلة نبوءة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته من الكتب المتقدمة فى رد الشرود إِلى الحوض المورود فمن ذلك ما فى الفصل العشرين من السفر الخامس منها أقبل الله من سيناء وتجلى من ساعير بالراء أو النون روايتان.
وإِقبال الله إِقبال وحيه ومن هو على يده وظهر من جبال فاران أى مكة ومعه آلاف من الصالحين، وفى لفظ معه الربوات الأَطهار عن يمينه، وفى الفصل الحادى عشر من هذا السفر: يا موسى إِنى سأَقيم لبنى إِسرائيل نبياً من إِخوتهم مثلك، أجعل كلامى فى فمه ويقول لهم ما أمره به ومن لا يقبل قول ذلك النبى الذى يتكلم باسمى أنتقم منه ومن سبطه أى أتباعه وقال من إِخوتهم لأَنه من ولد إِسماعيل عليه السلام أخى اسحاق لا من أولاد إِسرائيل وهو يعقوب { اسْمُهُ أحْمَدُ } أصله اسم تفضيل من المبنى للفاعل أى أعظم الخلق حمداً لله تعالى أو أكثرهم حمداً لله تعالى، وإِمّا أن يكون اسم تفضيل من المبنى للمفعول، أى حمده الله تعالى أكثر من حمد غيره أو حمده الخلق أكثر مما حمدوا غيره، والخلق يشمل الملك والجماد والحيوانات أو الله تعالى وخلقه بفضله أو أعظم الله و خلقه حمده فلا دليل عليه لأَن بناء اسم التفضيل من المبنى للمفعول غير مقيس ولا دليل عليه هنا ولو ورد فى قوله فالعود يا أحمد أحمد، وقبح الله النصارى أنكروا رسالة سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - وحرفوا الإِنجيل ليقولوا للناس ما وجدناه فيه، عن كعب الأَحبار أن الحواريين قالوا لعيسى عليه السلام يا روح الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم، يأْتى بعدكم أمة أحمد حكماء علماء أبرار أتقياء كأَنهم فى الفقه أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق ويرضى عنهم باليسير من العمل.
وفى البخارى ومسلم عن جبير بن مطعم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لي خمسة أسماء، أنا محمد وأنا أحمد وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الباطل ويروي الكفر وأنا الحاشر الذي يحشر الناس تحت قدمي يوم القيامة وأنا العاقب الذي ليس بعدي شيء" . وقد ذكرت أحاديث الإِنجيل وكتب أشعيا وغيرها على رسالته فى رد الشرود، ومن ذلك ما ذكر فى الفصل الخامس عشر من إِنجيل يوحنا. قال المسيح من يحبنى يحفظ كلمتى وأبى يحب الفارقليط روح الحق الذى يرسله أى بعلمكم كل شئ وإِليه يأْتى وعنده يتخذ المنزلة. وقلت لكم لتحفظوا فإِنى لا أُقيم فيكم فبلغوه سلامى وإِنى إِن لم أذهب إِلى أى لم يأْتكم الفارقليط ويعلمكم ما للأَب وعندهم فى الإِنجيل وغيره استعمال الأَب بمعنى الرب والعظيم كما تقول المغاربة البربرية بابه ربى، وما زال اليهود والنصارى إِلى الآن يزيدون كذباً وتحريفا لعنهم الله عز وجل ولعن من يعينهم لما سمعوا بنزول الوحى عليه فى الجبل قالوا علمه فيه بشر، قال أبو موسى سمعت النجاشى يقول أشهد أن محمداً رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنه الذى بشر به عيسى ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت فيه من أمر الناس لأَتيته حتى أحمل نعليه، أخرجه أبو داود. ويروى أنه قال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إِن أمرتنى أن آتيك آتك.
وعن عبد الله بن سلام مكتوب فى التوراة أن صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه وفى البيت قيل موضع غير عيسى عليه السلام { فَلَمَّا جَاءَهُم } عيسى { بِالْبَيِّنَاتِ } كإِحياء الموتى بإِذن الله وإِبراء الأَكمه والأَبرص.
{ قَالُوا هَذَا } أى ما أتى به من البينات { سَحْرٌ } أو الإِشارة لعيسى وسحر بمعنى ساحر أو ذو سحر أو مبالغة ويؤيد التفسير بساحر قراءة يحيى بن وثاب هذا ساحر والإِضمار فى جاء لعيسى وهو المحدث عنه أو ضمير جاء للنبى - صلى الله عليه وسلم - بشرهم به عيسى وكفروا به وكفروا بعيسى وقبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - آمنوا به { وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدعَى إِلَى الإِسْلاَمِ } لا أظلم ممن يدعى إِلى الإِسلام وهو دين الله الحق الذى به النجاة والفوز ويضع موضع الإِيمان الافتراء على الله بإِثبات ما نفى ونفى ما أثبت وهم اليهود وكذا النصارى ومن آمن منهم ولم يكفر سمى مسلما وليس اسم الإِسلام مختصاً بهذه الأمة { وَاللهُ لاَ يَهدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } هداية توفيق بل هداية بيان، ويجوز أن نقول هداية إِرشاد بمعنى هداية تبيين تقول أرشدته أى بينت له الرشاد ولم يرتشد ويقال أرشدته صيرته راشدا وهذا هو المنفى عنهم، { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ } مفعول يريد محذوف واللام التعليل أى يريدون الافتراء ليطفئوا أو يريدون إِبطال القرآن بالتكذيب أو يريدون إِبطال حجج الله تعالى أو يريدون إِهلاك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأَراجيف أو إِبطال شأنه - صلى الله عليه وسلم - أو إِبطال ظهوره، وما صدق ذلك كله واحد، وكل ذلك غير إِطفاء النور على أن إِطفاءه هو إِزالة ما يتولد من شهرة الدلائل والحجج وما ذكر والعمل به، وإِن شئت فاللام صلة ومصدر يطفئ مفعول يريد وحرف المصدر محذوف هو أن وبعض جعل اللام حرف مصدر فالمصدر مفعول.
أبطأَ الوحى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوماً فقال كعب ابن الأشرف - لعنه الله - لليهود أبشروا أطفأَ الله نور محمد فيما كان ينزل عليه وما كان ليتم نوره، فحزن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنزل قوله تعالى: يريدون ليطفئوا نور الله بأَفواههم. وتسمية ذلك نوراً على الاستعارة التصريحية. ويجوز أن يكون الكلام استعارة تمثيلية { وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ } إِبطالا لدعواهم وتهكما بهم كما تقول فلان يطفئ نور الشمس بمعنى يجحد ما لا يخفى { وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ } إِتمامه، { هُوَ الَّذِي أرْسَلَ رَسُولَهُ } محمداً - صلى الله عليه وسلم - { بِالْهُدَى } بالبيان والإِرشاد وهذا معنى مصدرى وتلاوة القرآن إِرشاد وبيان لسامعه ولا مبالغة فى ذلك وكذا إِيقاع المعجزة بيان وإِرشاد، وهى داخلة فى الهدى، وإِن جعلنا الهدى بمعنى الاهتداء أو بمعنى نفس القرآن لا يفيد تلاوته أو نفس المعجزة لا يفيد إِيقاعها، فإِطلاق الهدى عليها مبالغة { وَدِينِ الْحَقِّ } معانى القرآن والعمل بها { لِيُظْهِرُوهُ } يعليه { عَلَى الدِّينِ } (الـ) للاستغراق ونص عليه بقوله تعالى: { كُلِّهِ } أديان الكفرة { وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ } وهذا وعد أنجزه الله تعالى بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا دين شرك إِلا مقهور بدين الإِسلام كما فى زمان هارون الرشيد، ويسمى عرس الإِسلام.
وعن مجاهد أن هذا فى زمان عيسى عليه السلام لا يكون فى الأَرض إِلا دين الإِسلام ولو تقدم قبله زمان لم يبق للإِسلام فيه إِلا اسمه، وقيل المراد بإِظهاره على الدين كله الإِعلاء بالدلائل والبراهين وهذا فى كل وقت لا ينقطع ومن العجيب جعلهم ولو كره الخ فى الموضعين حالا مع أنه خارج عن أن يكون مفردا وعن أن يكون كلاماً تاماً وإِن جعلنا الواو عاطفة على محذوف والمحذوف حالا صح، أى لو لم يكره الكافرون ولو كره الكافرون أو لو لم يكره المشركون ولو كره المشركون ومع هذا ما صح إِلا بتأْويل بقولك مطلقاً، وعبر أولا بالكافرون لظهور أن النور نعمة عند كل أحد تستحق الشكر وهم كفروها بخلاف ما يقول الشارع إِنه هدى ولم يذكره باسم النور فإِن منكريه لم يقروا أنه نور ولا أن الله سماه باسم النور.
{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } بأَلسنتهم دون قلوبهم، أو إِيماناً ضعيفاً ناداهم ليخلصوا إِيمانهم ويجاهدوا فى سبيل الله بإِخلاص فتحصل لهم بذلك المغفرة وإِدخال الجنة وإِن أريد المؤمنون الخلص فعلى طريق التهييج والإِلهاب بالدوام على ما هم عليه من الإِيمان والجهاد والزيادة وجمع الجهاد إِلى الإِيمان إِن لم يقع قبل ويقوى هذا قوله تعالى: وأُخرى تحبونها نصر الخ لأَن المنافقين ومن ضعف إِيمانه لا رغبة لهم فى نصر دين الله والفتح بل للمنافقين رغبة فى نصر الشرك إِلا أن يقال وأُخرى تحبونها إِن أسلمتم وأخلصتم { هَلْ أدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ } عظيمة { تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } يوم القيامة وتوصلكم إِلى دائم النعيم يوم الندامة { تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأنْفُسِكُمْ } جواب سؤال كأَنه قيل ما هذه التجارة؟ فقيل تؤمنون والمعنى الأَمر، أى آمنوا وجاهدوا بدليل جزم يغفر ويدخل فى الجواب ويدل لذلك أيضاً قراءة ابن مسعود: آمنوا بالله ورسوله وجاهدوا بصورة الأَمر.
وقراءة زيد بن على: تؤمنوا وتجاهدوا بحذف النون على تقدير لام الأَمر وفيها دخول للام الأَمر على مضارع المخاطب وهو ضعيف وإِنما جئ به بصيغة الإِخبار إِيذاناً بوجوب الامتثال حتى كأَنه قد وقع الإِيمان أو إِخلاصه فهو تعالى يخبر بهما واقعين فى الحال مستمرين أو مستقبلين لا يتخلفان. وقال الأَخفش المضارعان خبران لفظاً ومعنى مصدرهما بدل من تجارة، إِما على حذف حرف المصدر ورفع المضارع بعد حذفه كما هو وجه فى قوله تعالى:
{ { ومن آياته يريكم } [الروم: 24] وكقوله:

"ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى"

أى الذى يزجرنى أن أحضر الوغى لئلا أموت، وأما على تقدير حرف مصدر غير ناصب كما، وكلاهما خلاف الأَصل وأما على تنزيل المضارع منزلة الاسم كما هو وجه فى تسمع بالمعيدى { ذلِكُمْ } ذلكم الإِيمان والجهاد { خَيْرٌ لَّكُمْ } نفع لكم وهو مقابل المضرة أو أفضل لكم من أموالكم الممسكة وأنفسكم وأولادكم أو أفضل لكم على الإِطلاق. { إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } إِن كنتم من أهل الإِدراك للمصالح وجواب إِن أغنى عنه ما قبله أو يقدر إِن كنتم تعلمون مصالحكم ظهر لكم أنه خير لكم.
{ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنُ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ } إِن لم يجز ما فى جواب الأَمر كما إِذا قيل تؤمنون وتجاهدون إِخبار لفظا ومعنى فالجزم بإِن محذوفة، أى إِن آمنتم وجاهدتم يغفر لكم إِلخ. أو جواب استفهام محذوف، أى هل تؤمنون وتجاهدون أو هل تتجرون بالإِيمان والجهاد أو هل تقبلون أن أدلكم على تجارة يغفر ويجوز جزمه فى جواب الاستفهام المذكور فى الآية باعتبار أن دلالته - صلى الله عليه وسلم - على التجارة مظنة لحصول الامتثال فنزلت منزلة المحقق فلا يعترض بأَن مجرد الدلالة لا يوجب المغفرة وإِدخال الجنة وهذا الوجه إِنما يتم بشرط أن الخطاب للمؤمنين المخلصين الراسخين، فهم الذين تتأَثر فيهم الدلالة ومعنى طيب المساكن حسنها فى ذاتها بحيث تستلذ فى النفس فكيف وهى فى جنات عدن والمراد بالجنات هنا الشجر والنخل والنبات لا الدار المضادة لدار الأَشقياء بدليل مقابلتها بالمساكن لكن تلك الأَشجار والنخل والنبات فى دار السعداء، فلهم فيها أجنة ومساكن، والمراد بجنات عدن طبقات دار السعداء وهن ثمان كما أن طبقات دار الأَشقياء سبع { ذَلِكَ } المذكور من المغفرة وإِدخال الجنات والمساكن الطيبة { الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } أى المفوز به أو موجب الفوز العظيم أو حاصل الفوز العظيم أو يقدر المضاف أولا أى نيل ذلك هو الفوز العظيم الذى لا فوز فوقه إِلا كون أهله قد رضى الله عنهم فإِنه فوق كل خير.
{ وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا } مبتدأ خبره محذوف أى ولكم نعمة أُخرى مع تلك المغفرة وذلك الإِدخال أو مع ذلك الفوز، وتحبونها نعت لأُخرى ولو كان وصفا لأَن وصفيته ليست غير المغايرة أو نعت لمنعوته المحذوف وهو النعمة. { نَصْرٌ مِنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } بدل من أُخرى أو عطف بيان على جوازه فى النكرات أو خبر لمحذوف أى هى نصر والأَصل عدم الحذف، أو أُخرى مبتدأ خبره نصر وليس فيه أن لهم الأُخرى لكن تلويح، أو أُخرى مفعول لمعطوف على يغفر محذوف أى ويعطيكم أُخرى هى نصر أو منصوب بتحب محذوف على الاشتغال، وليس فيه أنها لهم إِلا بالتلويح والفتح القريب فتح مكة أو مطلق فتوح الإِسلام أو نزول مطلق الخير والنعم.
{ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ } معطوف على محذوف أى أبشر يا محمد وبشر المؤمنين، أو فأَبشر يا محمد بالفاء التفريعية أو يقدر قل قبل قوله عز وجل يا أيها الذين آمنوا ويعطف عليه بشر ويصح عطفه على تؤمنون لأَنه بمعنى الأَمر أى آمنوا وجاهدوا وبشر يا محمد المؤمنين، وفيه أنَّ تؤمنون وتجاهدون لأُمته والأَمر بالتبشير هو له وأيضا تؤمنون فى جواب سؤال عن التجارة وليس بشر فى ذلك فيجاب بأَنه وأُمته كواحد حتى أنه داخل فى يا أيها الذين آمنوا وأن الزيادة فى الجواب على السؤال جائزة كقوله تعالى،
{ { هي عصاي أتوكأُ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أُخرى } [طه: 18].