التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُواْ ٱلشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَن يَتَّقِ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً
٢
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ ٱللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ ٱللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
٣
-الطلاق

تيسير التفسير

{ فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } بلغن آخر مدة العدة { فَأَمْسِكُوهُنَّ } بالمراجعة بلا صداقٍ أو بعقد نكاح جديد بصداق. { بِمَعْرُوفٍ } مع معروف أو متلبسين بمعروف منكم كترك الحقد، وعدم التعيير وعدم التهديد بطلاق آخر، وحسن عشرة، وإِنفاق حسن، وكذلك من جانبهن، إِلا أن الآية سيقت لمعروف منهم، وعدم قصد التطويل عليها بتطليق آخر فى آخر مدة العدة.
{ أوْ فِارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ } لا بشتم وحقد وإِفشاء مساوئها وذمها وبهتها { وَأشْهِدُوا } أيها المطلقون. { ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنْكُمْ } لا عدلا وامرأتين عدلين وأجازه بعض. والإِشهاد يكون عند المراجعة ولا تصح بدونه، كما لا يصح النكاح إِلا به. وكذا إِن أراد عقد النكاح عليها فى العدة بدل الرجعة لا بد من الإِشهاد من باب أولى، وذلك مذهبنا، وقديم الشافعى، وإِن راجع بلا شهود أو بشاهد واحد ومس حرمت، وفى الجديد، ومذهب الحنفية، والمالكية جواز الرجعة بلا شهود وصح الطلاق بلا إِشهاد، وإِنما يحتاج إِلى الإِشهاد عليه لما يترتب عليه من الأَحكام كدفع أن تدعى هى أو هو ثبوت الزوجية ليرث، وكدفع أن تنكر الرجعة لتتزوج، وزعم بعض عن أئمة من أهل البيت أنه لا يصح الطلاق إِلا بالإِشهاد، ولا يصح ذلك عنهم. { وَأقِيمُوا } أيها الشهود { الشَّهَادَةَ للهِ } أخلصوها لله تعالى لا تكتموها ولا تنقصوا منها ولا تزيدوا فيها، بل أدوها كما أخذتموها، وفى الآية دليل على أن لا قبح فى ترك النداء مع عطف أمرين لمأمورين مع ظهور المراد كما هنا فإِن الأَمر فى { أشهدوا } للمطلقين وفى "أقيموا" للشهود، وكما فى قوله عز وجل:
" { يوسف أعرض.. } " [يوسف: 29] الخ، ولا سيما مع التخالف كما فى الآيتين فإِن أشهدوا وأقيموا ولو توافقا فى الأَمر والجمعية لكن قد ظهر أن الأَول لغير الشهود والثانى للشهود ولو اتفقا بلا ظهور منع أو قبح نحو اضرب واخرج تريد أمر زيد بالضرب وعمرو بالخروج فلا بد أن تقول اضرب يا زيد واخرج يا عمرو.
{ ذَلِكُمُ } إِشارة إِلى ما ذكر من الإِمساك بمعروف أو الفراق بمعروف، وإِقامة الشهادة أو إِلى التطليق للعدة وما بعد ذلك إِلى إِقامة الشهادة، وقيل الإِشارة إِلى إِقامة الشهادة والتعميم أولى لعدم دليل للتخصيص ولأَنه أكثر فائدة وأنسب بقوله "ومن يتق الله" ولعل وجه تخصيصها صعوبة المشى إِلى تأديتها، وهى لازمة الأَداء عليهم فى الفرسخين ولهم الأجرة فيما بعدهما ولو أَغنياء، وفيهما إِن كان أداؤها يشغلها عن الكسب وهم فقراء محتاجون.
{ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ واليَوْمِ الآخِر } أى يؤثر الوعظ فيه، وأما المشرك فكذلك أمر لأَنه مخاطب بالفروع إِلا أنه لا يتأَثر بالوعظ بذلك إِلا أن يشاء الله.
{ وَمَن يَتَّقِ اللهَ } يأتمر بأَوامره وينتهى بنواهيه المذكورة فى هذه السورة وفى غيرها. { يَجْعَلْ لَّهُ مَخْرَجًا } موضع خروج أو زمانه أو نفس الخروج، والأَول أظهر، والخروج فى الوجوه كلها هو من الغموم والمضايق من جهة الأَزواج وغيرها من أُمور الدين والدنيا والآخرة، وعن ابن عباس قرأها النبى - صلى الله عليه وسلم - فقال
" مخرجاً من شبهات الدنيا وغمرات الموت وشدائد الآخرة" . وقيل من يتق الحرام يجعل له مخرجا إِلى الحلال، وقيل من الشدة إِلى الرخاء، وقيل من النَّار إِلى الجنة، وقيل من العقوبة ويرزقه الثواب، وقيل من يتق الله عند المصيبة يجعل له مخرجاً إِلى الجنة والعموم أولى. { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } لا يعتقد فى قلبه، والإِنسان تارة يفعل ما يظن أنه يرزق به فيرزقه الله أولا يرزقه، وقد يفعل ما لا يظن فيه رزقا فيرزق به، ومن ذلك أن يستدين بلا قصد أو بقصد أن يرزق، وعن محمد بن على أنه كان يستدين فقيل له أتستدين ولك كذا وكذا من المال؟ فقال لأَن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "إِنَّ الله تعالى مع المديون حتى يقضي دينه فأحب أن يكون الله معي" . وكذا روى عن عائشة أنها كانت تستدين فقيل لها مالك وللدين؟ فقالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول "من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من الله تعالى عون فأَنا ألتمس من الله تعالى عوناً" ، وكذا روى أنه قال صلى الله عليه وسلم "تعرضوا للرزق فإِن غلب أحدكم فليستدن على الله تعالى ورسوله" ، ولا يخفى أن من استدان على عدم قضاء الدين آكلٌ للسحت، ففى الحديث "من تزوج على نية أن يذهب بالصداق بُعث زانياً، ومن اشترى على نية أن يذهب بالثمن بعث سارقاً" . قال أبو ذر جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو هذه الآية " { ومن يتق الله يجعل له مخرجاً ويرزقه من حيث لا يحتسب } " فجعل يرددها حتى نعست، ثم قال "يا أبا ذر لو أن الناس كلهم عملوا بهذه الآية لكفتهم" رواه أحمد والبيهقى. وعن أبى صالح عن ابن عباس قال عوف بن مالك يا رسول الله ابنى سالم أسره العدو وجزعت أُمه وإِنى محتاج فما تأمرنى قال: " ما أمسى عند آل محمد إِلا مد آمرك وإِياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إِلا بالله" ، فقالت: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها فتغفل العدو فاستاق غنمهم، وعن ابن عباس أربعة آلاف شاة فجاء بها إِلى أبيه، وقيل إِبلاً وقيل مائة من الإِبل غفل العدو عنها فنزلت "ومن يتق الله"... الآية. وقد كانوا شدوه بالقيد فسقط القيد عنه أى ببركة مقولة أبويه، فوجد ناقة لهم فركبها ووجد سرحا لهم أى غنما، وفى بعض الروايات ساق أعنزاً لهم فصاح بها فسارت كلها فساق ذلك حتى نادى أبويه بالباب ومعه الناقة والغنم فنزلت الآية، وقال لك ما جئت به.
{ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } فى الحديث القدسى
"إِني أجعل المخرج للمتوكل ولو كادته السماوات والأَرض" ويعجبنى قول بعض:

هواى له فرض تعطف أو جفا ومنهله عذب تكدر أم صفا
وكلت إِلى المعشوق أمرى كله فإِن شاء أحيانى وإِن شاء أتلفا

وقول بعض من رضى بالله تعالى وكيلا وجد إِلى كل خير سبيلا. { إِنَّ اللهَ بَالِغُ أمْرِهِ } ما أراده، ولا يفوته. { قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَىْءٍ قَدْرًا } أى تقديراً قبل وجوده فهو اسم مصدر، وقيل مقداراً من الزمان والقلة والكثرة وسائر الأَحوال، وهذا بيان لوجود التوكل لأنه إِذا كان لكل شئ من الرزق وغيره مقدار أو تقدير لا يتخلف لم يبق إِلا التسليم له، قلت:

كم عاقل عاقـل يجــدّ مفتقــر ومرغدِ العيش أبله به الكسل
هو الذى صير الأَلباب موقنة بقـدر الله إِذ لــم تُفِــدِ الحيــل

ومعنى به الكسل فيه الكسل أو معه الكسل، وقال العضد:

كم عاقل عاقل قــد كــان ذا عســر وجاهل جاهل قد كان ذا يســر
تحير الناس فى هذا فقلت لهم هذا الذى أوجب الإِيمان بالقدر

وقال بعض:

كم من أديــب منهــم عقلــــه مستكمل العقــل مقــل عــديـــم
ومن جهــول مكثــر مالـــه ذلـك تقــديــر العـزيـــز العليــم

ولا يُقرأ الشطر الأَخير قراءة الشعر لأَنه من القرآن العزيز.