التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
٩
فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلاَةُ فَٱنتَشِرُواْ فِي ٱلأَرْضِ وَٱبْتَغُواْ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
١٠
وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً ٱنفَضُّوۤاْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً قُلْ مَا عِندَ ٱللَّهِ خَيْرٌ مِّنَ ٱللَّهْوِ وَمِنَ ٱلتِّجَارَةِ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلرَّازِقِينَ
١١
-الجمعة

تيسير التفسير

{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ } يكفى أذان واحد كما كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - مؤذن واحد يؤذن على باب المسجد إِذا جلس صلى الله عليه وسلم على المنبر لكثرة الناس، وإِذا نزل عن المنبر أقام الثانى الصلاة، والمعتبر هو الأَذان الأَول للأَحكام كوجوب السعى وحرمة البيع، وهذا هو الحق ولا وجه لإِلغاء الأَول مع أنه العمدة والمتبادر من الآية وغيرها، وإِنما نرى الثانى المحدث كالتأكيد له كالإِقامة تأَكيدا للأَذان، ولأَنه لم يوجد على عهده - صلى الله عليه وسلم - والخليفتين بعده إِلا واحد فهو الأَذان المأَمور به وليس بثان والذى بين يدى المنبر على عهده - صلى الله عليه وسلم - هو الإِقامة لا أذان ثان، ولما كثر الناس فى زمان الإِمام عثمان زاد نداء ثانيا على الزوراء فثبت الأَمر على ذلك، والزوراء موضع مرتفع كالمنارة عند سوق المدينة قريب من المسجد، ومن بمعنى فى كقوله تعالى: { { أروني ماذا خلقوا من الأَرض } [فاطر: 40، الأحقاف: 4]. أى فى الأَرض، على أحد أوجه، ومن العجيب جعلها تبعيضية وجعلها لبيان إِذا ولم يسمع بيان إِذا قط بمن ولا تعقبها بالبعضية ولا يخبر على إِذا بأَنه يوم الجمعة، وإِذا جعلت من لبيان إِذا، فكأَنه أخبر عن إِذا بأَنه يوم الجمعة والجمعة علم لليوم المخصوص فالإِضافة للبيان على أن لفظ الجمعة وحده يطلق عليه، ولو بلا ذكر يوم كما عليه جمهور أهل اللغة وتسميته متقدمة على نزول الآية، وهو اسم جنس يقرن بالـ ولا يقرن، وقيل لازمة والأَول أصح، ومعنى الجمعة بضم الميم هو معنى الجمعة بإِسكانها كما قرأ به عبد الله بن الزبير بن العوام وزيد بن على وهو رواية عن أبى عمرو بالإِسكان وهو المجموع فيه كالضحكة بضم فاسكان بمعنى المضحوك منه وهما وصف أو هما مصدر بمعنى الاجتماع وكل ذلك فى الأَصل.
قال الأَنصار قبل الهجرة وقبل نزول السورة لليهود يوم وللنصارى يوم فتعالوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه ونذكر الله عز وجل، فاجتمعوا إِلى أسعد بن زرارة فجعلوه يوم الجمعة فصلى بهم ركعتين ووعظهم وذبح لهم شاة تغدوا وتعشوا بها وذلك فى قرية على ميل من المدينة فسموه بذلك يوم الجمعة، وقيل سمى لاجتماع الناس فيه للصلاة جماعات وأول جمعة صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأَصحابه لما هاجر نزل على بنى عمرو بن عوف يوم الاثنين لاثنتى عشرة مضت من ربيع الأَول، حين امتد الضحى فأَقام بقباء يوم الاثنين والثلاثاء والأَربعاء والخميس وأسس مسجدهم وخرج منهم يوم الجمعة، فأَدركته صلاة الجمعة فى بنى سالم بن عوف فى بطن واديهم وخطب وصلى صلاة الجمعة واتخذ فيه مسجدا، أعنى أن ذلك الموضع الذى فيه اتخذه مسجدا وعرفه الناس وقصدوه ويأتى ذلك قريبا، وقيل أول من سماها كعب بن لؤى، وقيل ذلك يسمى عروبة ويوم عروبة ويوم العروبة، والأَفصح ترك (الـ)، وعروبة سريانى عرب ومعناه الرحمة، والعجمى لا تدخله (الـ) إِلا للمح الأَصل كشلوبين بمعنى أشقر أبيض، فتدخل الـ لهذا المعنى. وقيل سمى لأَنه اجتمع فيه آدم وحواء.
وفى الحديث سمى لأَنه جمعت فيه طينة آدم، وعبارة بعض اجتمع فيه خلق آدم وظاهره أنه تم فى جسده، وقيل لأَنه اجتمع فيه الخلق كلهم أى تم، وآخرهم آدم. وقال عبد الرحمن بن كعب بن مالك قلت لأَبى: لماذا تترحم على أسعد بن زرارة كلما سمعت الأَذان يوم الجمعة؟ فقال لأَنه أول من جمع بنا فى نقيع الخضمات من حرة بنى بياضة. فقلت: كم أنتم يومئذ؟ فقال: أربعون كما فى أبى داود. وبعد ذلك نزل فرضها وشرطها وكيفيتها، ولم يكن أسعد ومن معه يصلون الخمس، ونزلت فى مكة وأُقيمت فى المدينة حين هاجر وقيل فى العام الثانى وقيل وقيل إِلى أن قيل فى العام العاشر عشرة أقوال، واختير أنها فى السادس وأول من أقامها على كيفيتها النبى - صلى الله عليه وسلم - فى المدينة، خطب وقال:
"فرضت في مقامي هذا ولا شيء من أُمور الفرض والنفل لمن لم يقمها ومن تاب فمن تركها تاب الله عليه" . وأول من صلاها قبله من الصحابة على وجهها مصعب بن عمير أول من هاجر وأقامها هو وأصحابه، وهو وهم اثنا عشر رجلا وذلك على غير وجوب لقوله - صلى الله عليه وسلم - فرضت فى مقامى هذا، وقيل صلاها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجمع الأَولاد والنساء وصل بهم الركعتين يوم الجمعة" يعنى كل من قدرت عليه وقد فرضت فى مكة ولم يقدر عليها إِلا فى المدينة ولا يخفى أن الإِسلام يذكر فى المدينة قبل العقبات، ومن العقبات فلا مانع من أن الأَنصار فيهم من يصلى الخمس ويصلى الجمعة كما جاءه عن رسول الله فى مكة إِذ يذكرها من غير أن تفرض عليهم حتى يهاجر.
{ فَاسْعَوْا } من حيث يسمع النداء ويدرك الصلاة ماشيا عند ابن عمر وأحمد وعن ابن عمر وأبى هريرة من ستة أميال وقيل من خمسة وقيل من أربعة وقال مالك من ثلاثة. وقال أبو حنيفة من المصر الذى فيه الأَذان ولو كان لا يسمع الأَذان لا من خارج، ولو كان يسمع إِلا أن يشاء، وفى أبى داود عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"الجمعة على من سمع النداء" ولا يخفى أنه تلزم الأَصم إِذا كان فى موضع يسمع الأَذان فيه غيره، وقالوا يعتبر صوت مؤذن جهور الصوت فى وقت تكون الأَصوات هادئة والرياح ساكنة، وقيل تجب على من أواه الليل، ولا يجوز أن يسافر الرجل يوم الجمعة بعد الزوال قبل أن يصلى الجمعة، وقيل يجوز إِذا كان يفارق البلد قبل خروج الوقت، وإِذا سافر الزوال فلا بأس إِلا أنه يكره إِذا طلع الفجر إِلا إِن خرج لطاعة كحج وغزو وقيل لا يجوز بعد الفجر، وسمع عمر رجلا يقول لولا أن اليوم يوم الجمعة لسافرت، فقال: سافر فإِن الجمعة لا تحبس عن سفر، وكذلك يدل على الجواز ما رواه الترمذى أنه صلى الله عليه وسلم - أمَّرَ عبد الله بن رواحة على سريَّة، فصلى الجمعة معه - صلى الله عليه وسلم - فقال له - صلى الله عليه وسلم - "ما منعك أن تغدو مع أصحابك؟ قال: أُريد أن أصلي الجمعة معك ثم ألحقهم. فقال: لو أنفقت ما في الأَرض ما أدركت فضل غدوتهم" ، إِلا أن الحديث فى السفر للطاعة.
{ إِلَى ذِكْرِ اللهِ } أى إِلى الصلاة أو وعظ الإِمام، أى أسرعوا إِليه بقلوبكم ناشطة وحريصة ونية وخشوع، وأما المشى فمتوسطا، وقد جاء فى الحديث ذكر المشى فى شأن الصلاة عموما بأَنه بلا إِسراع.
قال البخارى ومسلم وغيرهما عن أبى هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
"إِذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون واتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأَتموا " والسعى فى الآية مجاز عن الحرص والرغبة بالقلوب لعلاقة الشبه بالمشى بالأَرجل أو لعلاقة اللزوم والتسبب، وفى رواية "إِذا أُقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون واتوها تمشون وعليكم السكينة. إِن أحدكم إِذا كان يعمد إِلى الصلاة فهو في الصلاة" وذلك كقوله تعالى: { { فلما بلغ معه السعي } [الصافات: 102]. أى المشى وكان عمر يقرأ فامضوا إِلى ذكر الله، ولعلها قراءة تفسير. قال الحسن: والله ما هو بإِسراع بالأَقدام بل بالقلوب والسنة المشى إِلا لبعد أو ضعف، وقومنا يفسدون جمعتهم برفع الأَيدى وأخذ الأَيمن على الشمال لأَحاديث وضعها أوائلهم أو غيرهم وهب أنها صحت عنه - صلى الله عليه وسلم - لكن فعل ذلك لداع مثل أن يقع سلاح من تأَبطه للشر، وهل صح أنه أدام - صلى الله عليه وسلم - ذلك كما يديمه هؤلاء ولو أدامه لشهر ولم يختلف فيه وكذا يفسدون سائر صلواتهم.
وذكرُ اللهِ الخطبةُ وقيل الصلاة ورجح بعضهم الأَول والأَولى أنه الخطبة والصلاة معا وليست الصلاة كلها ذكرا لله، فذلك تسمية للكل باسم البعض وكذا الخطبة، أو المراد بالذكر ما يدل على الله ويستعمل فى شأنه فذلك مجاز لغوى حقيقة عرفية خاصة ويكفى القليل من الذكر فى الخطبة كالحمد والصلاة والسلام وهى واجبة كما فى الحديث إِلا على الصبى والمرأة والمريض والمملوك، كما رواه أبو داود مرفوعا عن طارق بن شهاب وقيل تجب على العبد، وبه قال الحسن وقتادة والأَوزاعى ولا تجب على مسافر. كما روى أنه - صلى الله عليه وسلم - سافر ولم يصلها كما فى زمان فتح مكة، ولكن تجوز له كما روى أنه نزل فى أهل قباء على بنى عمرو بن عوف وأقام الاثنين والثلاثاء والأَربعاء والخميس وأسس مسجدهم وخرج يوم الجمعة إِلى المدينة فأَدركته صلاة الجمعة فى بنى سالم بن عوف فى بطن وادٍ لهم فخطب وصلى الجمعة، وهى أول جمعة صلاها وتجب بثلاثة وإِمام رابع، ونسب لأَبى حنيفة، وروى قديما للشافعى وهو الواضح، وقيل على اثنين أحدهما إِمام وقيل ثلاثة أحدهم الإِمام، ونسب لأَبى يوسف ومحمد وروى قديما للشافعى أو بسبعة أو تسعة أو اثنى عشر أو ثلاثة عشر أو عشرين ونسب لمالك، أو ثلاثين وهو رواية عن مالك، أو أربعين وهو جديد الشافعى وهو ما فى مصر إِذ هرب إِليها وقديمه ما له فى بغداد قبل الهروب، والأَربعون بُلَّغ أحرار ذكور عاقلون مقيمون فى موضع لا يظعنون شتاء ولا صيفا إِلا ظعن حاجة، زاد عمر بن عبد العزيز أن يكون فيهم وال. وعن على لا جمعة إِلا فى مصر جامع، ولم يشترط الشافعى الولى وقال أبو حنيفة تنعقد بأَربعة والوالى شرط، وقال الأَوزاعى وأبو يوسف بثلاثة إِذا كان فيهم وال، ولا تصح إِلا فى موضع واحد. وقال أحمد تصح فى موضعين إِذا كثر الناس وضاق الجامع، وشهر عن أحمد أو خمسين أو ثمانين والإِمام فى ذلك كله واحد من العدد، وزعم القاشانى أنه تصح برجل وحده وهو قول ساقط وهى خلف الإِمام العدل أو خلف من أمره الإِمام بإِقامتها، وأقول بوجوبها خلف الإِمام الكبير الجائر إِذا كان حريصا على إِقامة دين الإِسلام ولما يدخل فيها ما يبطلها، ويجزى فى الخطبة حمد الله تعالى والصلاة والسلام على نبيه - صلى الله عليه وسلم - ويوصى بتقوى الله تعالى، والخطبة واجبة لا تصح الجمعة إِلا بها وهى قائمة مقام الركعتين، وقال داود الظاهرى مستحبة.
{ وَذَرُوا } اتركوا { الْبَيْعَ } المعاملة بالمال ولو إِجارة أو شراء أو سلما أو عقد الرهن وغير ذلك، وذلك إِطلاق للخاص على العام وقيل المراد البيع والشراء وأما غيرهما فبالنسبة ويحتمل أن يكون عبارة عن كل شاغل كإِطلاق الأَكل على مطلق الإِتلاف فيحرم كل مباح شاغل والأَمر للوجوب، وعن عطاء شملت الآية أن يأتى الرجل أهله وأن يكتب كتابا وزعم بعض أن الأَمر فى الآية للتنزيه وهو خطأ وإِن وقع بيع أو غيره من العقود صح وعصى متعمده وقيل فسق وقيل بطل العقد وعليه ابن العربى وإِن نسيا أو لم يسمعا الأَذان أو لم تلزمهما صح ويستمر التحريم من الأَذان الأَول على الصحيح.
وقال الزهرى: من الأَذان الثانى وقيل من أول وقت الزوال الذى هو أول وقت الصلاة ولو قبل أن يؤذن والأَذان إِنما هو لأَول الوقت، وهو قول الحسن ولا يحرم البيع على من لا تلزمه كما مر خلافا لما روى عبد الرحمن بن القاسم أن أباه القاسم دخل على أهله وعندهم عطاء يبايعونه وذهب ووجد الإِمام قد فرغ من الصلاة فرجع إِليهم فقال لهم: البيع منتقض، قلت: لعله انتقض لأَن البائع قد لزمته الجمعة ولو لم تلزم النساء والخدم والأَطفال من أهله.
{ ذَلِكُمْ } ذلكم المذكور من السعى إِلى ذكر الله وترك البيع { خَيْرٌ لَّكُمْ } فى دنياكم وأُخراكم من مصالح الدنيا، فإِن خير الآخرة أعظم فى نفسه وأكثر أفرادا وأبقى وكثيرا ما يفضل الفرض على المباح وعلى المحرم فلا يقال لما علم التفضيل على الأَمر الدنيوى علمنا أن الأَمر للندب { إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } تعرفون حقيقة الخير والشر، أو إِن كنتم من أهل العلم على تنزيل المتعدى منزلة اللازم علمتم خيرية السعى وترك البيع، ومن خيريتهما عن أبى بردة أن وقت الإِجابة وقت قيام الإِمام فى الصلاة حتى يسلم.
وقال الحسن: وقت الإِجابة وقت زوال الشمس. وقال الشعبى: وقت تكبير الإِمام تكبير الإِحرام إِلى أن يسلم، وعن عائشة وقت الأَذان، وعن كثير بن عبد الله المزينى: وقت إِقامة الصلاة إِلى التسليم، وعن أبى أُمامة: إِذا أذن المؤذن أو جلس الإِمام على المنبر أو عند الإِقامة، وعن مجاهد: بعد العصر، وشهر إِخفاؤها.
{ فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاَةُ } أتمت وفرغ منها { فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ } إِباحة للانتشار بعد ما منعوا منه بالحشر إِلى الصلاة، لا إِيجاب لجواز البقاء فى المسجد بعد الصلاة، ولا ندب إِجماعا فيما قيل وليس كذلك، أعنى لا إِجماع فقد قال السرخسى إِن بعضا قال بوجوب الانتشار وإِن بعضا قال بالندب. قلت: وجههما أن فى الخروج من المسجد زيادة بيان إِقامة الجمعة، قال عبد الله بن بسر الحرانى: رأيت عبد الله بن بسر المازنى صاحب النبى - صلى الله عليه وسلم - إِذا صلى الجمعة خرج فدار فى السوق ساعة ثم رجع إِلى المسجد فصلى ما شاء الله تعالى أن يصلى فقيل له: لماذا تفعل ذلك؟ فقال: لأَنى رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك، وتلا الآية. قال سعيد بن جبير لابن المنذر: إِذا فرغت من صلاة يوم الجمعة فاخرج إِلى باب المسجد فساوم الشئ وإِن كنت لا تشتريه وارجع إِلى المسجد فالخروج مندوب إِليه، كما روى أيضا عن سعيد بن جبير وهو ظاهر الآية وموافق للسنة والأَثر، وهو أنسب بقوله تعالى: واذكروا الله كثيرا، أى ذكرا كثيرا قبل الصلاة وبعدها ولا تقتصروا على الصلاة، ولا ذكر حال الخطبة إِلا للاستمتاع لها.
{ وَابْتَغُوا } اطلبوا { مِنْ فَضْلِ اللهِ } إِباحة للبيع بعد المنع عنه فالمراد بفضل الله فضله الدنيوى، وعن الحسن المراد طلب العلم. وعن ابن عباس: لم يؤمروا بطلب شئ من الدنيا إِنما هو عيادة مريض، وحضور جنازة وزيارة أخ فى الله تعالى. وكذا روى عن أنس عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومراده - صلى الله عليه وسلم - ومراد الحسن وابن عباس التمثيل بما ذكر من العبادة وشهر أن الأَمر بعد النهى للإِباحة ولا يتعين هذا إِلا أنه - صلى الله عليه وسلم - فسره بالعبادة، لا بإِباحة ما نهى عنه من البيع لكن لا مانع من تفسير البيع بمطلق الشاغل عن السعى إِلى الجمعة ولو كان الشاغل عبادة، كما أطلق الأَكل على مطلق الإِتلاف فيكون قوله تعالى: وابتغوا، لإِباحة سائر العبادات بعدما نهوا عنها بعد الأَذان وإِباحة سائر المباحات.
{ وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } تفوزون بثواب الذكر الكثير فى الدنيا والآخرة وبثواب سائر الأَعمال الصالحة. قال البخارى ومسلم والترمذى عن جابر بن عبد الله: بينما النبى - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة قائما إِذ قدمت عير المدينة، فابتدرها أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى لم يبق منهم إِلا اثنا عشر رجلا أنا فيهم وأبو بكر وعمر فأَنزل الله تعالى { وَإِذَا رَأوْا تِجَارَةً أوْ لَهْوًا انفَضُّوا إِلَيْهَا } إِلى آخر السورة، وفى بقاء اثنى عشر وهو واقعة حال مناسبة لقول من قال: تتم الجمعة باثنى عشر لكن ليس فى هذا دليل على أن أقل منها لا يجزى، وفى رواية ابن عباس: بقى فى المسجد اثنا عشر رجلا وسبع نسوة، وقيل: إِلا اثنا عشر رجلا وامرأة وفيهم عمر وأبو بكر فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:
"لو خرجوا كلهم لاضطرم المسجد عليهم ناراً" .
وعن قتادة: لو اتبع آخركم أولكم لالتهب الوادى عليكم نارا وقيل: لم يبق إِلا أحد عشر رجلا قال غالب بن عطية فيما رواه قومنا: هم العشرة المبشرون بالجنة وعمار. وفى رواية العشرة المبشرة وابن مسعود، وفى رواية ذكر جابر بن عبد الله وبلال، وفى رواية ذكر بلال وابن مسعود دون جابر. وقيل: لم يبق إِلا ثمانية وقيل: بقى أربعون. ومعنى اضطرام المسجد عليهم نارا اضطرامه لأَجلهم نارا وكذا اضطرام الوادى فعلى للتعليل وذلك دليل سوء إِذ هدم المسجد لأَجلهم نارا ولم يقبل بناءه عنهم، وإِذ اضطرم بطن واديهم نارا انتقاما أو يحرقهم الله فى الوادى أو يردهم الله عز وجل إِلى المسجد فيحرقه عليهم عقابا، فتكون على للاستعلاء وذلك أنه أصاب أهل المدينة جوع وغلاء وخرجوا للعير وهى لعبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه تحمل طعاما وقيل لدحية بن خلف الكلبى، وكان أهله يتلقونه بالدفوف إِذا قدم وتخرج إِليه العواتق ويضرب الدف ليحضروا للشراء منه إِذ يقدم بزيت ودقيق وغيرهما وينزل عند أحجار الزيت بالمدينة وهو مكان فى سوق المدينة، وفى هذه الرواية أنه - صلى الله عليه وسلم - يقدم الصلاة على الخطبة وقد صلى وجاء رجل يقول إِن دحية قد قدم فخرجوا يظنون أنه لا يجب الاستماع للخطبة وقد صلوا الجمعة، وبعد ذلك كان يقدم الخطبة وهذا غير معروف، والمعروف أنه لم يقدم الصلاة عليها قط وإِنما يقدم الصلاة فى العيدين والانفضاض الافتراق والضمير فى إِليها للتجارة وخصها بالإِضمار لأَنها المقصودة بالذات واللهو تابع لها كما مر أنهم يستقبلون دحية إِذا قدم بالتجارة بالدفوف وهذا إِنما يناسب قدومه لا قدوم عير عبد الرحمن بن عوف اللهم إِلا أن يكون تستقبل بالدفوف أيضا أو بغيرها، أو يقال بالحذف تقديره أو إِليه بأَن ينفضوا تارة للتجارة وتارة للهو بلا تجارة وإِنما لا يحتاج إِلى تقدير بعد أو إِذا صلح المذكور لهما على البدلية نحو زيد أو عمرو قائم، فإِن لفظ قائم لائق بكل وأما إِذا لم يصلح لهما فلا بد من التقدير مثل ما هنا، فإِن لفظ إِليها لا يصلح للهو ويجوز قيل رد الضمير إِلى الرؤية المأخوذة من رأَوا على حذف مضاف أى إِلى مرآها أو إِلى مطلوبها وذلك خلاف الظاهر ويجوز تأويل التجارة واللهو بالخصلة أو بنحو ذلك من المفردات المؤنثة، فيصلح رد الضمير إِليها شاملة لهما شمولا بدليا قدم التجارة لأَنها الغرض الأَهم لهم، وأما اللهو فتابع كما علمت وأُخرت فى التفضيل بعد لتقع النفس أولا على ما هو أذم ومحرم مطلقا ولو فى غير صلاة الجمعة { وَتَرَكُوكَ قَائِمًا } على المنبر وكان الواجب أن يمكثوا حتى تتم الخطبة ويصلوا فبعد ذلك لست قائماً على المنبر والآية دليل على أن الخطيب يكون على المنبر قائما لا قاعدا، وأول من قعد فيه معاوية وذلك لعجزه عن القيام، وسئل ابن مسعود وابن سيرين وأبو عبيدة: هل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب قائما، فقالوا أما تقرأ وتركوك قائما. وكان عبد الرحمن ابن الحكم يخطب قاعدا فدخل كعب بن عجرة فقال انظروا إِلى هذا الخبيث يخطب قاعدا وقد قال الله تعالى: وتركوك قائما. وقال أبو حنيفة لا يشترط قيام ولا قعود وكذا قال أحمد وقيل أول من استراح فى الخطبة عثمان، والمراد استراحة غير الجلسة التى رويت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يخطب خطبتين يجلس بينهما. رواه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى وابن ماجه عن ابن عمر وكذا أبو بكر وعمر لهما جلسة بين الخطبتين، وظاهر قوله تعالى: وإِذا رأوا تجارة إِلخ أنهم فعلوا ذلك مرارا.
روى البيهقى عن مقاتل أنهم فعلوه ثلاث مرات. قلت: لا يصح ذلك ولا دليل عليه ولم يتبين ذلك ولو كان لبين. بل كثيرا ما يذكر الله تعالى ما وقع أو يقع مرة واحدة بلفظ يفيد التكرير وبيان ذلك أنه من فتح باب فعل ففتحه فتح للتعدد ولو لم يتعدد، وإِذا افترق الناس عن الإِمام وبقى معه اثنان أتمها جمعة اعتبارا لبقاء حكم المبدأ للآخر، ولما صحت أولا انسحبت الصحة للآخر وقيل إِن بقى معه ثلاثة، وقيل إِن بقى أربعون والجامع أنه إِن بقى معه قدر ما تتم به وتجب على الأَقوال السابقة فى أقل ما تنعقد به فيتمها جمعة، وإِن بقى أقل نقضها واستأنفها أربع ركعات، فقيل إِذا خرج على قدر ما يجزى ولو نقضوا قبل قراءة الفاتحة، وقيل إِن أتموا معه ركعة وقيل إِن ركعوا وقيل إِن قعدوا فى التحيات بعض قعود. وقيل إِن أتموا التحيات، وقيل إِن وصلوا الطيبات وقيل إِن سلموا، وبعض هذه الأَقوال مستخرجة.
{ قُلْ مَا عِنْدَ اللهِ } من الثواب على استماع الخطبة والصلاة فى الدنيا والآخرة. { خَيْرٌ مِّنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ } اعتبر ما تحصل للنفس من منفعة دنيوية مضمحلة من اللهو وما تحصل من منفعة التجارة، فحصل التفضيل وقدم اللهو لأَنه أقوى مذمة، والمقام لذم من اشتغل به عن العبادة وهو محرم فى الجمعة وغيرها، ولا يقال قدم لأَنه تخلية لأَنا نقول لا تحلية بعده، لأَن التجارة لا تتصف بها هنا، لأَنها فى مقام ذم القاصد إِليها، وأُعيدت (من) لتأكيد أن كلا مستقبل بالذم، ولبعد اللهو عن التجارة فى المعنى { وَاللهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ } فاسعوا إِليه فى طلب الرزق يرزقكم واسعوا إِليه بالطاعة يكفيكم مؤونة الرزق والله أعلم.