التفاسير

< >
عرض

يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٥
ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِٱلْبَيِّنَاتِ فَقَالُوۤاْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ وَّٱسْتَغْنَىٰ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ
٦
زَعَمَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بَلَىٰ وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى ٱللَّهِ يَسِيرٌ
٧
فَآمِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ وَٱلنّورِ ٱلَّذِيۤ أَنزَلْنَا وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٨
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ ٱلْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ ٱلتَّغَابُنِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٩
وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَٰتِنَآ أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَٰبُ ٱلنَّارِ خَٰلِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ
١٠
مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَمَن يُؤْمِن بِٱللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
١١
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٢
ٱللَّهُ لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى ٱللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ ٱلْمُؤْمِنُونَ
١٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَٱحْذَرُوهُمْ وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
١٤
إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَٱللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
١٥
فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ وَٱسْمَعُواْ وَأَطِيعُواْ وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ
١٦
إِن تُقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ
١٧
عَالِمُ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ ٱلْعَزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
١٨
-التغابن

تيسير التفسير

{ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ } جزئياً وكلياً وجسماً وعرضاً وحاضراً ومضموناً { وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ } يسر بعضكم لبعض أو تسرون فى أنفسكم { وَمَا تُعْلِنُونَ } يظهر بعضكم لبعض { واللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ } اعتراض فى آخر الكلام مقرر لما قبله من علمه تعالى بسرهم وعلنهم فإِذا علم ما فى الصدور فأَولى أن يعلم ما خرج عنه وسرا، وعلم هذا لبادى الرأى وكل ذلك عند الله فى نفس الأَمر سواء، { أَلَمْ يَأْتِكُمْ } أجهلتم ولم يأْتكم يا أيها الكفرة مطلقاً أو كفار مكة { نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ } قبلكم كقوم نوح وعاد وثمود ونمروذ وقومه وفرعون وقومه { فَذَاقُوا } لكفرهم كما دلت عليه الفاء فإِنها للسببية ومطلق الترتيب لا باتصال لأَنهم أمهلوا إِلا أن عد إِهلاكهم فى الدنيا اتصالا إِذ لم يمهلوا للآخرة { وَبَالَ أَمْرِهِمْ } ضرر شأنهم الذى هو الكفر وعبر عن كفرهم بأَمرهم إِشعاراً بأَنه جناية عظيمة تقول فعل زيد أمراً إذا أردت تهويل فعله ومادة وبل الثقل والشدة كما يسمى الطعام الثقيل على المعدة وبيلا { وَلَهُمْ } فى الآخرة { عَذَابٌ أَلِيمٌ } لا يعرف قدر عظمه إِلا الله أسند الأَلم إِلى العذاب مبالغة كأَنه متوجع أو هو من الثلاثى بمعنى الرباعى أى مؤلم كنذير بمعنى منذر وجليس بمعنى مجالس، { ذَلِكَ } المذكور من ذوق العذاب فى الدنيا وثبوت العذاب الأَليم فى الآخرة { بِأَنَّهُ } بسبب أن الشأن { كَانَت } أى هى رسلهم على التنازع واعمل الثانى وهو تأْتى من قوله تعالى { تَأْتِيهِمْ } وقوله { رُسُلُهُمْ } فاعل تأتى أو هو اسم كانت ولا ضمير فيه، بل الضمير فى تأْتى على أعمال الأَول { بِالْبَيِّنَاتِ } الدلائل التكوينية والمتلوة { فَقَالُوا } عطف على كانت أو على تأْتيهم وفاعله { أَبَشَرٌ } فاعل لمحذوف أى أيهدينا من باب الاشتغال فى المرفوع كقوله تعالى وإِن أحد، وإِذا السماء لأَن الهمزة أميل إِلى الفعل إِذا وجد إِلا أنه يبقى قوله { يُهْدُونَنَا } بلا استفهام إِلا ما يحصل له من رائحته بالتفسير والذى يظهر أنه مبتدأ والاستفهام ينسحب على الكل وبشر جنس ولذا عاد إِليه واو الجماعة، وإِذا أُريد به واحد أفرد الضمير وإِن نعت نعت بمفرد كما قالت ثمود من هؤلاء المذكورين أبشرا منا واحدا نتبعه { فَكَفَرُوا } بهم أى بالرسل أو بها أو بهن أى الآيات { وَتَوَلَّوا } عن التأَمل فى البينات أو عن الإِيمان بها أو بالرسل { واسْتغْنَى اللهُ } عنهم أو عن كل شئ والأَول أولى ويقدر العموم بعد غنى والجملة حال بلا تقدير لقد أو بتقديرها والفعل على ظاهره والعطف على كفروا وهذا أولى أو الفعل بمعنى أظهر غناه فإِنه غير محتاج إِلى إِيمانهم فلم يزد لهم بينات أخرى بل عجل عذابهم { وَاللهُ غَنِيٌّ } عن كل شئ عنهم وعن غيرهم فى العبادة وغيرها { حَمِيدٌ } أهل للحمد ولو لم يحمده حامد كما فى الأَزل أو يحمده المؤمنون والملائكة والدواب والجمادات وذلك حمد بلسان الحال ولسان القال جمع بين الحقيقة والمجاز أو يحمل على عموم المجاز أو على لسان الحال ولو من الناطق بقطع النظر عن خصوص نطقه.
{ زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أنْ لَّن يُبْعَثُوا } المراد أهل مكة، ومقتضى الظاهر زعمتم بالخطاب مثل: أو لم يأتكم. وأظهر ليصفهم بالكفر الموجب للذم ويدل على أن المراد أهل مكة قوله تعالى: { قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } ومن الجائز التعميم فى الذين كفروا والخطاب بعد لمخصوصين منهم وهم أهل مكة على الغائبين وهم الأمم السابقة وفيه زيادة فائدة والزعم الكذب هنا أو القول الباطل أو قول بلا دليل أو دعوى العلم وذلك كثير وقد يستعمل بمعنى العلم واليقين ويعمل عمل العلم فى أن المشددة أو المخففة منها وما بعدها باعتبار المصدر استغناء عن منصوبين بوجود المسند والمسند إِليه قبل التأويل بالمصدر { وَذَلِكَ } ما ذكر من البعث والجزاء المعبر عنه بالتنبئة { عَلَى اللهِ يَسِيرٌ } لكمال قدرته فلا يتعاصى عنه شئ أراده.
{ فَآمِنُوا } إِذا كان الأَمر كذلك فآمنوا { بِاللهِ } الذى علمتم دلائل وجوده وقدرته وخصوصه بما يوجب الأُلوهية { وَرَسُولِهِ } محمد الذى جاءكم بالآيات من عنده { وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا } أى القرآن الشبيه بالنور الذى يزول به ضرر الظلمة ويبين به غيره كما يبين بالنور غيره والإِيمان به صلى الله عليه وسلم يكفى عن ذكر القرآن لكن ذكر للتنصيص عليه بذاته لا بمجرد التبع له - صلى الله عليه وسلم - ولئلا يتوهم متوهم أنه رسول كتابه الإِنجيل أو التوراة أو لا كتاب له وكذلك إِذا علمنا أنه رسول الله فقد علمنا أن ما جاء به حق وهو القرآن وسائر الوحى ولكن نزيد وأن ما جاء به حق لننطق بما فى هذه الآية كلها وعدل عن مقتضى الظاهر وهو أنزل بالبناء للفاعل أى الله إِلى أنزلنا تعظيماً للقرآن بصيغة عظمة الله تعالى { وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ } من طاعة ومعصية وإِيمان أو كفر { خَبِيرٌ } عالم بظاهره وباطنه.
{ يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ } متعلق بخبير لأَنه نائب عن مجازيكم بما عملتم من خير أو شر أو يتنبأُون { لِيَوْمِ الْجَمْعِ } لام التوقيت أو بمعنى فى وقد تفسر لام التوقيت بفى، وادعى بعض أنها للتعليل على تقدير مضاف أى لأَجل حساب يوم الجمع وهو يوم القيامة سمى لأَنه يجمع فيه الأَولون والآخرون وقيل الملائكة والثقلان وقيل الظالمون والمظلومون وقيل المطيعون والعاصون وقيل المؤمنون والكافرون { ذَلِكَ } أى يوم الجمع { يَوْمُ التَّغَابُنِ } سمى يوم القيامة يوم التغابن لظهور غبن بعض الناس لبعض كالتغابن فى نحو البيع قال الله تعالى:
{ { اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة } [البقرة: 175] وقال تعالى: { { هل أدلكم على تجارة تنجيكم } [الصف: 10] الخ وقال { { إِن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأَن لهم الجنة } [التوبة: 111] فربحت صفقة المؤمن وخسرت صفقة الكافر، فالمظلوم يغبن الظالم والسعيد يغبن الشقى وليس التفاعل على بابه لأَن الغبن من جانب واحد وهو جانب المظلوم والسعيد والمظلوم مغبون فى الدنيا غابن فى الآخرة، اللهم إِلا أن يسمى حال الشقى والظالم غبنا أيضاً تهكماً بهما أو مشاكلة معنوية لا لفظية إِذ لم يذكر الجانبان ذلك بأَنه يسمى جزاء الظالم والشقى غبنا وذلك أن المظلوم يأخذ حسنات الظالم وما من سعيد إِلا له مقام فى النار يخلفه فيه الشقى وما من شقى إِلا له أهل ومنازل فى الجنة يخلفه فيها السعيد، فعنه - صلى الله عليه وسلم - ما من عبد يدخل الجنة إِلا أرى مقعده من النار، لو أساءَ ليزداد شكراً، وما من عبد يدخل النار إلا أريَ مقعده من الجنة لو أحسن ليزداد حسرة { وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا } فالإِيمان بلا عمل لا يجزى من عليه العمل بخلاف ما لو آمن إِنسان ومات قبل وجوب الفرائض عليه أو اختل عقله أو جن أو بلغ مجنوناً أو عاقلا وجن أو اختل قبل لزوم فرض أو مات تائباً آخر عمره ولم يعمل فإِن له الجنة { يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ } الصغائر والكبائر لتوبته.
{ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا } حال مقدرة والجمع باعتبار معنى مَنْ، كما أن الإِفراد فى يؤمن ويعمل والهاء باعتبار لفظها { أبَدًا } لا تفنى ولا يخرجون منها. { ذَلِكَ } ما ذكر من تكفير السيئات وإِدخال الجنات أى نيل ذلك { الفَوْزُ العَظِيمُ } أو نفس ذلك هو المفوز به العظيم.
{ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ } هى والآيتان مفسرتان للتغابن على جهة مطلق الإِخبار لا بصورة التفريع وخالدين حال مقدرة على معنى يصاحبونها والمصير اسم مكان أو مصدر أى بئس المصير. { مَا أصَابَ } أحد { مِن } صلة فى الفاعل { مُصِيبَةٍ } مضرة أصله اسم فاعل أصاب تغلبت عليه الاسمية حتى لا ضمير فيه مستتر وأصله فى الخير والشر وتغلب استعماله فى الشر وأجاز بعض أن يراد بها فى الآية الخير والشر لورودها فى الخير، كما وردت فى الشر. ومعنى الإِصابة اللحوق مطلقاً وزعم بعض أنها فى الخير من صوب المطر، وفى الشر من إِصابة السهم وذلك دعوى لا أسمعها، وحملها على السوء أولى وذلك مثل ما يصيب العبد فى بدنه أو عقله أو عرضه أو ماله أو ولده أو قرابته أو زوجه أو صاحبه أو من يعز عليه أن يصاب.
وفسرها بعض بما يشمل الشرك والمعاصى ويناسبه ورودها بعد جزاء المؤمن والكافر وأى مصيبة أعظم منهما، وهذا فى الموحد العاصى ظاهر، وفى المشرك بعيد لأَنه لا يعد الإِشراك والمعصية مصيبة { إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ } بإِرادته أو قضائه { وَمَن يُؤْمِنْ بِاللهِ } ورسوله والمراد بالإِيمان بالله تعالى الإِيمان بجميع ما يجب الإِيمان به كالرسل والكتب { يَهْدِ قَلْبَهُ } إِلى عدم الجزع بالمعصية وفى ضمن ذلك أن يقول إِنا لله وإِنا إِليه راجعون وإِلى العلم بأنها من الله تعالى وأنها عدل منه عز وجل وإلى الإِيقان بأَن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه.
وعن مجاهد إن ابتلى صبر وإِن أعطى شكر وإِن ظلم غفر. وفسره بعض بشرح الصدر لازدياد الخير والعبادة، وقدر بعض: ومن لم يؤمن بالله لم يهد قلبه { وَاللهُ بِكُلِّ شَىْءٍ عَلِيمٌ } فهو عالم بإِيمان المؤمن فيهدى قلبه { وَأطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ } كرر الطاعة للفرق بين إِطاعة الله عز وجل وإِطاعة رسوله فى الكيفية ولتأَكيد الإِيمان برسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما عظمه بالإِضافة إِلى ضمير العظمة فى قوله عز وجل { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } عن الإِطاعة { فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا البَلاغُ } اسم مصدر أى التبليغ، أو على حذف مضاف، أى حصول البلاغ وما عليه - صلى الله عليه وسلم - إِلا تبليغ الوحى وقد بلغ بما لا مزيد عليه كما قال { الْمُبِينُ } وهو رسول الله تعالى تولوا أو لم يتولوا ولكن أقام العلة مقام الجواب، أى فإِن توليتم فعليكم عقاب التولى، لا عليه لأَنه قد بلغ وما عليه إِلا التبليغ، والحصر إِضافى أى عليه التبليغ لا تباعة توليكم. { اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللهِ } لا على غيره متعلق بما بعده على أن الفاء صلة لم يقل وعليه ليصرح بالأُلوهية الموجبة للتوكل { فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ } وكذا غيرهم وخصهم بالذكر لأَنهم المؤتمرون بالأَمر، ولأَن الإِيمان بأَن الكل منه تعالى يقتضى التوكل، وفى ضمن هذا أن من لم يتوكل لم يؤمن فليس فى الحث على التوكل أعظم من هذه الآية.
{ يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أزْوَاجِكُمْ وَأوْلاَدِكُم عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ } احذروا الأَزواج والأَولاد كلهم لاشتمالهم على العدو ولا تدرون أن الشر من هذا أو هذه أو من ذلك أو تلك ومن لم تظهر عداوته فربما تكون أو تظهر بعد فلا تهلكوا آخرتكم لأَجلهم بالحمية أو بجمع المال الحرام لأَجلهم أو منع الحق منه لأَجلهم أو بمطاوعتهم فى البقاء على الشرك والمعصية أو عدم الهجرة أو عدم طلب العلم وغير ذلك مما لا يجوز أو يجب إرغاد عيشهم ولو بعد موته ولو لم يطلبوه لذلك أو بأَن طاوعهم فى منعه عن الجهاد، وخذوا حذركم وأخذ الحذر واجب ولو من الصديق ومن المتولى إِذ لا يدرى ما يحدث ولا ما بطن ويجوز رد الضمير إِلى العدو من الأَزواج والأَولاد.
قال - صلى الله عليه وسلم -:
"يأتي على الناس زمان يكون فيه هلاك الرجل على يد زوجه وولده يعيرانه بالفقر فيركب مراكب السوء فيهلك" { وَإنْ تَعْفُوا } عما أصابكم من شر عداوتهم فى دينكم أو دنياكم أو فيهما ولا تعاقبوهم { وَتَصْفَحُوا } تعرضوا على الحقد عليهم وعن أن تعيروهم { وَتَغْفِرُوا } تستروا ذلك عن غيرهم ولا تشكوا بهم إِلى أحد والله غفور رحيم عفو أو اصفحوا واغفروا ولو لم يفعلوا ذلك فالجواب محذوف أى يثبكم أو يفعل بكم ما فعلتم معهم مما ذكر نابت عنه علته وهو قوله تعالى { فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أى لأَن الله غفور رحيم وقد قال ابن عباس رضى الله عنهما نزل: يا أيها الذين آمنوا إِن من أزواجكم الخ فى قوم من أهل مكة أسلموا وأرادوا الهجرة فمنعهم أزواجهم وأولادهم فلما هاجروا وجدوا الناس قد فقهوا فى الدين فهموا أن يعاقبوهم على المنع وتفويت الفقه، رواه الترمذى والحاكم والطبرانى وعنه نزلت فى الرجل يريد الهجرة فتحبسه زوجه وولده فيقول أما والله لئن جمعنى الله وإِياكم فى المدينة لأَفعلن ولأَفعلن.
وفى رواية لئن جمعنا الله تعالى فى المدينة لم نصبكم بخير فجمع الله بينهم ومنعوهم الخير، فرجعوا الخير لهم للآية وفى رواية أن عوف ابن مالك الأَشجعى أراد الغزو مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد الهجرة فاجتمع عليه أولاده وزوجه يبكون ويمنعونه فرقَّ لهم ولم يخرج للغزو ثم ندم فهمَّ بمعاقبتهم، ففى الآية أن لا يحقد الرجل على زوجه وولده.
{ إِنَّمَا أمْوَالُكُمْ } قدم الأَموال لأنها أعظم فتنة من الأَولاد. قال الله عز وجل:
{ { كلا إِنَّ الإِنسان ليطغى أنْ رآه استغنى } [العلق: 6 - 7]. قال كعب ابن عياض وعبد الله بن أوفى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لكل أمة فتنة وإِن فتنة أُمتي المال" { وَأوْلاَدُكُمْ }مطلقا ولو لم تظهر منه عداوة ولم تكن فى قلوبهم { فِتْنَةٌ } سبب الافتتان فى الدين أو الاشتغال عنه أو الفتنة البلاء والمحنة لترتب الإِثم عليهم وشدائد الدنيا والميل إِليهم طبعى فليتنبه له ولا يسترسل إِليهم وقد فسر بعضهم الفتنة بهم، وإِذا أمكنتكم الهجرة والجهاد فلا يفتنكم عنهما الميل إِلى المال أو الولد ويناسب ما ذكرت من أن الميل إِلى الولد بالطبع ما رواه بريدة أنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فأَقبل الحسن والحسين عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران فنزل - صلى الله عليه وسلم من المنبر فحمل واحداً من جانب وآخر من جانب وصعد المنبر فقال " صدق الله تعالى: إِنما أموالكم وأولادكم فتنة. لما نظرت إِلى هذين الغلامين يمشيان ويعثران لم أصبر أن قطعت كلامي ونزلت إِليهما" . رواه الترمذى والنسائى وأبو داود وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فخرج الحسين إِليه فعثر فى ثوبه فسقط فبكى فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إِليه فتناوله الناس واحد عن واحد حتى وقع فى يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال قاتل الله الشيطان، إِن الولد لفتنة، والذى نفسى بيده ما دريت أنى نزلت عن منبرى. رواه ابن مردويه وانظر بين فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحسن والحسين وبين قتل الحسين بكربلاء ظلماً وقتل الحسن بالسم ظلماً رضى الله عنهما وهما صحابيان صغيران لهما عقل عظيم من صغرهما.
{ وَاللهُ عِندَهُ أجْرٌ عَظِيمٌ } لمن اختار الإِيمان والهجرة والجهاد وأمر الدين عن الأَولاد والأَموال { فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } مصدرية على حذف مضاف أى قدر استطاعتكم أو مصدرية أى ما دمتم مستطيعين أى مدة استطاعتكم ويناسب الأَول ما روى أنه لما نزلت الآية قاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم وكذا اتقوا الله حق تقاته ونسخت بقوله تعالى:
{ { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } [البقرة: 286]. وشهر أنه لما نزل: { { اتقوا الله حق } [آل عمران: 102] تقاته قاموا حتى تورموا وتقرحوا فنسخت بقوله تعالى: { فاتقوا الله ما استطعتم }. والظاهر أنه لا نسخ فى ذلك بل المعنى اتقوا الله حق تقاته بمجرد أداء الفرائض وترك المعاصى وكذا معنى فاتقوا الله ما استطعتم واحذروا فتنة المال والولد { وَاسْمَعُوا } مواعظه { وَأطِيعُوا } لا تخالفوه فى أمره ونهيه. { وَأنفِقُوا } من أموالكم فى وجوه الخير بإِخلاص نفلا وفرضاً أو نفلا وزكاة أقوال والصحيح الأَول { خَيْرًا لأَّنْفُسِكُمْ } تبادر لى أنه خبر لكون فى جواب أمر محذوف أى افعلوا ذلك كله يكن خيرا، أى منفعة لكم أو أفضل من إِمساك الأَموال ومن الأَولاد.
وقال سيبويه مفعول لمحذوف معطوف بعاطف محذوف أى وافعلوا خيراً.
وعن الكسائى مفعول مطلق أى إِنفاقاً خيراً، ويبعد أنه مفعول بمعنى المال.
{ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ } بحلها مع الحرص { فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. إِن تُقْرِضُوا اللهَ } تنفقوا أموالكم فى وجوه الأَجر شبه الإِنفاق فى وجوه الأَجر على قصد التعويض من الله تعالى بإِعطائه أحدا على وجه الرد فذلك استعارة تمثيلية. { قَرْضًا حَسَنًا } بأَن كان من حلال وبإِخلاص وطيب نفس بلا قصد إِلى ما يستحقر من المال شحا { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } درهم واحد بعشرة إِلى سبعمائة فصاعدا.
{ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ببركة الإِنفاق ذنوبكم { وَاللهُ شَكُورٌ } يعوض الجزيل فى القليل والحقير { حَلِيمٌ } لا يعاجل بالعقوبة على الذنوب الكثيرة العظام { عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعِزِيزُ الْحَكِيمُ } مر تفسير ذلك والله الموفق المستعان. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.